أبرز ما يميز "أدب الحصار" في العراق، ظهور أصوات شعرية نسوية جديدة وتدعيم حضور اخرى، تعكس محاولة "نقل الواقع الى الأدب من زاوية امرأة" وتسعى الى الاجابة عن السؤال: "ماذا صنع الشعراء بما حصل لبلادهم"؟ واذا كانت الشاعرة ريم قيس كبة سبقت الشاعرتين داليا رياض ونجاة عبدالله في كتابة الشعر ونشره، فهي من جيل الثمانينات، الا ان تجربتها وان ظلت متمنعة عن محاكاة الواقع والتأثر به مباشرة، اتضحت عبر ثلاث مجموعات شعرية في سنوات الحصار لتظهر مقاربة لما تحتاجه نبتة الصبار التي تكتفي بالنزر اليسير من جزئيات الماء وصخر التربة وفداحة الشمس. وشعر ريم قيس كبة أقرب الى "المحافظة" لا في اختيارها شكل قصيدة التفعيلة اذا ما قورن بسعي "تجديدي" ذهب الى شكل قصيدة النثر كما عند الشاعرتين داليا رياض ونجاة عبدالله، بل في لغتها التي جاءت متصلة بقاموس لغوي يمتد من الشعر الجاهلي وصولاً الى نزار قباني. وظلت لغتها ذهنية تأملية مغرقة في "نسوية" تعلي النموذج السمّاني نسبة الى غادة السمان كما في كتابها "نوارس تقترف التحليق"، ومع الحضور الكثيف للغة غابت الوقائع التي تكاد تميز نسيج النصوص في شعر داليا رياض ونجاة عبدالله وحتى كولالة نوري الى حد ما. حضور الوقائع وهي هنا وقائع الحصار في كتابة شعرية هي جواب عن سؤال: كيف تنقل الشاعرة الواقع الى القصيدة ومن وجهة نظر امرأة؟ هو ما بدا الشاغل لداليا رياض التي تقول: "قد استخدم تعبيرات مستقاة من محيط مؤنث، لكن الفكرة أو الثيمة ستبقى دائماً مخلوقاً لا ينتمي الى جنس بحد ذاته". وتذهب الشاعرة نجاة عبدالله الى ايضاح فكرتها عن تجاذبات الواقع - الكتابة وتقول "هناك اشياء كثيرة في واقع اليوم، اكاد افقد وسيلة التخاطب الذهني معها، اذ انها تتعدى مرحلة الألم. والتوظيف الشعري له الى الذهول، وتحيك خيوطاً لحزن متقدم يعبث بشاربيه على كرسي متحرك ابداً". وحين تؤكد نجاة عبدالله: "هناك شواخص ترتدي جسد الدموع، تصحبني معها لنصنع دمى بشرية تتزوج هول الفقر آخر المساء. لذا انحاز لسلام روحي واخبز عجينتها التي اخترت طويلاً" فأنها تكتب في نص بعنوان "حصار" مكون من مقاطع قصيرة: "تخرج محلقاً/ بلا عصافير/ انا اخرج/ بلا أجنحة كل صباح" أو في مقطع أخر" هاتف القلب عاطل/ كيف اخبرك بلغة الاسلاك/ ان الفراشات غزت النافذة/ فصار الموعد أخضر". "وقائع الحصار" أفرزت لغة جديدة في النصوص، الى ذلك تلمح عبدالله وتقول إن "ثماراً وحشية في النصوص" وأن "النوارس مغلقة والسفن غارقة" وتدخل وعياً كهذا في نصوصها" يتكلم كثيراً هذا الحائط/دون ان يترك اثاراً/ على صورنا الفوتوغرافية". واتصال النصوص بالوقائع ترى اليه الشاعرة داليا رؤية لا يبدو صعباً اكتشاف عناصر عمقها فهي تقول: "جعلنا الحصار مجموعة افراد تسكن في غرفة واحدة. تقع أعينهم على المناظر ذاتها، يسمعون الشيء ذاته، ويأكلون ويقرأون الأشياء ذاتها، وتراهم. ربما نتيجة لذلك، يكتبون الأشياء ذاتها وبالأسلوب ذاته". هذا "الانتظام الجمعي" في نقل الوقائع ذاتها الى النصوص تراه رياض "عدم تمايز خطيراً، فعندما يحدث نوع من التناغم في الأصوات الأدبية أحس بنشاز كبير، فالأدباء لا يصلحون لتشكيل كورال فكري". وعي كهذا أبعد داليا رياض عن الاستجابات المتشابهة ل "وقائع الحصار" ومن هنا كانت نصوصها مختلفة: "كنت احاول خياطة جراحه/ بشعر أعتنى به حب عظيم/ كأي مرض عظيم../ أصبح جلدي مكاناً/ أسكن فيه/ كنت داخل جلدي الثابت مثل بيت / استدير بزاوية مخالفة/ مثل المساجد/ أو مثل دوار الشمس/ وجهتي غريبة عن وجهة جلدي/ كأني انسان يتحرك داخل تمثال من البرونز اكبر منه قليلاً". لا تقرأ داليا رياض المشهد الأدبي العراقي من جهة وثائقه المعلنة بل المخبأة: "اروع ما كتب ويكتب لا زال محض مخطوطات" ولذا تعتبره "مشهداً ناقصاً ومزيفاً ومغيباً" اضافة الى كونه مشطوراً الى نصفين: "ادب مكتوب خارج العراق/ أدب المنفى" و"أدب داخل العراق" الأدب المحاصر". وليس بعيداً من جملتها المجروحة: "الحصار دودة تأكل اعمارنا واحلامنا". يأتي نصها "ثمرة تخاف من موسمها": "هناك من يقتلنا/ ويموت قبلنا/ ولكنه يعود مثل الزومبي/ أني رميم عظام. أحيا الله فيها البراءة/ وبث في تمردها/ طاعة العباد للخالق/ ... لو قبل الله رجائي/ لخلط براءة عظامي ببعض الزرنيخ/ لأنه يحب قرقشة عظامي المعتقة/ ولا يأكل الاّ أطباق البارحة/ يا ربي... قليلاً من الزرنيخ". الشاعرة كولالة نوري تكتب بالعربية والكردية غير مأسورة في ايجاد "اطار نظري" لنقل وقائع الحصار الى نصوصها، ولا تنشغل كثيراً في اقامة تمثلات شعرية لتلك الوقائع، فنصوصها كيان قائم بذاته، هذا لا يعني انها "نجت" من الحضور الضاغط لأيام الحصار السود وظلت "وجهة نظر امرأة" حاضرة في نصوص مجموعتها "لحظة ينام الدولفين" فتكتب: "في الخريف ترى جبّاً قبالتك يقول:/ "وداع الخير" يا امرأة/ والهة تقتضي بسرقة القمر لنوره من الشمس/ رغم كل ذاك../ الخريف مهرب حاذق للدموع".