امسك وزير الخارجية السوري السيد فاروق الشرع ملف الشؤون الخارجية مدة عشرين سنة من فترة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي برع في سياساته الخارجية لحجز مكان في الشرق الاوسط. وكان الشرع انتقل في العام 1984 من منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية الى وزيراً للخارجية، ولا يزال يتولى المهام نفسها، وهو مرشح لنيل منصب اعلى وفوزه بمقعد في القيادة القطرية لحزب "البعث" الحاكم. ونال الوزير الشرع "ثقة" الرئيس الراحل وبنى علاقة جيدة مع العقيد الركن الدكتور بشّار الاسد المرشح لرئاسة الجمهورية. هنا نص كان كتبه الوزير الشرع عن الرئيس الاسد قبل رحيله، حصلت "الحياة" على موافقة الوزير لنشره: "لا انطلق كمحاضر اكاديمي يقرأ من نص مكتوب، بل اقول بوضوح ما اشعر به بصفتي وزيراً لخارجية سورية التي يرسم سياستها باقتدار وكفاءة ومهارة عالية ورؤية استراتيجية عزّ نظيرها، انه الرئيس القائد الراحل حافظ الاسد. ولا ارى داعياً لأن اخوض كثيراً في الماضي وانما سأركز على محطات هامة في تاريخ سورية الحديث، هذه المحطات التي يمكن ان تُلقي ضوءاً على مستقبل يساعدنا جميعاً في التطلّع اليه بتفاؤل رغم كل الظروف الصعبة ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها امتنا، وهي تحديات ازدادت شراسة ولؤماً بعد التحولات العالمية الكبرى التي برزت الى الوجود منذ عقد من الزمن. سورية بلدٌ ليس اكبر البلدان العربية لا مساحة ولا سكاناً، وحتى عندما كانت مساحتها معقولة في مطلع هذا القرن قُسّمت باتفاقية سايكس - بيكو عام 1916 الى اربع دول، وسُلخت عنها اجزاء كثيرة ايضاً لا اجد داعياً لتفصيلها، ولعل سورية هي البلد العربي الوحيد الذي قُسّم سواء في المشرق العربي او في المغرب العربي، ويكفي ان أذكّركم بوحدات سياسية تحققت خلال القرن العشرين بين اجزاء من الوطن العربي. فقبل 100 عام توحّد القسم الاكبر من الجزيرة العربية ليصبح المملكة العربية السعودية، وفي مطلع السبعينات توحّدت مشيخات سبع دول في دولة واحدة وهي دولة الامارات العربية المتحدة. وفي منتصف التسعينات توحّدت اليمن وصمدت على رغم ما تعرضت له هذه الوحدة من انتكاسة دموية. أقول لحسن الحظ ان هذه الدول التي أتيت على ذكرها توحّدت، ولسوء الحظ ان سورية قُسّمت بمؤامرة استعمارية انكليزية - فرنسية، كان هدفها الرئيسي تهيئة المناخ لإقامة دولة يهودية في فلسطين. وبالفعل ظهر وعد بلفور في عام 1917 مباشرة بعد توقيع سايكس - بيكو الانكليزية - الفرنسية. سورية ايضاً ليست أغنى بلد عربي وكلنا نعلم ذلك. وهذا يزيد اعبائها. سورية في الخط الامامي في مواجهة اسرائيل التي تتجاوز موازنة دفاعها موازنة سورية كلها، وهذه حقيقة، ومع ذلك اقول انهم بين الحين والآخر يقولون ان سورية تتسلّح وتتزوّد بالدبابات والصواريخ، علماً ان ما تتزوّد به اسرائيل سنوياً من انواع السلاح التقليدي وغير التقليدي يشكّل عشرة اضعاف ما تتزوّد به سورية، وعلماً ان اسرائيل يأتيها الكثير من السلاح مجاناً، واذا دفعت جزءاً يسيراً من ثمنه فالجزء الاكبر تدفعه الولاياتالمتحدة الاميركية الحليف الاستراتيجي لاسرائيل. بل ان اسرائيل تصنع مختلف انواع السلاح وتصدّر قسماً منه الى بعض دول العالم بمساعدة هذا الحليف. وزاد الامر سوءاً ان سورية - بعد تقسيمها - مُنعت ان تقيم علاقات طيبة وطبيعية مع جيرانها بضغوط خارجية فُرضت على تلك البلدان. سورية كانت وما زالت تريد علاقات جيدة مع الاردن وفي فترة معينة، في اواسط السبعينات، تقاربنا مع الاردن جداً، لكن لم تستمر تلك الفترة طويلاً. لقد كانت فترات التوتر بين البلدين هي الاطول في تاريخ العلاقات السورية - الاردنية. ومع العراق حدث الشيء ذاته وكنا دوماً المبادرين لقناعتنا بأن العراق يشكل عمقاً استراتيجياً، لكن العراق أُبعد عن سورية بأساليب وضغوط ودسائس شتى. واصبح مجرد التفكير بالوحدة بين العراق وسورية امراً مستحيلاً واصبح جلّ ما نطمح اليه ان تكون العلاقة بين البلدين الجارين عادية وطبيعية. اما تركيا البلد الجار والمسلم والذي يجمعنا معه الكثير من الروابط التاريخية والثقافية فقد استخدموه عبر صيغ شتى لكي يكون دائماً على خلاف مع سورية. كلنا يتذكر الحشود العسكرية في منتصف الخمسينات بإيعاز ايضاً من دول اجنبية ومن دون مبررات سورية على الاطلاق. وتكرر الامر للاسف في خريف العام الماضي لدرجة اصبحت فيه المجابهة العسكرية بين البلدين الجارين وكأنها امر لا مفر منه لولا حكمة الرئيس حافظ الاسد. اما لبنان فكانوا يريدونه دائماً عدواً لسورية يتآمرون عليه ليتآمر علينا فينالون من عروبته ودوره القومي لينسلخ عن محيطه وكأن ذلك في مصلحته، على رغم ان لبنان هو الذي يحتاج الى سورية اكثر مما تحتاجه سورية، اذا كان الموضوع موضوع حاجة ومصلحة. ولبنان من دون سورية لا نافذة له على الوطن العربي، ظهره الى البحر وجنوبه العدو الاسرائيلي، ومع ذلك مرّت السنون ولم ننجح حتى في تطبيع العلاقات السورية - اللبنانية والسبب معروف وواضح… انه اسرائيل ومن يقف وراءها وامتدادات هؤلاء داخل لبنان. في هذا المناخ الاقليمي المزعج والسيء وفي اطار هذه الجغرافية السياسية المقلقة جداً والمخيفة الى حد كبير جاء الرئيس حافظ الاسد وبدأ التغيير والتصحيح. اولاً، وقبل كل شيء، اعتمد على تقوية سورية داخلياً، الاعتماد على الذات هو الاساس، ولا اريد ان ادخل في تفاصيل ماذا فعل في الداخل لأن الكثير من المحاضرين قد أغنى هذا الموضوع. كان الصراع دائماً على سورية كما يذكر صديقنا باتريك سيل، لكن سورية في عهد الرئيس القائد حافظ الاسد اصبحت عصية على الأخذ من الداخل او الخارج، واصبح الصراع بين الآخرين لكسب صداقتها. وثانياً، وضع السيد الرئيس نصب عينيه ايضاً ان يكون التضامن العربي هو الركيزة المهمة في غياب الوحدة العربية. وعلى رغم ايمانه العميق بالوحدة العربية فانه ادرك في الوقت ذاته الصعوبات البالغة التي تقف امام تحقيقها وحجم القوى الخفية والمعلنة التي تحاربها، فكان لا بد له ان يضع حلم الوحدة في مكانه الصحيح حياً على ارضية التضامن العربي الحقيقي الذي يستطيع على الاقل ان يحفظ المصالح الاساسية لهذه الامة، وينسّق في ما بين دولها المختلفة، ويوحّد رؤيتها من دون تعالٍ او فوقية وبروح عالية من المسؤولية لرصّ الصف العربي في مواجهة اي تحديات آنية او مستقبلية. والهدف الثالث الذي رآه السيد الرئيس كحاجة مهمة للحفاظ على استراتيجية سورية وتمكينها من الدفاع عن قضيتها، قضية العرب المركزية قضية فلسطين، هو البعد الدولي. وكان من الطبيعي ان يجد في الاتحاد السوفياتي ذلك الصديق الذي لا بديل عنه في الساحة الدولية وفي الظروف التي كانت سائدة في ثنائية القطبين وفي ضوء التحالف الاستراتيجي القائم بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. كان الاتحاد السوفياتي هو السند الاساسي والصديق الوفي في الساحة العربية رغم ادراك الرئيس الاسد في اعماقه ان هذه الصداقة لا يمكن ان تصل الى درجة التحالف القائم بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. وفي ضوء هذه الحقيقة التي يعرفها الجميع، فإن السيد الرئيس لم يترك نافذة يطلّ عليها لتعزيز مكانة سورية وتأكيد منعتها وقوتها إلا وأطل منها وفتح حواراً مع كل من يقبل معه بحوار متكافئ نداً للند. وهذه نقطة كانت وما زالت محور اي حوار بين السيد الرئيس واي رئيس او زعيم في اي مكان في العالم. فلم يغلق الباب على الاميركيين… حاورهم والتقى معهم في منتصف الطريق، واحياناً في دمشق. لم يذهب اليهم حيث يريدون… هم جاؤوا اليه. حدث ذلك مع كل الرؤساء الاميركيين تقريباً منذ عهد نيكسون وحتى عهد كلينتون. لقد بدأت هذه اللقاءات مع الاميركيين والاتحاد السوفياتي في ذروة انتصاراته في الساحة الدولية خلافاً لما يتحدث عنه الآن بعض المحللين والصحافيين الاميركيين. كان الاميركيون في فيتنام على شفير هاوية مدحورين والاتحاد السوفياتي يسجل نقاطاً هامة في اكثر من مكان في آسيا وافريقيا والشرق الاوسط. أذكر هذا لأن البعض يعتقد ان العلاقة السورية - الاميركية لم تنشأ الا بعد غياب الاتحاد السوفياتي، وهذا ليس صحيحاً، فلقد حدث اللقاء بين السيد الرئيس حافظ الاسد والرئيس الاميركي الأسبق نيكسون عام 1974 عندما كان الاميركيون يواجهون هزيمة في الخارج وشبه حرب اهلية في الداخل. كان السيد الرئيس يريد لخياراته ان تكون مفتوحة وان تكون النوافذ ايضاً مفتوحة لكل ما من شأنه ان يعزز موقف سورية ويجنّبها المخاطر والمنزلقات. والسيد الرئيس لم ينفك منذ "الحركة التصحيحية" عن تأكيد مسألتين اساسيتين: اولهما التأكيد ان السلام يجب ان يكون عادلاً وشاملاً وان قرارات الاممالمتحدة يجب ان تُنفَّذ من دون نقصان، وثانيهما ان الارض العربية المحتلة يجب ان تعود بكاملها غير منقوصة. ولم يتحدث السيد الرئيس عن السلام فقط عندما جاءت المبادرة الاميركية عام 1991، او عندما عقدنا مؤتمر مدريد، هذا الموقف ظل ثابتاً منذ فجر الحركة التصحيحية وحتى الآن، لم يتغيّر ولم يتراجع. انفرد كثيرون لكنه بقي مؤمناً بالسلام العادل والشامل مدركاً مخاطر الاستفراد الاسرائيلي بأي بلد عربي وتأثير هذا الانفراد على مصالح الامة كلها. ولم ينطلق في ذلك من ضغائن او احقاد او حساسيات، بل انطلق فقط من ان مصلحة الامة تتطلب ان لا نختلف كعرب في ما بيننا وان لا نُستضعف وان لا يأخذوا منا شيئاً ليس من حقهم وان لا يعطونا شيئاً باليد اليسرى ليأخذوه باليد اليمنى. وانطلق السيد الرئيس حافظ الاسد من ايمان عميق بأن لا نساوم على الحقوق والمصير والكرامة، وان لا نقبل بالهيمنة الاسرائيلية ولا بالمشروع الصهيوني مهما كانت الشدائد والصعوبات. والصمود هو العنصر الحاسم في ذلك. كل تلك المواقف التي تبناها السيد الرئيس حافظ الاسد وتجسدها وجسدها على الارض دفاعاً عن قضية فلسطين، دفاعاً عن قضية لبنان دفاعاً عن التضامن العربي قد حققت نتائج مهمة في تلك المسيرة. وحرب تشرين عام 1973 هزّت الكيان الاسرائيلي هزّاً عميقاً وزعزعت هيبته وانتصاره الذي حققه بتواطؤ اميركي في عام 1967. ولم تستطع اسرائيل ان تفاوض سورية في مؤتمر مدريد عام 1991 من موقع انها انتصرت وسورية خسرت، ابداً، لأن غزو اسرائيل للبنان عام 1982 انتهى بهزيمة سياسية كبرى لاسرائيل وبظهور اول مقاومة مسلحة جادة في مواجهة اسرائيل. لقد قدّمت سورية آلاف الشهداء ابان الغزو، وتمكنت من ايقاف اسرائيل ودحرها الى نهر الاولي ثم الى نهر الليطاني بعد ان اجبرتها المقاومة اللبنانية الى النزول من الجبل والشوف الى ما يسمى بالحزام الامني، وللاسف بعض مؤرخينا وكتّابنا يتناسون هذه المرحلة المهمة من تاريخ الصراع بيننا وبين اسرائيل. فلولا ما قدمه الجندي السوري الباسل ابان غزو اسرائيل لتحول لبنان الى محمية اسرائيلية ولفقد هويته العربية وانتماءه القومي. سورية هي التي ساعدت لبنان ووقفت الى جانبه خلال سنوات الحرب وأعادت الى هذا البلد وبالتعاون مع كل قواه الخيّرة والوطنية في ان يكون بلداً مهماً يفخر ابناؤه اليوم أمام كل العالم بأنهم هم الذين الى جانب سورية ردّوا الاحتلال الاسرائيلي. قاوموا وما زالوا يقاومون المحتل الاسرائيلي بشجاعة وتضحيات جسيمة يعززها صمود سورية الى جانبهم بقيادة الرئيس حافظ الاسد. اذا كانت السياسة هي فن الممكن، فان الحفاظ على المبادئ والثوابت في السياسة كاد ان يصبح امراً مستحيلاً بعد التحولات العالمية الكبرى. ومع ذلك تمكن السيد الرئيس حافظ الاسد من الحفاظ على هذه الثوابت برغم الامواج العاتية والتحديات الشرسة والصعوبات البالغة وغياب الحليف الدولي وتردي الوضع العربي. ان السنوات العشر الماضية كانت الأصعب في تاريخ سورية الحديث حيث سقط الكثيرون في اكثر من مكان، اذ يئس الكثيرون هنا وهناك ولم تعد لديهم نفحة من الصمود. وفي خضم ذلك كله صمدت سورية وحافظت على ثوابتها ولم تتراجع رغم كل الضغوط. لقد كان شيئاً من المعجزة الحفاظ على هذه الثوابت من قبل سورية الأسد في ضوء هذه المتغيرات العالمية الكبرى. والآن، ايها السيدات والسادة، أتعرفون لماذا قلنا جميعاً نعم للرئيس حافظ الأسد؟ لأنه قال للهيمنة لا، وللإذعان لا، وللعنصرية لا، وللاستسلام لا، لكننا نقول له نعم، لأنه ايضاً يقول نعم لتحرير الارض واستعادة الحقوق، نعم لتحقيق السلام العادل والشامل ونعم لكرامة سورية والعرب… نعم لحافظ الأسد".