محاكمة الرئيس الاندونيسي السابق الجنرال سوهارتو بدأت ولم تبدأ، وهي تنط مثل قط "بسبع أرواح"! بدأت في عهد خلفه الرئيس حبيبي الذي بادر بتقديم مشروع القانون الشهير "قانون 1999 لمقاومة الرشوة" الى مجلس الشعب الذي صادق عليه شهرين قبل ان يترك حبيبي مكانه لوحيد. فشُرع في المحاكمة، لكن كل الملاحقات ضد سوهارتو تم التخلي عنها لفقدان الحجج الكافية. فالقانون الاندونيسي دقيق من هذه الناحية اذ يشترط في المادة الجنائية ان يتوافر عنصران اساسيان لمواصلة الملاحقة القضائية هما: الحجج والشهود. وغني عن القول في هذه الحال، وخصوصاً اذا اضفنا اليها حال "ثقافة" الرشوة، ان الملاحقة العدلية تصبح من العسر بمكان، فما بالك بتتبع رئيس دولة مثل سوهارتو! على ان السيد داروسمان المدعي العام الحالي اعتبر سوهارتو متورطاً في قضايا رشوة عالقة، لمنظمات وجمعيات اجتماعية خيرية كان أسسها سوهارتو، وتم التصرف بها بطرائق ادت الى اثراء عائلته وبعض اصدقائه. كيف يمكن تجاوز محميات القانون الذي سُنّ لوقاية سوهارتو من الملاحقات القضائية؟ وكيف يحاكم رجل يجمع الاطباء على ان مرضه يجعله لا يحتمل لا التحقيق معه ولا مثوله امام المحكمة؟ في يوم 3 نيسان ابريل الماضي وما بعده كان على سوهارتو ان يجيب عن اسئلة المحققين الذي قصدوا بيته للتحقيق معه، في تهم موجهة اليه. لكن الحصة سرعان ما قطعت بتدخل من الاطباء الذين حضروا التحقيق حول الرئىس. انها قضية صعبة ومهمة اصعب مطروحة على المدعي العام داروسمان. وبين الامكانات التي يتم التفكير فيها لمواصلة الملاحقة اقامة قضايا مشتركة ضد اعضاء من عائلة الرئيس ومن اصدقائه، واصدار احكام فيها تنطبق تلقائياً على سوهارتو نفسه. واذا تم التفكير في هذه الطريقة، لأن لم يبق من الاملاك والمكتسبات باسم سوهارتو الا القليل اذ ان الغالبية حولت الى ابنائه. اول المتهمين من الاصدقاء والاقارب رجل الاعمال بوب حسن الذي بقي، طويلاً مسؤولاً عن ادارة الغابات الاندونيسية واحد شركاء سوهارتو في الغولف. ورفعت عليه حتى الآن قضية تتعلق بصفقة ماثلة في ابرام عقد باسم الدولة قيمته 87 مليون دولار اميركي لانجاز خريطة من الجو لغابات اندونيسيا. هذه القضية على صلة هي الاخرى بالقضية التي بدأ التحقيق بها في شأن المنظمات الخيرية والمتورط فيها سوهارتو. فقد يكون بوب حسن متهماً بأنه تلقى قرضاً بقيمة 150 بليوناً من مؤسسة "درماييس"، احدى تلك المنظمات الخيرية التي يترأسها سوهارتو. ويقال ان هذا المال صرف على ثلاث مقاولات تابعة لبوب حسن او انه وجه الى خزينتها. قضية رشوة اخرى يدور الحديث عليها وهي تهم عائلة سوهارتو وبالذات ابنه الاصغر هوتومو ماندلابوترا المعروف باسم تومي المتورط في قضية غش قيمته 400 مليون دولار متأتية من صناديق مؤسسات التوابل "العود". من هنا يقول الخبراء في القانون الجزائي، حتى اذا لم يكن في وسع سوهارتو المثول امام المحكمة لأسباب صحية، ان الحكم على احد شركائه في الجناية سيطبق عليه تلقائياً. يبدو اذاً ان هذه الطريقة في نظر رجال القضاء هي الفضلى. وقد تعمقت فكراً ودرساً ونضجت، من خلال استكمال الملف. ولكن ينبغي انتظار موافقة مجلس الشعب الذي سيلتئم في آب اغسطس المقبل، والمطروحة عليه، على ما علمت "الحياة" عشر قضايا مهمة اخرى، في مقدمها مسائل دستورية وسياسية في منتهى الاهمية. لا ريب في ان المدعي العام السيد داروسمان على ثقة بالاهمية التي يوليها الرأي العام لقضية سوهارتو. وهو يؤكد في تصريحاته ان مخرجاً ايجابياً لها يعيد الى القضاء هيبته ويولد لدى الرأي العام شعوراً حقيقياً بالعدالة وبقيام سلطة قضائية فاعلة ومستقلة "واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل". طبعاً ان قضية سوهارتو، وان كانت قضية عدلية، لا تزال في انتظار قرار سياسي، ولكن مخرجها النهائي ينبغي ان يحصل نتيجة موقف شرعي. الشروع في حجز الاملاك ومع استئناف الملاحقات في عهد قوسدور، والتي بدأت ثم تجمدت في عهد حبيبي... بدأ حجز الاملاك. من ذلك ان بعض الحسابات المصرفية الجارية باسم "توتوت" سيتي هرديانتي رحمانة الابنة البكر للرئيس سوهارتو، تم تجميدها. من جهة اخرى اعلن الرئيس قوسدور، منذ مطلع هذه السنة، ان حكومته تلقت تطمينات من الحكومة السويسرية للبحث عن اموال عائلة سوهارتو في البنوك السويسرية وحجزها. وان وزير خارجية نيوزيلندا سلم الى الحكومة الاندونيسية قائمة مفصلة بأملاك عائلة سوهارتو في نيوزيلندا. على ان الرئيس سوهارتو ما فتئ يعلن براءته، وفي هذا السياق رفع دعوى على جريدة "تايم ماغازين" التي ادعت في احدى نشراتها ان ثروة عائلة سوهارتو تقدر ب15 بليون دولار. في مقابل هذا يتواصل التحقيق مع بوب حسن، وقد اجاب في بداية ايار مايو الجاري، في استجواب تواصل ست ساعات، عن 61 سؤالاً طرحها عليه التحقيق، ليوقف بعده. وعلى رغم هذا تقوم في اندونيسيا حملة انتقاد وغضب من بطء التحقيق في قضية سوهارتو. شهور عدة مرت ولا شيء تجسم، ما جعل بعض المتندرين ينعتون القضية بأنها مجرد "برنامج تلفزيوني دراماتيكي لكنه مشوق". بينوشيه آخر ويرى بعض الملاحظين ان وضع سوهارتو في الاقامة الجبرية في منزله انما هو اجراء سياسي، الغرض منه ابراز اهتمام الحكومة بقضية لكنه اجراى يخفي في الوقت نفسه القصور الذي وجدت المؤسسة القضائية نفسها مكرهة عليه. وفي صلب هذه التعقيدات تكون اندونيسيا المكان الاكثر امناً في العالم بالنسبة الى الجنرال سوهارتو. فتجربة الجنرال بينوشيه تقدم اليه اكثر من درس وعبرة، لئلا يخاطر بالارتحال الى الخارج، وان كان هذا الاحتمال وارداً للعلاج الطبي. هل يحاكم فعلاً؟ على رغم لهفة الرأي العام الاندونيسي على هذه القضية، لهفة تعبر عنها التظاهرات الصاخبة التي انتظمت في جاكرتا لإحياء ذكرى اطاحة سوهارتو، في ايار مايو 1998 ونادت بمحاكمته وجلده، يتوقع الا تحصل المحاكمة. لماذا؟ لأن محاكمة سوهارتو معناها محاكمة 32 سنة من عهده وإثارة كل القضايا التي حصلت خلالها ولا سيما منها التصفيات الجسدية التي سجلت في جهات تمردت وطالبت بالانفصال عن الجمهورية مثل اتشي وتيمور الشرقية وايريان جايا، حتى ان عدد المفقودين في عهد سوهارتو يرتفع بحسب احصاءات رسمية الى 16 الف شخص اضافة الى ابادة الشيوعيين والمحسوبين عليهم بين العامين 1965 و1966. هل من الممكن ان تراجع اندونيسيا اليوم، ومن طريق القضاء، ثلاثين سنة من تاريخها؟ وهي دولة تواجه مشكلات وقضايا مهمة تنتظر التسوية والعلاج، خصوصاً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، حتى لو كان استرجاع القضاء هيبته وقوته وسلطانه يهم في طمأنة المستثمرين الاجانب ويسهل عودتهم الى اندونيسيا؟ هكذا يتبين ان محاكمة سوهارتو ما زالت مستبعدة خصوصاً في الاوساط السياسية. فالمتعاطفون مع النظام القديم ما زالوا موجودين على الساحة، وحزب "الغولكار" الذي اسسه سوهارتو وكان في عهده وعهد حبيبي الحزب الحاكم، ما زالت له كلمة وصوت في مجلس الشعب والجيش والادارة، وان كانت اصوات تنبثق منه لتأييد محاكمة سوهارتو. ولكن ألم يكن "الغولكار" الحزب الحاكم في عهد سوهارتو استفاد ايضاً من اموال المنظمات الخيرية لدعم حملاته الانتخابية. انها احدى التهم والتورطات. وكما هو الشأن في مثل حالات سوهارتو، وتطبيقاً للمثل الشعبي "لما تسقط البقرة تكثر السكاكين" فإن الجنرال متهم الآن ايضاً بأنه كان عميلاً للاستخبارات الاميركية. هذا اذا كانت تهمة العمالة ل"سي.آي.إي.". ما زالت في عهدنا خطيرة! على ان من المؤكد ان محاكمة سوهارتو لو حصلت لتكسر على محكها كثير من الخزائن المالية الاجنبية والمحلية.