إذا ما استمرت أندونيسيا في تحقيقاتها الراهنة في شأن جرائم العهد السوهارتي البائد، وإذا ما توسعت في فتح جميع ملفاته القذرة واتبعته بمحاكمات حقيقية لكل أصحابها فإنه من المحتمل ان يصبح الجنرال برابوو سوبيانتو 46 عاماً على رأس قائمة المدانين كواحد من أبرز العناصر المسؤولة عن حوادث القتل والاختطاف والتعذيب التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية في الارخبيل الأندونيسي، وبما يقربه كثيراً من صورة ديكتاتور تشيلي السابق بينوشيه. كتب عبدالله المدني: يبدو ان برابوو سوبيانتو قد استشعر الاخطار المحدقة به وبدأ فعلاً البحث عن طوق نجاة يحميه من العاصفة المقبلة، منذ ان وافق الرئيس حبيبي في تموز يوليو المنصرم على تشكيل لجنة خاصة حول أعمال الشغب التي اعقبت مقتل واختفاء عدد من الناشطين المؤيدين للديموقراطية في الربيع الماضي، ثم مثول 11 عسكرياً من مرؤوسيه كمتهمين أمام محكمة عسكرياً مؤخراً، وأخيراً اعلان المحققين العسكريين عدم استبعاد مساءلته شخصياً في القضية، ناهيك عن تواصل تحقيقات المدعي العام الجنرال اندي غالب حول جرائم سوهارتو نفسه. وكان من الطبيعي لشخص مثل سوبيانتو وهو يواجه هذه المحنة من بعد طول سطوة وجبروت ان يسعى الى النفاذ بجلد عبر اللجوء الى دول الغرب التي ترعرع فيها منذ ان كان صبياً يافعاً، إلا ان ما حدث أخيراً لصنوه بينوشيه ربما جعله يفكر ألف مرة قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة ويتجه بالتالي للبحث عن طوق النجاة في مكان آخر. وسرعان ما جاءه هذا الطوق من الأردن في صورة "جنسية شرفية" يمكن ان توفر له على الأرض الأردنية وطناً بديلاً وملجأ آمناً بعيداً عن الملاحقة، بحسب تأكيد مكتب رئيس الحكومة الأردنية في الثاني والعشرين من كانون الأول ديسمبر. وقد يكون للاردن الذي يزوره سوبيانتو حالياً في مهمة وصفت بأنها تتعلق بمصالحه التجارية أسبابه الخاصة في اتخاذ مثل هذا القرار مثل الوفاء لشخص تربطه صداقات قوية بكبار ضباط جيشه، لكن مهما تكن هذه الأسباب فإنه من الصعب تبريرها أمام الرأي العام الاندونيسي الذي يشير صراحة الى مسؤولية الرجل عن الكثير من معاناته. ورغم ان سوبيانتو ادعى رفضه للكرم الأردني السخي، إلا ان هناك من الدلائل ما يفيد العكس. بل ان هناك من يقول انه هو الذي طلب الجنسية وسعى اليها كخيار مضمون الحدوث، ومضمون العواقب أيضاً. فهل يمكن القول اننا سنكون قريباً أمام مشهد يذكرنا بموقف مصر الساداتية من الشاه في محنته والذي لا تزال العلاقات الايرانية-المصرية تدفع ثمنه الى اليوم؟ ربما! ولد سوبيانتو في بداية الخمسينات لأب متخصص في العلوم الاقتصادية والمالية هو سوميترو جوجوها ديكوسومو الذي صار لاحقاً والى ما قبل أشهر قليلة مستشاراً اقتصادياً للرئيس المستقيل سوهارتو. وقضى كل سنوات نشأته الأولى وفترة مراهقته خارج أندونيسيا، في سنغافورة وكوالالمبور وهونغ كونغ أولاً، ثم في لندن وزوريخ تالياً. ولم يكن السبب في ذلك اشتغال الأب في مناصب ديبلوماسية كما قد يتبادر الى الذهن، وانما أمر بالنفي أصدره الرئيس الأسبق أحمد سوكارنو بحق العائلة لأسباب سياسية تتعلق بضلوع الأب في أنشطة استهدفت تقسيم البلاد، كان يقف وراءها عملاء السي.اي.ايه الذين تم طردهم أيضاً بالتزامن. ولم تعد العائلة الى اندونيسيا الا في 1968 وبعد استتباب الأمور كلياً لصالح سوهارتو وانتهاء مرحلة السوكارنية بزعميها وتوجهاتها السياسية والاقتصادية الصاخبة. وكانت أولى العقبات التي واجهها الشاب سوبيانتو وقتذاك صعوبة التكيف مع مجتمعه الاندونيسي، خاصة في ظل عدم إجادته اللغة الوطنية وتندر أقرانه على لسانه المعوج وسلوكه المتغرب. وربما كانت السخرية منه في هذه المرحلة المبكرة من شبابه هي التي حفزته على البحث عن شيء من النفوذ والسلطة الجالب للاحترام وبالتالي دفعته الى الإصرار على الالتحاق بالكلية العسكرية. وهو ما قوبل في بداية الأمر بالاستغراب من قبل عائلته التي لم يعرف عن أفرادها سوى الشغف بالمجال الاقتصادي. فالأب كما أسلفنا خبير في هذا الحقل، وابنه الآخر هاشم من الاسماء المعروفة في قطاعات التجارة وصناعة الاسمنت وتوليد الكهرباء واستخراج الفحم، كما ان ابنتيه متزوجتان من رجلي أعمال مرموقين، أحدهما كان الى وقت قريب يشغل منصب حاكمية مصرف أندونيسيا المركزي. لكن سرعان ما تحول الاستغراب الى الاستحسان لما أدركت العائلة الفوائد الجمة التي من الممكن ان تحققها بانتساب ابنها الى المؤسسة العسكرية. وهكذا انتسب سوبيانتو الى الجيش وفي ذهنه أحلام كثيرة، كانت وقتذاك وبحسب ما أسرّ الى رفاقه المقربين في الكلية العسكرية، ليبرالية المضمون وتنشد تغيير وجه أندونيسيا من داخل النظام القائم لتصبح شيئاً قريباً مما رآه في منفاه البريطاني أو السويسري. إلا ان هذه الليبرالية أخذت مع مرور الوقت تنحسر لديه لصالح رؤية أخرى نقيضة تقوم على ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية أو على النظام القائم باعتباره ضمانة هذه الوحدة بأي ثمن وعدم إظهار اللين أو الرأفة تجاه المعارضين أو من وصفهم سوبيانتو في احدى مقابلاته الصحافية النادرة ب "الارهابيين المتعطشين للسلطة الذين لا يجب الاستماع الى مطالبهم أو التفاوض معهم". إلتحق سوبيانتو بعد تخرجه من كليته الحربية بقوات المهمات الخاصة في الجيش المعروفة باسم "كوباسوس" وهي القوات نفسها التي تزعمها سوهارتو في الستينات واستخدمها جسراً مركزياً للصعود الى السلطة. وتشتهر كوباسوس بتدريباتها الشاقة وجاهزيتها القتالية العالية وشدة بأس منسوبيها الذين ارتفع عددهم خلال السنوات القليلة الماضية من 3000 الى أكثر من 6000 رجل. وبينما كان سوبيانتو يبلي بلاء حسناً في سنواته العملية الأولى في المؤسسة العسكرية ويصعد السلم شيئاً فشيئاً، كان والده ينشط من خلال عمله الاقتصادي في رئاسة الجمهورية وارتباطاته بكبار الضباط المنغمسين في الصفقات المالية الحكومية والاعمال التجارية ليضمن لابنه البكر ترقيات سريعة تقذف به الى الواجهة. إلا ان الأمر لم يكن سهلاً في ظل مؤسسة لها تقاليدها العريقة الصارمة ويسيطر عليها حشد من القادة الكبار من ذوي الطموحات اللامحدودة. وهنا لاحت للأب فكرة اختراق مؤسسة العائلة الحاكمة عبر المصاهرة، فكان زواج سوبيانتو من الابنة الوسطى للجنرال سوهارتو، سيتي هيديجانتي هيريجادي، المعروفة باسم كيكييت. هذا الزواج الذي عدّ بمثابة جواز مرور، ليس لصعود سوبيانتو عسكرياً فحسب، وانما لاحتلاله النفوذين السياسي والاقتصادي بحكم ما تمثله كيكييت كابنة للرئيس وكصاحبة أصول مالية وأعمال تجارية ضخمة قدر مجموعها في 1996 بحوالى نصف بليون دولار. وهكذا فخلال عامين فقط صعد سوبيانتو من رتبة كولونيل الى رتبة ميجور جنرال متخطياً بذلك الكثيرين من أصحاب الأقدمية ومستحقي الترقية ممن تركوا مجمدين كعقداء. ليس هذا فحسب بل ان سوهارتو قرر فجأة في أواسط 1997 تعيينه على رأس قوات كوباسوس وسط ذهول الجميع، ولئن قيل في تبرير القرار أشياء من نوع إقدامه وذكائه، هو الذي أنهى دراساته الاكاديمية والعسكرية في فترة زمنية قياسية، فإن هذه الحيثيات كلها لم تستطع ان تخفض من موجة الحسد والسخط التي انتشرت داخل مؤسسة الجيش. وحينما قام سوهارتو في شباط فبراير الماضي بإجراء تغييرات في قيادات المؤسسة العسكرية العليا، لم ينس الرئيس صهره العزيز. اذ كان من بين أربعة ضباط تمت ترقيتهم الى رتبة جنرال ليصبح سوبيانتو بذلك أصغر جنرال في تاريخ الجيش الاندونيسي. وتزامنت هذه الترقية الجديدة مع تعيينه قائداً للقوات الاستراتيجية الخاصة المعروفة باسم "كوستارد" في ظل قيادة الجيش العليا التي آلت بموجب هذه التغييرات الى الجنرال ويرانتو. ويقال ان هذا الأخير الذي اتسمت علاقاته بسوبيانتو على الدوام بطابع العداء، آلمه ان يجد نفسه في رتبة عسكرية واحدة مع الرجل رغم فارق السن والخبرة، فما كان منه بُعيد سقوط سوهارتو إلا أن أبعده عن الواجهة بتعيينه قائداً للكلية الحربية في باندونغ. إلا أن هناك من يقول ان الإبعاد جاء على خلفية مواقف سوبيانتو المتطرفة حيال الطريقة الواجب اتباعها في التعامل مع الشارع الثائر ضد الحكم السوهارتي، حيث كان من رأي الأخير عدم التساهل وضرب المتظاهرين العزل بقسوة حماية النظام من التصدع. ولما لم يؤخذ برأيه هذا الذي يتفق مع ما هو معروف عنه من مزاج حاد وتهور، ونظراً لتسارع الأمور وتطورها باتجاه تخلي الرئيس عن صلاحياته لنائبه حبيبي، فكر سوبيانتو - كما يقال على نطاق واسع - بالقيام بانقلاب عسكري في العشرين من أيار مايو الماضي، أي قبل يوم واحد على استقالة سوهارتو معتمداً في ذلك على استجابة خليفته في قيادة قوات كوباسوس الجنرال مهدي بورو برانجونو ورئيس الأركان الحالي الجنرال سوباغيو، اللذين اتضح فيما بعد انهما تجاهلا الاجتماع به في حينه خوفاً من النتائج الوخيمة للفكرة. وحتى بعدما تأكدت استقالة سوهارتو وتنصيب حبيبي، حاول سوبيانتو ان يجرب حظه في اعادة عقارب الساعة الى الوراء بدليل ذهابه على رأس قوة ضاربة من رجال "كوستارد" الى منزل الرئيس الجديد لاقناعه بالعدول عن قبول المنصب ونقل السلطة الى الجيش مع اجراء التغييرات المطلوبة في صفوفه. وهكذا فإن من كان بهذه العقلية وهذه الدرجة من الاستماتة للبقاء في السلطة، لا يستبعد ان يكون العقل المدبر وراء اشعال الحرائق واطلاق النار وأعمال الخطف من أجل ان يوفر المبرر لتدخله تحت يافطة حفظ الأمن والسلام، خاصة، وانه بحكم قيادته لقوات كوباسوس أو كوستارد، بإمكانه استعارة خدمات المنظمات الشبابية التابعة لحزب غولكار الحاكم حيث الآلاف من الشباب الانتهازي المدرب على أعمال التخريب والضجيج التي كان نظام سوهارتو يوجهها عند الحاجة نحو خصومه. على ان جرائم سوبيانتو لا تقف عند دوره في أحداث الربيع الماضي أو ما جرى قُبيلها من اطلاق النار على طلبة جامعة تريساكتي وقتل ستة منهم واختطاف العشرات من الشباب المعارض. فلو فتحت ملفات ما قامت به قواته في تيمور الشرقية لربما أصبحنا إزاء أشياء أخطر بكثير.