حين قال بوريس يلتسن ذلك لم يصدق أحد أذنيه. قال كثيرون ان الرجل يخرف، وان المعارض الرقم واحد الذي يقف الآن في وجه ميخائيل غورباتشوف يحلم حلماً مستحيلاً. اذ من ذا الذي كان يمكنه ان يقول في ذلك الزمن، وعلى رغم اي شيء ان ما يطالب به الرجل من استقلال لروسيا عن الاتحاد السوفياتي أمر منطقي أو قابل للتحقق؟ صحيح ان أموراً كثيرة كانت قد انتهت، وان المنظومة الاشتراكية بأسرها كانت قد تدهورت، وان جمهوريات عديدة راحت تترك الاتحاد او هي في طريقها الى تركه. لكن ذلك شيء، ومطالبة زعماء في الجمهورية الروسية السوفياتية، بالانفصال شيء آخر تماماً، شيء هو أقرب الى الخيال السياسي منه الى أي شيء آخر. لكن يلتسن فعلها، وبالتحديد في اليوم الأول من شهر حزيران يونيو 1990، وأعلن بوصفه رئيس جمهورية روسيا، ان هذه الجمهورية انما تعبر بصوته وبصوت قياداتها الاخرى، عن رغبتها في وعزمها على نيل الاستقلال وتحقيق سيادتها الوطنية. بل ان يلتسن وصل في تحديه لغورباتشوف ولزعامة الاتحاد السوفياتي وقيادات الحزب الشيوعي السوفياتي، الى حد تحديد فترة زمنية محددة يتم خلالها الوصول الى ذلك، قال ان استقلال روسيا يجب ان ينجز خلال مئة يوم، تصبح بعدها روسيا جمهورية ذات سيادة، ويصبح في امكانها ان تفرض حضورها، على الساحة الدولية على تلك الشاكلة. طبعاً كان من شأن مثل هذا الكلام في ذلك الحين ان يخيف القيّمين على ما تبقى من الاتحاد، ولكن ليس لأنه قابل للتحقيق فهو في رأيهم مستحيل ولكن لأنه كفيل بإثارة البلبلة في الوضع كله، وتحديداً في تشجيع جمهوريات ومناطق ثانوية وصغيرة على سلوك الدرب نفسه. غير ان الكثيرين كانوا يؤكدون في الوقت ذاته ان ما يعلنه يلتسن يظل من قبيل الامنيات، ومن قبيل "الحرتقات" السياسية الصغيرة التي كان زعيم الحزب الشيوعي الروسي يلتسن من متقني حرفتها. ولكن في الوقت نفسه دفع ذلك العديد من الخبراء الى تأمل الوضع: ماذا لو تحقق للزعامات الروسية التي يمثلها يلتسن ما تريد، او ما تحلم به؟ ان روسيا، كما قالت تحليلاتهم يومذاك تضم 127 مليوناً من أصل ال227 مليون نسمة التي تشكل شعوب الاتحاد، وهي تنتج 70 في المئة من الفحم و80 في المئة من الغاز الطبيعي و90 في المئة من البترول، ما يعني ان روسيا ستخرج قوية وغنية فيما تسقط بقية الجمهوريات في وهدة الفقر والعوز. في مثل تلك الحال ما الذي سيتبقى من الاتحاد؟ ومن حكومته المركزية؟ هل ستناط بها مسائل الدفاع، على الصعيد العالمي، لا أكثر؟ حتى ضمن اطار عام تصديق ما دعا اليه يلتسن، اثار الأمر قشعريرة في جسد السوفياتيين، وبخاصة ان البرلمان الروسي، الذي كان الاصلاحيون يسيطرون عليه، كان يدرس في ذلك اليوم بالذات قانوناً يلغي الرقابة على الصحف ويشجع على تأسيس مؤسسات صحافية خاصة، ما يعني ان تلك الدعوة سوف تتحول من رغبات سياسية معبر عنها في المحافل العليا، الى مادة للسجال الشعبي العريض ما من شأنه ان يحول الأمنية الى رغبة، و"الحرتقة" السياسية الى برنامج عمل. وبعد ذلك بأيام، إبان انعقاد جلسات المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، لم يفت بوريس يلتسن وجماعته ان يصعدوا، على طريق تنفيذ رغبتهم، اذ نجدهم يستقيلون من قيادة ذلك الحزب مؤكدين على لسان يلتسن نفسه رغبتهم في تشكيل "حزب جديد يقوم على مبادئ التقدم الاجتماعي والديموقراطية والحياة البرلمانية الحقيقية". ورداً على هذا قرر مجلس السوفيات الأعلى ان يعطي صلاحيات كاملة الى غورباتشوف أملاً في ان ينجز اصلاحات اقتصادية حقيقية تبعد الخطر، معطياً إياه مهلة حتى آذار مارس 1992 لتحقيق ذلك. ولكن السياسة لم تمهل غورباتشوف كما نعرف، اذ ان الاتحاد سرعان ما فرط في العام 1991، ليس بقوة يلتسن وأصحابه بالطبع، بل بسبب اخطاء قاتلة ارتكبها الشيوعيون انفسهم، وعلى رأسها انقلابهم الفاشل، لكن تلك حكاية اخرى. الصورة: بوريس يلتسن ورغباته الانفصالية