1 عائلةٌ في أسبوع. ذلك هو التعبير الذي استعملتهُ مقابلَ تعبير عائلةٍ لمدة أسبوع. الذي نطق به الشاعرُ الهولندي. هانسْ فَانْ دي فارسنْبُورْغْ. صبيحةَ الأحد 11 تشرين أول أكتوبر. الأخير. بلشبونة. حيث كنا نستمتعُ بجلسةِ قبل العودة الى بُلداننا. في مقهى برازيليريا. التي كان يرتادها فرناندو بيسوا. بعضنا كان قد غادر المدينة في الصباح الباكر. الروسية تاتْيانا تشربينا. الفرنسي جان كلود بيسون. الكرواتية. سيبيلا بيتليفسكي. الإسباني أنطونيو كامونيدا. أما الأنغولي أرنينْدو باربيتوس. والبرتغاليون كازيميرو دي بريتو ونونو جوديس وأنطونيو أوزوريو وآنا لويزا أمارال فكانوا بدورهم في لشبونة. لكنهم يقيمون في بيوتهم. صبيحة لما بعد أيام مهرجان الشعر في لشبونة. الذي دام من 6 الى 10 من اكتوبر الحالي: نجلس في الباحة الخارجية للمقهى. مريم فراغا البرازيلية. لاص سوديربيرغ السويدي. هانس الهولندي. وأنا. كان بردٌ خفيف يدب في العظام بسبب افتقادنا أعضاء العائلة الراحلين عنا. كل واحد منا كان يشعر بأن رابطاً نشأ بيننا. رابط أخوة شعرية. نشأ في لحيظات قصيرة. وأحياناً في جلسة تناول الفطور أو التجول في أنحاء لشبونة. القديسة. على الخصوص. بين الشيادو والفاما. كل واحد منا أصبح ينادي على الآخر بتلقائية، كما لو كنا تعارفنا في رحم لغة توارثناها. بل لم نعد نستطيع التحرك إلا إذا اجتمعنا. في قافلةٍ واحدة. نتحرك في دفء النهارات. وتحت نجوم الليل. العائلة. عائلةٌ في أسبوع، عصابةٌ صغيرة من شعراء قادمين من مدارات حضارية. ومن تقاليد شعرية. ومن لغات، أحسسنا بسرعة أننا متآلفون. لم يصدر عن أيِّ واحد منا ما يجعل أحد أفراد العائلة يشعر بالغربة، تلك الحواجز التي بنتها المتخيلات الثقافية. وغير الثقافية. عن بعضنا البعض لم نصطدم بها في هذا اللقاء. شيءٌ لا يمكن الوثوق به. إن كنا ننظر من بعيد الى ما حدث في لشبونة. أقلُ من أسبوع. عائلةٌ واحدة. وفي لحظة الوداعات كان كل واحد منا يشد على يد الآخر. يضمه الى الصدر. يشكره على الصداقة الحرة. الأمر جدي يا أبناء العائلة. الشعرية. التي تستطيع أن تقيم بناء مغايراً لما تعودنا عليه من سلوكات نقرأها في الكتب. أو تطالعنا بها الصحافة، أو يفرضها علينا الإعلام المصور. يمكن أن نتساءل عن السر في ذلك، يمكن حتماً. لكنني لا أجد ما يدعوني لذلك. هي عائلة، عشنا ضمنها أسبوعاً. ولربما كان عمراً. تلقائية الكلام. وسهولة التعليق. أو النكت المتبادلة. لعبٌ بالألفاظ. ألقابٌ بها نلبي رغبة المجنونين من بيننا. واللغات غير المشتركة تعثر على منفذ لها بين الفينة والفينة. ومن دون أن أسأل عن السبب. فالمسؤولون عن اللقاءات حينما يكونون واعين بما يبتغونه من الشعر. أو من الفن. والثقافة إجمالاً. ينجحون فوراً. في خلق شرائط تكوين العائلة. وكان جميعنا متأكداً انه ابن العائلة. التي آباؤها متعددون. هوميروس. إمرؤ القيس. بوشكين. بودلير. بابلو نيرودا. غونغورا. كافافي. شكسبير. وأب الجميع. في لشبونة. فرناندو بيسوا. 2 إذاً. لم نفتعل تكوين عائلة. هي من تلقاء ذاتها تكونت. طيلة أيام المهرجان. الأنيق. المتواضع. من لغات تتعلم الغواية. في صمت القاعات التي احتضنت اللقاء. من بيت فرناندو بيسوا الذي عاش فيه الشاعر من 1920 الى وفاته سنة 1935 وتم ترميمه بجمالية الضوء اللانهائي. الى متحف الفن الحديث. الى قاعة البلدية. هذه اللغات التي ما تزال تنطق بشهوانة الجسد. تستطيع أن تخلق الأخوة ضمن العائلة الواحدة. وليس هناك ما يدعو للاستغراب، فالمشهد ذاته أصبح يتكرر من لقاء الى لقاء. في لُوديف. مثلاً، جنوبفرنسا. كنا شعراء عرباً وغير عرب نعيش اللحظة العائلية المشتركة. في الدار البيضاء. في بوردو. أيضاً. كانت الحالة متجلية. خلال الإنصات. أو خلال الحوارات. وهو ما يدفعني أكثر الى الاعتقاد بأننا في ملتقياتنا الشعرية العربية لا نسمو بعد الى تغيير السلوكات. إنني كثيراً ما أشعر بالغربة في بلدان عربية عديدة. وهو الشعور الذي يساعد على النفور من هذه الملتقيات. التي لا نحصد فيها سوى المرارات المضاعفة. دون أن نأمل ذات يوم في العيش ضمن العائلة الواحدة. ذلك الإحساس العفوي. بأننا من عائلة واحدة لا نفتقده عربياً. فقط، بل نعمل على تغذية ما ورثناه عن تاريخ مريض بالتمركز حول الذات الشرقية. أو الوطنية. الى الحد الذي لا نجد بعده ما يسعف في تجديد الرغبة في العودة أو في تجديد أي لقاء. تلك تجربة مريرة. عشتها مرات متتالية ولا حاجة بي الى سرد الوقائع من دولة عربية الى دولة عربية. حيث كلّ مرة أعود مصاباً باليأس من نمط العروبة السائد. فضلاً عن اليأس من الشعر والثقافة. ومن مستقبل الثقافة العربية. فكيف لي أن أعيش تجربة العائلة المتآلفة مع شعراء من هناك وهنا. في العالم. ولا أنجح. في الإحساس بأنني أملك العائلة ذاتها. في بلداننا العربية؟ محير ومخجل. هذا السؤال. ولكن الحداثة التي تعلمتها صادرة عن وعي كوني. لا شرق فيها ولا غرب. وهي مع ذلك من نتائج الثقافة والمجتمع الغربيين. لماذا نكذب على أنفسنا ولا نتجرأ على الجهر بما نتعلمه وما نعيشه؟ شخصياً. أشعر بالحرية والانطلاق والإبداعية كلما حضرت ملتقيات شعرية عالمية. فيما الإحساس بالإهانة لا يتوقف كلما أقدمت غالباً على تلبية دعوة عربية. وهو الإحساس ذاته الذي يشترك فيه بعض الشعراء العرب الذين يدركون أن الفعل الشعري صادرٌ عن أخلاقيات بافتقادها نفتقد مصداقية ما نكتب وما نسعى الى كتابته والدفاع عنه، شعرياً وفكرياً. العائلة العفوية التي تتجدد تلقائياً. من لقاء الى لقاء. خارج العالم العربي. هي التي تجسدت في لشبونة. مدينة الضوء. والنخيل. والفادو، تحت سماء وعائلتها نسيت الجروح القديمة. الناتجة عن تاريخ دموي. استمر لقرون بين المغاربة والبرتغاليين. تحت هذه السماء أصبح بوسعي أن أنصت الى أهازيج الفادو القادمة من أقصى الأزمنة. حيث الرنين العربي كان اسم المدينة. وحيث كانت الحضارة العربية ترتفع من نهر التاج الى أعلى القصبة أو تنخفض حتى تصل منطقة الغرب. بكل ألوانها العربية التي تتفجر في قصيدة أو في غناء. سماء عائلة. يرعاها فرناندو بيسوا. في بيت، ومانويلا. ساهرة على كل ورقة وكل حرف من حروف اسم العائلة. غبطة الحضور بها تكلمنا وفي الوداعات لا تكفي الكلمات. 3 من غير توقع كان اللقاء متزامناً مع موعد الإعلان عن الفائز لهذه السنة بجائزة نوبل للآداب. الشاعر السويدي لاص سوديربرغ. بدا غير مرتاح تماماً. في جلسة عشاء ليلة الأربعاً. بمعطفه الأزرق يتقدم نحونا. ويبلغنا بأنه سمع من ستوكهولم أن الجائزة لهذه السنة ستكون من نصيب كاتب سويدي. كان تعليقه غريباً. لقد حصلنا على ما يكفي من جوائز نوبل. ولدينا جوائز عديدة تمنحها الأكاديمية السويدية. لأنها تملك الأموال الطائلة. وكان من الأفضل أن تُعطى هذه السنة لكاتب غير سويدي. علقت على هذا الموقف بكونه تواضعاً سويدياً. لأن عدد السويديين الحاصلين على الجائزة قليل. لم يتفق معي. وذكر لائحة من الأسماء السويدية التي لم يعد أحدٌ يذكرها. حتى في السويد. فيما كتاب كبار من أقطار عديدة لم يحصلوا على الجائزة. وهذا برأيه غير معقول. لكن الشاعر الإسباني غاستاو كروز رد على الفور بأن البرتغال تعيش توتراً نفسياً من جراء عدم حصولها حتى الآن على الجائزة. البرتغال يملك من الشعراء والروائيين الذين هم في طليعة الآداب العالمية. ومع ذلك لم تلتفت الأكاديمية السويدية اليهم ولا الى اللغة البرتغالية. في البرتغال أو في أميركا اللاتينية أو أفريقيا. كدنا نقتنع بما رواه لاص. على رغم أني أعلنت عن ضرورة اسناد الجائزة الى عربي. لقد حصلنا على الجائزة الأولى منذ عشر سنوات. استحقها كاتب روائي كبير. نجيب محفوظ. الذي قرأنا له بحب وما نزال. أكثر من واحد من أفراد العائلة كان مع العرب. ولكن الجو العام شجع على أسبقية البرتغال. أو اللغة البرتغالية. على الأقل. شمس الصباح قادتنا بين دروب الشيادو، حيث وقفنا على تمثال الشاعر البرتغالي كامويش. أب الأدب البرتغالي الحديث. وبمحاذاته مقهى برازيليريا. تمثال برونزي لفرنادو وبيسوا جالساُ على مقعد. ومتكئاً على حافة طاولة، والى جانب الطاولة. من الجهة المقابلة. مقعدٌ فارغ. يتسابق السياح عليه لأخذ صورة تذكارية مع بيسوا. قهوة البرازيل الجيدة. تغريك بالفنجان الثاني. والنبيذ الأبيض. البيرة الباردة لمن يفضلونها. الساعة الرابعة بعد الزوال. في الفندق. مانويلا تدخل علينا. ضحوكةً. رافعةً يديها الى الأعلى. في حركة نشطة. أخيراً. نوبل للبرتغالي. من دون أن نسأل عن المحظوظ، رفعنا نخب البرتغال. خوصي سراماغو. الروائي. من مواليد قرية بشمال لشبونة 1922 ويعيش الآن في جزر الكناري. لم أكن أعرف شيئاً عن سراماغو. نخبُ فرح. للبرتغال. أولاً. لسراماغو. أيضاً. روائي. هذه المرة. وللبرتغال شعراء كبار. ولكن لم يكن من الممكن تخصيص الجائزة هذه السنة للشعر بعد سنوات متتالية كانت من نصيبه. 4 العائلة تنطلق بالحافلة الى قاعة القراءات. مطبخٌ في شكل قاعة للقراءات. أليس هذا باعثاً على الدهشة. الأواني النحاسية معلقة على الجدار. والكراسي القليلة غاصة بالحاضرين. شعراء. أساتذة. جامعيون. صحافيون. محبُّون للشعر. علينا أن نبتعد عن تخيل الجمهور العربي الذي يحضر القراءات الشعرية. ولا حتى الجمهور الهولندي في مهرجان روتردام، بل حتى في شتروكا. المقدونية. ويخبرني الشاعر باولو راكوستا دومينيغوس بأن حضور الجمهور أمسيات الشعر في لشبونة يتقلص شيئاً. فشيئاً. والشاعر لويس ألفونسو نونيس دا غاسا بدوره يخبرني بأن المجلات الشعرية نادرة. والصعوبات تزداد مع تصاعد الاختيارات التجارية للناشرين. والاقتصاد. الاقتصاد. في قاعة صغيرة. سواء في بيت بيسوا أو في المتحف أو حتى في البلدية. هناك سكينة. واللغات الشعرية فردية. تنصت أولاً الى الأنفاس وهي تعيد صياغة الكلمات في إيقاعات. ما أفسح اللغات الفردية وما أرحم الذوات اللانهائية! في البداية. كلَّ مرة ننصت الى القصائد في لغاتها الأصلية. ثم الترجمة الى البرتغالية التي قام بها شعراء برتغاليون. هم المشاركون كذلك في اللقاء الشعري. ضمانة لقيمة الترجمة ولقيمة النصوص المختارة لهذا الشاعر أو ذاك. والجمهور يتابع بلذاذة ما ينصت اليه. أما الشعراء الضيوف فلهم ترجمات الى الفرنسية والإنكليزية تمكنهم من الإطلاع على الكتابات الشعرية المختلفة. ولقاءاتنا لا تتوقف عند عتبة القاعات. في جولاتنا. في المقهى، في السهرات يستمر الحديث عن الشعر والشعراء. ما استمعنا اليه. وما يعرفه الوضع الشعري العالمي. مثلاً. ظاهرة المهرجانات الشعرية التي أصبحت تتكاثر من يوم الى يوم. ومن بلد الى بلد. في البرازيل تتهيأ مؤسسة جورجي أمادو لإحياء مهرجانها العالمي. في موسكو هناك فكرة إحداث مهرجان عالمي للشعر. مشتريخت لها مهرجانها. في السويد. والجهات الأخرى التي لا نعرفها تخفي حنيناً الى الشعر. 5 بين الضوء والنخيل. هل هو فضاء عربي في لشبونة؟ لا يتردد البرتغاليون في الحديث عن بعدهم العربي. ألْفاما. كتحريف لكلمة الخمرة العربية. تبعث في النفوس سحراً يسميه البعض مكبوتاً عربياً ويسميه البعض آخر قلعة للإبداع الشعبي. مع الفادو. هذا الغناء القديم. الذي طرأت على كلماته تغييرات بعد ثورة القرنفل سنة 1974. زنقات يسكنها الضوء والظل. عتمات منبعثة من منحدرات الأزقة. وفي كل أغنية من أغاني الفادو لوعةُ الحنين. عازف القيثارة والعود البرتغالي. والمغنية تتجاوب مع الصمت الذي يترك الزمن مطلقاً في ناحية ما من الغناء. الفادو. ابتهاج الإقامة في لشبونة. ووجوه فرناندو بيسوا الأربعة التي لا تفارقنا. نحن. أبناء عائلةٍ. في أسبوع.