للمرة الثالثة، في خلال العامين الاخيرين، وفي المكان نفسه، يزورني ملاّح الفضاء القادم من كوكب بعيد جداً، في مجرة لا نعرف عنها شيئاً. كنت جالساً في المقهى ادخن الشيشة، قربي بائعة خضار تفترش الرصيف وتنادي على سلعتها. كنت منطوياً على نفسي، عازفاً عن الكلام، غاضباً محبطاً بسبب ما حدث لي هذا الصباح، وعندما التفت وجدت ملاّح الفضاء جالساً على المقعد المجاور، وكان ما زال مستاء من تلك الكتل المعدنية البدائية التي نطلقها الى الفضاء ونسميها اقماراً اصطناعية! ابتسم لي: - هل تذكرني؟ - لماذا عدت؟ - اراك حانقاً محبطاً، ارجو الا تكون عودتي هي السبب!. - ماذا جاء بك؟ - جاءت بي الضجة المثارة في جميع شبكات الارض التلفزيونية، نعجة اسمها "دوللي" كل هذه الضجة من اجل نعجة؟! ابتسمت مزهواً: - لانها انجاز علمي عظيم لنا نحن البشر. وشرحت له كيف ان "دوللي" جاءت من وضع نواة خلية نعجة في مكان نواة بويضة نعجة اخرى، من دون حاجة الى ذَكَر، وأن هذا الانجاز العلمي قد يؤدي الى استنساخ الاطفال من دون ممارسة جنسية، ومن دون حاجة للرجال!!. سألني: - وهل هذا يسعد رجال الارض؟ اجبته من دون تردد: - طبعاً، فسوف يرتاحون ومن دون حرج، من اصعب اعبائهم الزوجية. احتار كثيراً: - فأنت تتوقع تطبيق هذه التجربة على البشر؟ - لا اظن. - الا تحب ان يستنسخوا نسخة طبق الاصل منك، توأماً لك؟! - بالقطع لا. - لماذا؟ - أحب أن أكون كما أنا فريداً لا مثيل لي، وذلك على حد قول الاغنية الوطنية القديمة: أنا المصري فريد عصري. - وهل أنت كذلك؟ بدأت أتوتر، لكني قلت: - من ادراني ان هذا التوأم الذي هو نسخة طبق الاصل مني لن يسرقني؟! - كيف يكون ذلك؟ - قد يسبقني اول الشهر ويقبض معاشي، راتبَ تقاعدي!. - وقد ينتهز فرصة سفرك، ولا مؤاخذة، ويدخل بدلاً منك الى فراش الزوجية! زاد توتري، وقال: - وهناك احتمال خطير ثالث، فقد يسبقك في موسم الانتخابات ويدلي بصوتك ضد رغبتك!. - له ان يفعل ذلك. - لكن هذا حقك المدني، ألست من انصار الديموقراطية؟ - لي رأي في هذا. - أنت لك رأي؟ - نعم أنا لي رأي. وعموما فالديموقراطية لا تزيد عن كونها عادة بشرية، مثل عادة التدخين. - امن اجل هذا ينتشر تدخين الشيشة عندكم؟ - ..............! - نعود الى استنساخ التوائم البشرية. اهتزت ساقي في عصبية: - إفهم أيها اللحوح، الكرة الارضية مكتظة عن آخرها بالبشر، لسنا في حاجة الى المزيد منهم فهم لا يساوون شيئاً في سوق الطعام، نحن نفضل استنساخ النعاج والابقار من اجل حليب زهيد الثمن للاطفال وبروتين حيواني رخيص للكبار، نحن نحب النعجة "دوللي" واخواتها وبنات عموماتها من سائر انواع المواشي. سحبت دخاناً كثيفاً من الشيشة: - هل فهمت؟! - من اللحظة الاولى لاحظت انك غاضب من شيء ما!. - اشياء وأشياء. - الفضفضة مريحة، دعني اشاركك همومك. - همومي هي حياتي كلها، امستعد لسماع سيرتي الذاتية؟! - نعم ولكن باختصار. - تقصد من دون لتّ او عجن؟ تردد محتاراً - من دون هاتين الكلمتين. اخذت راحتي في القعدة، وبدأت احكي له عن صدمتي وفجيعتي في مستهل حياتي العملية، فبعد تخرجي في الجامعة عملت صحافياً تحت التمرين في مجلة اسبوعية، وعلى الفور انهمكت في البحث عن خبطة صحافية، سبق صحافي يحلق بي في اجواء الشهرة، ويضعني بين كبار الكتاب. في ذلك الوقت كانت توجد دولة عظمى اسمها "الاتحاد السوفياتي" وعلمت ان العلماء هناك ينوون استهلال عصر الفضاء باطلاق كبسولة او قمر اصطناعي صغير يدور حول الارض، حاملاً كلبة اسمها "لايكا" بقصد دراسة تأثير الاشعة الكونية على الكائنات الحية، وذلك قبل اطلاق الكائنات البشرية، فذهبت الى هناك. قاطعني الملاّح متسائلاً: - إلى الفضاء مع الكلبة "لايكا"؟ - إلى محطة اطلاق الاقمار الاصطناعية في الاتحاد السوفياتي وتمكنت من مقابلة "لايكا": وجدتها صغيرة الحجم لطيفة ذكية النظرة، فتعاطفت معها. كان من عادة العلماء اجراء تجاربهم على ضحاياهم من القردة والضفادع والارانب، ولم اعرف لماذا اختاروا هذه المرة كلبة لطيفة!! قلت لها: - عمت صباحاً يا عزيزتي. عاد ملاح الفضاء يقاطعني: - هل قلت للكلبة "لايكا": عمت صباحاً؟ - نعم قلت لها عمت صباحاً. - لا اصدق، كيف هذا؟ - لأن الوقت كان صباحاً، ولو كان مساء لقلت لها عمت مساء!. كاد يبكي لكنه قال: - ماشي كلامك... تفضل أكمل. منذ اقل من نصف قرن، كنت شاباً متفتحاً متحمساً وانيقاً. نظرت "لايكا" بعين الرضاء واجابت: - عمت صباحاً ايها الصحافي المصري الصاعد الواعد. سألتها إن كانت سعيدة بالرحلة الرائدة التي ستقوم بها، فنفت ذلك واكدت انهم يجبرونها عليها قسراً، وانها لم توقع على أية موافقة كتابية! قلت أواسيها: - لكنك ستصبحين اول كائن ارضي يذهب الى الفضاء، اول رائدة فضائية في التاريخ، سوف تدورين حول الارض مثل القمر، وتدورين مع القمر والارض حول الشمس!! - سوف اموت وحيدة في الفضاء السحيق الرهيب من دون زوج يبكيني! - يا عزيزتي، لا تصدقي ان الازواج يبكون زوجاتهم الراحلات. ستصبحين شهيدة العلم. - لماذا لا تكون انت شهيد العلم؟! - أنا افضل ان اكون شهيد الغواني الحسناوات. - وانا افضل ان اعيش مع "يوري" اظرف الكلاب، حبيبي صاحب الشقة المجاورة لشقتي. - تقصدين الذي يعيش مع الاسرة المجاورة؟ - اقصد صاحب الشقة المجاورة، والذي تسكن معه اسرة بشرية لخدمته، لقد احببته من أول نظرة، وتناجينا كثيراً في الليالي المقمرة، وتواعدنا على الاخلاص وانجاب جروين نسعد بتربيتهما وتنشئتهما النشأة الصالحة. اغرورقت عيناها بالدموع، فلزمت انا الصمت حتى استردت رباطة جأشها، واخذت ترد على اسئلتي باجابات صريحة، عن السياسة والاجتماع والفلسفة، عن الكلاب والحب والجنون، والجنس والادب والفنون. اعربت عن رفضها للشعوب التي تأكل لحم الكلاب، ثم اعتدلت ونبحت هاتفة: يا كلاب العالم اتحدوا... عدت الى القاهرة بهذا الحديث غير المسبوق، وتوجهت فوراً الى رئيس التحرير مزهواًً بانتصاري، اعطيته الاوراق مصحوبة بصور لي مع "لايكا" وهي تصافحني في تواضع، قرأه وظل وجهه جامداً عدة ثوان كأنها الدهر، ثم عبس وتجهم وقال: - مسكين! - تقصد سيادتك مسكينة؟! - اخرج من هنا ولا تعد ايها المخادع، مكانك مستشفى المجانين. - بل مكاني مكانك، ومكان "لايكا" صورة الغلاف، هذا إذا كنت تفهم ألف باء الصحافة. حملق مصعوقاً، تأملت رأسه الاصلع ووجهه المستدير الناصع البياض، وانفه المفرطح، كأنه رأس خنزير مسلوخ، كدت اضحك لكني قلت: - صدقني يا أستاذ، هذا الحديث نصر كبير. - هذا نصب خطير، وهل الكلاب تتكلم؟! - لم لا... إن بعض الخنازير تتكلم!. هكذا ضاع مستقبلي الصحافي من قبل ان يبدأ، وبعد أن ضاع انتقلت من وظيفة الى اخرى، وبعد ان أحالوني الى المعاش، تنبهت بعد فوات الاوان الى غباء اختياراتي، فاكثر المهن احتراماً وشهرة وثروة هي مهنة كرة القدم! وبدأت رحلتي مع شيشة المقهى! وفي الاسبوع الاخير من شباط فبراير الماضي سمعت عن النعجة "دوللي"، فاستيقظ في اعماقي الصحافي القديم. اخذت الفيلم والاوراق والكاميرا، وانفقت جميع مدخراتي في السفر الى اسكتلندا، حيث قابلت "دوللي" واجريت معها حديثاً نادراً، شاملاً جامعاً، بدأته بالتحية الواجبة: - عمت مساء ايتها العزيزة. قاطعني ملاّح الفضاء بغبائه الكوني: - اقلت للنعجة "دوللي" عمت مساء؟! ... كيف؟ - لأن الوقت كان مساء، ولو كان صباحاً... - لقلت لها عمت صباحاً، ماشي كلامك، اكمل. سألتها عن المقارنة بينها وبين الكلبة "لايكا"، فقالت: - "لايكا" فارقت الحياة شهيدة العلم، أما أنا فجئت الى الحياة بفضل العلم، وأنا سعيدة جداً، فأنا فريدة عصري بين النعاج. - حذار من الغرور يا دوللي. تركتني الى مراسل محطة تلفزيونية، فادركت ان المسكينة واقعة في دوامة الشهرة المباغتة، ثملة من تهافت اجهزة الاعلام عليها، مغترة من كونها نعجة العام، بل نعجة القرن وجميع القرون! ولم تكن تدري انها عاجلاً او آجلاً سوف تقع بين يدي جزار يذبحها، ويبيعها لأحد المطاعم، لتتحول الى كباب وكفتة وفتة بالخل والثوم، وهينئاً مريئاً. استوقفني ملاّح الفضاء: - هنيئا مريئاً، اهما صنفان من الطعام؟ - أمنية في شكل اصطلاح. - ما علينا... ماذا فعلت بحديثك الصحافي مع "دوللي"؟ - توجهت به هذا الصباح الى رئيس تحرير احدى الصحف، قرأه وسألني في غباء وبرود. - وهل النعاج تتكلم؟ احتقرته واخذت أوراقي منصرفاً، قديماً سأل احمق مثله الفلكي غاليليو: وهل الارض تدور حول الشمس؟! هرش ملاّح الفضاء رأسه: - لهذا السبب انت حانق محبط؟ سحبت دخاناً كثيفاً من الشيشة، نفخته في الهواء حتى تبدد، اجبته: - ولسبب آخر... فلو كان لدينا خلية حية من جواد الشاعر "امرؤ القيس" لاستنسخنا جواداً مثله! - لا بد أنه كان جواداً عظيماً، ما صفاته؟ - مكرّ مفرّ مقبل مدبر معاً، كجلمود صخر حطه السيل من عل! قبل أن أكمل كان الملاّح قد اختفى فجأة، هكذا من دون وداع او استئذان!! ملاح فضاء قليل الذوق. مصر الجديدة آذار / مارس 1997. * كاتب مصري.