الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    انطلاق النسخة الثانية من المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    خسارة الهلال وانتعاش الدوري    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    الأهلي والنصر يواصلان التألق آسيوياً    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    ألوان الطيف    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    السماري يقدم قراءة فنية لرواية «صراعي مع الفصام»    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    «أونروا»: مليونا نازح في غزة تحت حصار كامل    رئيس هيئة الغذاء يشارك في أعمال الدورة 47 لهيئة الدستور الغذائي (CODEX) في جنيف    سعود بن مشعل يشهد حفل «المساحة الجيولوجية» بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها    تطوير الموظفين.. دور من ؟    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    في خامس جولات دوري أبطال أوروبا.. قمة تجمع البايرن وباريس.. ومانشستر سيتي لاستعادة الثقة    الهلال يتوعد السد في قمة الزعماء    قطار الرياض.. صياغة الإنسان وإعادة إنتاج المكان    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    311 طالباً وطالبة من تعليم جازان يؤدون اختبار مسابقة «موهوب 2»    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    الرخصة المهنية ومعلم خمسيني بين الاجلال والإقلال    الباحة تسجّل أعلى كمية أمطار ب 82.2 ملم    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعليقاً على مقال مصطفى الفقي : ماذا لو أن... البعث وعبدالناصر ؟
نشر في الحياة يوم 03 - 05 - 2000

نشط الصديق العزيز الدكتور مصطفى الفقي، في الآونة الأخيرة، في تقليب مواجع كثيرة، وإثارة شجون عديدة في الساحة الوطنية المصرية والساحة القومية العربية. والمتابعون لما يكتبه مصطفى الفقي لا بد أن تسترعيهم على الفور سلاسة أسلوبه. وجرأته في اختيار القضايا التي يتناولها. هذا رغم أن عمله الديبلوماسي عموماً لا بد ان يفرض عليه محظورات لا تخفى، ثم أن كونه ممثلاً دائماً لمصر في جامعة الدول العربية، لا بد أن يفرض عليه ألف محذور ومحذور، وهو يتناول الشأن القومي العربي. ومع ذلك يبدو أن مصطفي الفقي قرر أنه لا يجوز أن تظل هناك على أي ساحة عامة، مصرية أو عربية، ابقار مقدسة فوق التحليل والتمحيص والتقويم والمساءلة. ومن ذلك أنه تناول في مقالاته اخيراً مواضيع حساسة، مثل طبيعة دور الازهر الشريف وقيادته، والاحزاب السياسية المصرية التي اعتبرها احزاباً ورقية لا تعادل في شعبيتها فريقي الاهلي والزمالك لكرة القدم، ودور مصر بعد التسوية المرتقبة للصراع العربي - الاسرائيلي. ويُحمد للرجل أن جرأته في طرح هذه وغيرها من القضايا فجرّت حواراً حقيقياً جاداً على الساحة المصرية بعد طول غياب، وبعد غثيان الكتابات الغوغائية التي امتلأت بها الساحة المصرية أخيراً في عشرات الصحف الصفراء، ومجلات الاثارة والشعوذة والإسفاف.
ويهمني في هذا المقال أن أناقش أهم أطروحات الدكتور مصطفى الفقي في مقاله المعنون "البعث وعبدالناصر... الفرصة الضائعة" الذي نشرته "الحياة" بتاريخ 11/4/2000.
إن أهم أطروحات المقال في أنه لو تعاون وتناغم وتكامل كل من حزب البعث بقياداته وكوادره المتمرسة والتي تجسد الفكر القومي من ناحية والمزاج "الشامي" من ناحية أخرى، مع عبدالناصر بكل ما كان يمثله كقيادة كاريزمية ذات شعبية عربية طاغية من ناحية، وكتجسيد للمزاج "المصري" من ناحية أخرى... لو وُجد هذا التعاون والتناغم والتكامل "لكان التاريخ العربي الحديث تغير مئة وثمانيين درجة". ولنا على هذا الطرح تحفظات وانتقادات عدة:
- التحفظ الأول، هو الإغراق في الطوباويات: فالمقال مليء بالعبارات التي تبدأ بلفظ "لو" أن، أو "لو" كان، أو "لو" حدث. ويتحاشى المؤرخون والعلماء الاجتماعيون مثل هذه الطوباويات، التي يطلقون عليها "لو التاريخية"Historical If فهي تنطوي على تمنيات ورغبات وأحكام قيمية. وهي بهذا المعنى تعوق التحليل العقلاني للأحداث، وتستغرق في "يوتوبيا" حالمة. من ذلك تساؤله الافتراضي وايحاؤه "أن الخريطة السياسية العربية كان يمكن ان تتبدل، ويتغير مستقبل المنطقة لو أن تزاوجاً حدث بدلاً من الخطوبة أو شهر العسل القصير، بين عبدالناصر والبعث. اثناء الوحدة المصرية - السورية، التي لم تدم إلا ثلاث سنوات. وفي هذه النقطة وغيرها مما سنتحفظ عليه أو نعارضه في أطروحات الصديق العزيز، لدينا تفسيرات بنائية بديلة ترتبط بطبيعة القيادتين، البعثية والناصرية، التي جعلت الصدام بينهما مرجحاً إن لم يكن محتماً. وهي الطبيعة نفسها التي تفسر الصدام بين القيادة الناصرية والاخوان المسلمين، بعد شهر عسل قصير ايضاً دام حوالي سنتين من تموز يوليو 1952 الى تشرين الاول اكتوبر 1954. هذه الطبيعة نفسها هي التي جعلت، ولا تزال، التعاون ناهيك عن الاتحاد بين القيادتين البعثيتين في سورية والعراق صعبة إن لم تكن مستحيلة. وفي كل الأحوال، ان تحقق كل ما أورده الدكتور الفقي في "ماذا... لو" وامكان تغييره التاريخ العربي قليلاً هنا او هناك، أم تبديله "مئة وثمانين درجة" فهذه مبالغة لا يمكن ان يخلص اليها إلا من بدأ بمقدمات طوباوية او ميتافيزيقية، منعدمة أو واهنة الصلة بالواقع الاجتماعي - السياسي - التاريخي المعاش.
- التحفظ الثاني، هو الاغراق في شخصنة الأحداث، حقاً هناك دور بارز، وربما حاسم، تلعبه القيادات والزعامات في التاريخ الانساني. ولكن دور الفرد في التاريخ محكوم بمعطيات هيكلية. لذلك ينبغي عدم المبالغة في الحديث عن الأمزجة الشخصية لهذا القائد أوذاك، او لهذا الشعب أو ذاك، أو "تعلق قائد بشعب"، أوشعب بقائد. هذه كلها عوامل حقيقية تؤخذ في الحسبان قطعاً، ولكنها ليست هي مربط الفرس. فالأهم منها هو كيفية صنع القرار. أي هل يصنعه فرد وحده، أم انه يصنع من خلال "مؤسسة" بعد السجال والحوار والأخذ والعطاء... كذلك ان الأهم من "الامزجة" و"الحب" في تقرير مصير الأمم والمشاريع القومية الكبرى مدى المشاركة الحقيقية لاعضاء النخبة وللقوى السياسية الفاعلة. و"المشاركة" تختلف عن "التعبئة". فالاخيرة تعتمد على الحشد والشعارات والهتافات والتظاهرات. أما المشاركة فتنطوي على النقاش العقلاني، والرأي والرأي الآخر. ثم التصويت بواسطة ذوي الحيثية - كالمواطنين في عملية انتخاب أو استفتاء، قد تلزم التعبئة لتقوية الوحدة القومية أو الوطنية، أو لبداية حركة او مسيرة. فالتعبئة تعتمد على الاثارة الوجدانية، أما الفعل المؤسسي الدائم فيعتمد على الحسابات العقلانية. وأما الحديث عن "الانصهار" بين الزعامات و"الكيمياء و"الشخصية"، والجاذبية والنفور والغيرة، فمع التسليم بوجودها ودورها، إلا أن المبالغة فيها هي "شخصنة" او اضافة "للذات" على "الموضوع".
- التحفظ الثالث، هو الاغراق في حديث المؤامرة. طبعاً كانت هناك قوى محلية واقليمية وعالمية ضد الوحدة المصرية - السورية، وكان عبدالناصر نفسه كثير الحديث عنها. وهذه القوى لم تخف عداءها لمشروع الوحدة، ان المؤامرات تتم في الخفاء والسرية هي أحد أركانها. والمؤامرة بهذا المعنى قد تفسر تحركاً تكتيكياً هنا أو هناك، ولكنها لا تفسر أبداً مساراً تاريخياً صاعداً، أو انحرافاً تاريخياً هابطاً. فالمؤامرة ليست هي التي اسقطت الاتحاد السوفياتي، او هزمت المانيا النازية. ولكن بذور السقوط والهزيمة وجدت في طبيعة النظام السوفياتي وفي طبيعة النظام النازي. وبالمنطق نفسه لم تكن أي مؤامرة بعينها هي التي أدت الى انهيار تجربة الجمهورية العربية المتحدة، أو ألحقت بنا هزيمة 1967، لقد كانت بذور الانهيار والهزيمة في صلب النظام القائم. لقد اعتمد النظام على "التعبئة" الجماهيرية لتحقيق انجاز الوحدة، ولكنه لم يعتمد على "المشاركة" الشعبية لحماية هذا الانجاز وتكريسه. لقد غيّب نظام عبدالناصر الجماهير عن المشاركة في حماية القرار، او تصويب القرار. لقد أحلَّ نظام عبدالناصر الأجهزة الأمنية والبيروقراطية محل الجماهير وتنظمياتها الحزبية والنقابية. وكان هذا أحد انتقادات حزب البعث للقيادة الناصرية في محادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق كما ذكر الدكتور مصطفى الفقي نفسه. ورغم ان الانتقاد البعثي كان صحيحاً، إلا أن القيادة البعثية ارتكبت الخطأ نفسه الذي اخذته على عبدالناصر حين استولت على السلطة في سورية والعراق. إذ أحلَّت الاجهزة الأمنية والبيروقراطية محل التنظيم الحزبي. تحول البعث مجرد قوالب فارغة من الروح والمضمون واصبح حزباً احتفالياً، يضفي شرعية باهتة على شخص الزعيم، تماماً مثلما كانت التنظيمات في عهد عبدالناصر هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي.
- التحفظ الرابع هو المسكوت عنه في أطروحات الصديق الفقي. في أكثر من ألف كلمة احتوى عليها مقال "البعث وعبدالناصر... الفرصة الضائعة" لا نجد كلمة واحدة عن "الديموقراطية" أو "المشاركة الشعبية" أو القوى الاجتماعية والطبقية المستفيدة او المضارة من الوحدة المصرية - السورية أو أي مشروع عربي وحدوي.. ولا نجد نقاشاً لطبيعة الشكل الاندماجي للوحدة ومثالبه، بدلاً من أشكال بديلة ربما كانت أكثر ملائمة، مثل النظام الفيديرالي، او الكونفيديرالي. إن السكوت على هذه الأمور جعل مقال الدكتور الفقي يوحي كما لو أن مصير الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت أعظم أحلام العرب المجهضة في القرن العشرين، كان معلقاً في الهواء تتنازعه مجموعة من القيادات الفردية صاحبة الأمزجة الشامية والمصرية أو الصعيدية المتضاربة. إن اختلاف الأمزجة وتضاربها سيظلان موجودين على الدوام، ليس فقط بين الشوام والمصريين ولكن ايضاً بين الشوام أنفسهم، وبين المصريين أنفسهم، ولكن الذي يجعل العمل السياسي "ممكناً" هو فن إدارة هذه الأمزجة والمصالح والأطماع المتضاربة. وفن الإدارة هذا هو "فن الممكن" الذي هو "السياسة"، كما يعلم ذلك الصديق الفقي، الذي هو عالم سياسة. والذي يحدث في الأنظمة الأوتوقراطية أو الاستبدادية هو طمس الخلاف والاختلاف ب "التجاهل" أو "التظاهر" أو "التحايل" او بالحديد والنار أو "الحب" لشخص الزعيم. ولكن هذا الخير، أي "الحب" هو لحظة أو لحظات استثنائية. فكما في العلاقات الشخصية بين رجل وامرأة يخفت الحب بعد فترة، أو تتغير طبيعته حينما يتحول، مثلاً، الى مؤسسة زواجية، والزواج الناجح هو ذلك الذي يقوم على المودة والاحترام والانسجام.
والخلاصة هنا هو ان الجمهورية العربية بدأت بعواطف حب جارفة، وبعد سنتين من الحب، بدأت حسابات المصالح الحزبية والطبقية والفردية، والمصالح دائماً "مشروعة" من وجهة نظر اصحابها - حتى لو كانت متنافسة أو متضاربة، وهي لا بد أن تكون متنافسة ومتضاربة. والنظام السياسي "الأمثل" وليس المثالي، الطوباوي هو الذي يوفر آليات للاكتشاف المبكر للتضارب، وآليات أخرى لإدارة التضارب، قبل ان يؤدي الى الانفجار او الانهيار. وهذا ما يوفره النظام الديموقراطي. أو نظام الشورى. أو حتى نظام أهل الحل والعقد والمجالس العرفية في المجتمعات التقليدية. وهذا هو ما كان غائباً في التجربة الناصرية بعد شهر العسل السوري. بل حتى بعد شهر العسل المصري داخلياً. فبعد شهر العسل المصري، الذي بلغ قمته بتأميم القناة ومعركة السويس، تقلص مجلس قيادة الثورة ثم تلاشى أو ذاب في شخص الزعيم. وحرم هذا الأخير من المشورة، ومن جماعية القرار التي كان يوفرها مجلس من الأقران، وحتى لو لم يكونوا أنداداً للزعيم. وبعد شهر العسل السوري، الذي بلغ قمته، بإعلان الجمهورية العربية المتحدة العام 1958، وبانتصار ثورة شقيقة في بغداد، بعد هذا تقلص ثم تلاشى رسمياً دور حزب البعث والاحزاب السورية الاخرى المؤيدة للوحدة. وحرم الزعيم من المشورة وجماعية القرار.
إن الاعتماد على "الكاريزما" وحدها لا يكفي . والاعتماد على البيروقراطية والاجهزة الامنية وحدها لا يكفي. ورغم كل عظمة عبدالناصر. إلا أنه لم يع هذا الدرس، حتى بعد انذارات مبكرة عدة، فوقعت النكبة الاولى بانهيار الجمهورية العربية المتحدة، ثم حدثت الطامة الكبرى بهزيمة حزيران يونيو... أقول قولي هذا وأدعو الله أن يغفر لعبدالناصر ومصطفى الفقي ولأقطاب البعث أجمعين.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.