ما من لحظة شعرية تضاهي لحظة الموت التي عاشها الأب والابن معاً حين أطلق القاتل الاسرائيلي الرصاص عليهما. تلك اللحظة المأسوية الرهيبة قد لا يعبّر عنها سوى الصمت العميق، الصمت الأشدّ ألماً وحزناً، بل الأشدّ إفصاحاً من الكلام أياً كان. هل يمكن جعل تلك اللحظة الحقيقية الحارقة كالنار لحظة شعرية عمادها المجاز والبلاغة؟ هل يمكن جعل الموت الحقيقي الذي يحدث في الجسد والروح فسحة لغوية؟ لعل أجمل ما قرأت عن الأب والابن الفلسطينيين ذلك الوصف الذي وصفهما به الشاعر محمود درويش في مقالة نثرية وفي قصيدة، مشبّهاً إياهما ب"أيقونة الأم الحزينة وابنها". الأب في هذه اللحظة الرهيبة يصبح أماً والطفل يصبح الابن الذي طعنه اليهود وراح يسلم روحه بين يدي أمّه وليس بعيداً منها أو أمام ناظريها على تلك الخشبة التي أضحت رمزاً للعذاب والقيامة. ولم تكتمل صورة الأب والطفل أو الأم والابن إلا حين جعلها محمود درويش أيقونة هي أيقونة الشعب الفلسطيني، بل أيقونة الملحمة الفلسطينية التي يكتبها الأطفال والرجال والنساء بالدم والعرق. لعلّ الشريط المصوّر الذي نقل تلك اللحظات الأليمة، في مرارتها وحدّتها، كان أجمل قصيدة يمكن أن تُكتب، بل أجمل لوحة يمكن أن تُرسم. كأنّ تلك الصوَر السريعة استطاعت أن تختصر مأساة أعوام طويلة، مأساة تاريخ طويل من الألم والعذاب. عينا الطفل الحائرتان بشدّة تعبّران عمّا يستحيل التعبير عنه: مشاهدة الموت وعيشه عن كثب. عينان تبوحان بنظرة ملؤها الخوف مشوباً بالرقة والحنين والوداع والعزلة. أما يدا الأب اللتان رفعهما الخوف قليلاً ثمّ أسبلهما الموت فكانتا يدي الأم التي حلّت بها الحيرة أو الجنون. في اللحظة الأخيرة فتح الأب ذراعيه ليضمّ طفله القتيل كالأم الحزينة التي ضمّت ابنها. لعلّ الصورة تلك هي أيقونة "الأم المنتحبة" التي لم تكن تحتاج الى مَن يرسمها أو يبدعها. إنها منحوتة ميكالانجولو أو أيقونة رافاييل ولكن كما أبدعتها المأساة الفلسطينية والألم الفلسطيني. ولم تكن الكاميرا إلا مجرّد شاهد ينقل تلك اللحظات بصدق تامّ وواقعية مطلقة. غير أنّ عظمة تلك اللحظات لا تعني أنّ الشعر والنثر عاجزان عن التعبير عنها ولو مجازياً. بعض ما كتب من وحي تلك الأيقونة الواقعية بدا جميلاً حتى وإن كان سريعاً أو عفوياً. الكتابة هنا أو في تلك اللحظة تمسي ردّ فعل أكثر ممّا تكون فعلاً. وهي لن تخلو من خصائص الكتابة العابرة التي تهدف الى الاستجابة. إنها في معنى ما كتابة تستجيب لما يحدث. كتابة "تعلّق" على ما يحدث وتنقل أو تستوحي ما ينجم من آثار وجروح... هكذا تصبح الكتابة شاهداً أيضاً، واقعياً أو غير واقعيّ، حقيقياً أو مجازياً، حيّاً أو بلاغياً... تصبح الكتابة شاهداً من بعيد، أي شاهداً يستوحي الحدث، يتأثر به وينفعل، ينقله من مرتبة الواقع الى مرتبة الأسطورة أو المجاز أو البلاغة. كان من الصعب حتماً أن تعبر "أيقونة" الموت تلك من دون أن يستوحيها الشعراء والناثرون على اختلاف نزعاتهم أو أن يستلهمها بعض الرسامين في أعمال سريعة. مثل تلك اللحظات ينبغي حفرها فعلاً في ذاكرة لغتنا العربية، في وجداننا الشعريّ والنثري وفي تربة قلوبنا وأرواحنا. وقد نقرأ غداً أو بعد غد قصائد أو مقطوعات أشدّ رهبة وجمالاً مما قرأنا أمس وقبل أمس من قصائد ومقطوعات متألمة ومنفعلة وسريعة. لكنْ هل من لحظة شعرية أو نثرية قادرة حقاً على تجسيد تلك اللحظة المأسوية التي عاشها الأب والطفل معاً؟ هل من قصيدة قادرة فعلاً على التقاط الحيرة اللامتناهية التي اغرورقت بها عينا الطفل الفلسطيني؟ هل من نص قادر على التعبير عن الألم الذي اعترى الأب حين انحنى على جسد الطفل منتحباً كالأم الحزينة؟ لعلّ اللحظات التي التقطتها كاميرا ذلك الصحافي في أرض المعركة ستظلّ اللحظات الأشدّ شاعرية لأنها اللحظات الأشدّ واقعية وصدقاً بل الأشدّ ألماً وعرياً... إنها اللحظات التي سنظل نشاهدها كي لا ننسى نظرة الطفل الفلسطيني التي لا تضاهيها نظرة، وانتحاب الأب الفلسطيني الذي لا يضاهيه انتحاب في ملحمتنا الفلسطينية. سنظلّ نشاهد تلك اللحظات كي لا ننسى جرائم تلك الأيدي الملطخة بالدماء الحمراء القانية وبالدماء السوداء، أيضاً دماء العصور القديمة.