Jean-Francois Soulet. L'Empire Stalinen. الامبراطورية الستالينية. L.G.F, Paris. 2000. 254 Pages. كان من عادة البلاشفة ان يصفوا روسيا القيصرية بأنها "سجن الشعوب". لكن هذا الوصف لا يصدق على شيء كما على "الامبراطورية الستالينية" التي تمخضت عنها الثورة البلشفية نفسها. صحيح ان البلاشفة قد عملوا في طور أول على إطلاق الشعوب من سجنها. فغداة ثورة اكتوبر مباشرة صدر "مرسوم القوميات" الذي يقر "المساواة والسيادة لشعوب روسيا وحقها في تقرير المصير والانفصال". ثم بادر البلاشفة خلال العام الأول من الثورة الى الاعتراف بسيادة واستقلال بولونياوفنلندا ودول البلطيق الثلاث استونيا وليتوانيا ولاتفيا، وبضم بسارابيا الى رومانيا. لكنهم ما لبثوا في طور ثان، وفي سنوات الحرب الأهلية 1919 - 1921، ان انقلبوا على استراتيجيتهم الديموقراطية في مسألة القوميات، وانطلقوا يستعيدون بقوة السلاح الشطر الأكبر من الامبراطورية القيصرية الهائلة الاتساع 22 مليون كم2 وينشئون حول روسيا "الروسية" حزاماً أمنياً يمتد من آسيا الوسطى الى أوكرانياوبيلوروسيا والقوقاز أذربيجان، ارمينيا، جيورجيا. وبعد ان كانت العلاقات بين "الشعوب" تقوم، حتى في ظل العهد القيصري، على أساس اتحادي، فإن الدستور الجديد الصادر عام 1924 لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، قد اعتمد مبدأ المركزية المشتطّة وجرّد الجمهوريات المتحدة من صلاحياتها في مجالات الديبلوماسية والدفاع والشرطة والنقد والتخطيط الاقتصادي. وما كاد ستالين يستولي على السلطة ابتداء من 1927 ويصفي تباعاً جميع منافسيه من قياديي الحزب البلشفي حتى اندفع في سياسة "ترويس" على الطريقة القيصرية، ساعياً بكل الوسائل - بما فيها الحلف مع الشيطان النازي - الى "استعادة" الدول البلطيقية وبولونيا وبسارابيا. وقد اتخذ الترويس في عقد الثلاثينات أشكالاً ثلاثة: اً- القمع المباحثي والتصفية الجسدية لجميع "القوميين"، في المكاتب السياسية واللجان المركزية للاحزاب الشيوعية الاوكرانية والجورجية والطاجكستانية وغيرها. 2ً- الاستيطان الروسي في الأورال وسيبيريا وآسيا الوسطى عن طريق ارسال الملايين من المعمرين الروس لقيادة عملية التحويل الاشتراكي والتصنيع، مما رفع نسبة السكان الروس في طاجكستان من 0.7 الى 9 في المئة، وفي قرغيزستان من 12 الى 20 في المئة. 3ً- الاستعادة المباشرة للأراضي "الضائعة" أثناء الحرب الاهلية بالطريقة الديبلوماسية والعسكرية معاً. ذلك ان ستالين وقّع مع هتلر "حلف عدم عدوان" في 23 آب اغسطس 1939، مقروناً ببروتوكول سري ينص على تقاسم مناطق النفوذ بين المانيا والاتحاد السوفياتي، ويقر للاخير "بحقه" في استرجاع فنلندا واستونيا ولاتفيا والأراضي الأوكرانية والبيلوروسية المضمومة الى بولونيا بموجب معاهدة ريغا لعام 1920. وبالفعل، وتنفيذاً لبنود البروتوكول وتلبية لنداء "الاخوة بالدم الاوكرانيين والبيلوروسيين" اجتاحت القوات السوفياتية في 17 ايلول سبتمبر 1939 القسم الشرقي من بولونيا واستولت على مساحة من الأراضي تبلغ 200 ألف كم2 مأهولة ب12 مليون نسمة. ثم عمدت في الشهر التالي الى اجتياح دول البلطيق الثلاث ونشرت فيها 800 ألف رجل وأعلنتها في آب 1940 جمهوريات اشتراكية مندمجة بالاتحاد السوفياتي بعد تصفية ملاكاتها السياسية والتهجير لجماعي لنخبها الى سيبيريا. في عقد الاربعينات، وفي اطار الملابسات الجيوبوليتيكية للحرب العالمية الثانية، فر ضت السلطة السوفياتية هيمنتها على ست دول من أوروبا الشرقية والوسطى: بلغارياورومانياوبولونياوهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانياالشرقية. وقد قامت هذه الامبراطورية الجديدة على أساس من العنف الارهابي والانتماء الايديولوجي معاً. فباسم النضال ضد الفاشية تتابعت في بلغارياوهنغارياورومانياوالمانياالشرقية حملات التصفية للنخب السياسية سجناً ونفياً وإعداماً، وتم "تطهير" الجيوش الوطنية لبولونيا وتشيكوسلوفاكيا عن طريق التصفية الجماعية لضباطها وابدالها بعناصر قيادية جديدة تم تدريبها في مدارس الجيش الاحمر في الاتحاد السوفياتي. وجرى في الوقت نفسه اخراج ديموقراطي لعملية التوسع الأوروبي الشرقي للامبراطورية الستالينية عن طريق تنظيم انتخابات معلومة النتائج سلفاً واجبار الاحزاب الاشتراكية والفلاحية المحلية على الانضواء في جبهة وطنية واحدة بقيادة الشيوعيين، وأخيراً عن طريق تعميد الجمهوريات الأوروبية الشرقية المغلوبة على أمرها باسم "الديموقراطيات الشعبية". ولكن ابتداء من 1948 حدث تحول جذري في كيفية الاستتباع السوفياتي لدول أوروبا الشرقية. فبين 1940 - 1948 انصب مجهود القيادة الستالينية والقيادات المحلية الدائرة في فلك الاجهزة الامنية السوفياتية على تدمير بنى المجتمع المدني للديموقراطيات الشعبية من احزاب سياسية ومؤسسات دينية ونخب علمانية. فتحت شعار "تصفية اعداء الشعب" اعتقل عشرات الألوف من اعضاء الاحزاب الاشتراكية والفلاحية واليمينية المعتدلة، وزجّ بالألوف من الوزراء والنواب والضباط السابقين في السجون. وامتدت الحملة الى رؤوس الكنيسة الكاثوليكية القوية النفوذ في بولونيا وليتوانيا وهنغاريا وسلوفاكيا. ففي بولونيا اعتقل الكاردينال فيسيزنسكي ومئات من الأساقفة والكهنة، وفي تشيكوسلوفاكيا اعتقل رئيس أساقفة براغ ومعه العديد من رجال الدين والرهبان الذين تم نفيهم لاحقاً الى الخارج. وفي رومانيا اعتقل جميع الأساقفة الكاثوليك بلا استثناء، ثم زُجّ في السجون بألف واربعمئة كاهن وبخمسة آلاف من اتباع الكنيسة اليونانية - اللاتينية. ولكن بعد ان كان رأس حربة الارهاب موجهاً على هذا النحو نحو "اعداء الشعب" الموصومين بأنهم من عملاء الفاشية والنظام القديم، برز ابتداء من 1948 عدو "طبقي" جديد يتمثل هذه المرة بالشيوعيين "القوميين". ففي ذلك العام وقع الانشقاق اليوغوسلافي، وغدا "الخونة التيتويون" - وذلك هو الاسم الذي أُطلق في حينه على الشيوعيين القوميين في بلدان اوروبا الشرقية - هم رأس "المؤامرة الامبريالية" المطلوبة اطاحته بأي ثمن. ودبّت حركة رعب حقيقي في جميع الاحزاب الشيوعية الاوروبية الشرقية. وهبّت منذ صيف 1948 عاصفة تطهير طالت عشرات الألوف من "الرفاق المشكوك في امرهم" ففصل منهم من فصل وحبس من حبس واعدم من أُعدم. وكان ابرز من طالتهم هذه العاصفة من القياديين فلاديسلاف غومولكا الامين العام للحزب الشيوعي البولوني الذي اتهمته اللجنة المركزية ب"الانحراف اليميني القومي" وكذلك لاسلو راجك، وزير داخلية وخارجية هنغاريا والقائد السابق للألوية الاممية في الحرب الاهلية الاسبانية، الذي حوكم واعدم، مع 94 من انصاره، بتهمة "العمالة للامبريالية الاميركية والتواطؤ مع العصابة التيتوية المرتدة عن الاشتراكية والديموقراطية". ودوماً بتهمة التواطؤ مع "الخائن" تيتو اعتقل في بلغاريا ترايتشكو كوستوفا - الابن الروحي لزعيم الحزب ديمتروف - وقدم مع تسعة من "النشطاء الكومنتريين" الى المحاكمة. ولم يؤد تراجعه اثناء المحاكمة عن "اعترافاته" الا الى تسريع اصدار الحكم باعدامه وتنفيذه. وكان آخر من دفع ثمن هذه الحملة ضد "التحريفية القومية" رودولف سلانسكي، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي عام 1928، والمسؤول عن جماعات المقاومة ضد المحتل النازي لدى الكومنفورم، والامين العام للحزب منذ 1945 ونائب رئيس الوزراء منذ 1951. ومن سخرية الاشياء انه هو الذي نيطت به مهمة "مطاردة الساحرات" من الرفاق المشتبه في نزوعهم "القومي" وهو الذي كان، قبل سنة من محاكمته واعدامه، قد قاد الى المصير نفسه رفيقه في المقاومة غوستاف هوساك، وزميله في الحكومة كليمنتيس، وزير الخارجية السابق، فانتهى معهما في قفص الاتهام نفسه وفي منصة الاعدام ذاتها. في 6 آذار مارس 1953 اعلن راديو موسكو ان "قلب جوزيف ستالين، رفيق السلاح للينين والمتابع العبقري لعمله، والمرشد الحكيم والمربي للحزب الشيوعي والشعب السوفياتي" قد توقف عن النبض. وكان للنبأ في داخل روسيا وقع الفاجعة، فبكته الملايين. ولكن لدى جميع الشعوب السجينة اقترن الحداد بتنهدة خلاص، او بالاحرى امل في الخلاص. وفي معسكرات الاعتقال التي كان وصل تعداد نزلائها الى 2.5 مليون سجين - معظمهم من القوميين البلطيقيين والاوكرانيين - اندلع تمرد اقتضت السيطرة عليه تدخل المدفعية والطيران، وتمخض عن وقوع 46 قتيلاً بموجب المصادر الرسمية، واكثر من 700 قتيل حسب روايات الشهود. وفي اوروبا الشرقية تلاحقت اضرابات الطبقة العاملة المستاءة من تدهور اوضاعها الاقتصادية ومن تفاقم شروط العمل، وفي العاصمة التشيكوسلوفاكية مزّق العمال المضربون صور القادة المعلّقة في الشوارع وداسوا بالاقدام العلم السوفياتي. وكان اعنف تمرد عمالي هو ذاك الذي شهدته مدن المانياالشرقية، لا سيما في اوساط عمال البناء المعروفين بدرجتهم العالية من الكفاحية، ولم يستطع المسؤولون السوفياتيون ان يضعوا حداً للتظاهرات المعادية الا بعد ان ارسلوا دباباتهم ومصفحاتهم التي اوقعت يوم 17 حزيران يونيو 1953 قرابة 500 قتيل. اما عدد من اوقفوا وأُبعدوا الى المعتقلات السوفياتية فبلغ نحواً من 25 ألفاً. ثم كانت الوفاة الثانية لستالين، ولكن بدون دموع ولا مظاهر حداد هستيرية هذه المرة، عندما كشف خروتشوف النقاب امام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 عن بعض من الجرائم الستالينية. وللحال ايضاً تجددت امل الشعوب السجينة في الخلاص، لا سيما بعد ان اضطرت القيادات المحلية في بلدان اوروبا الشرقية الى اطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين. ففي بولونيا، حيث عاد غومولكا يتولى زعامة الحزب بعد اطلاق سراحه مع ثلاثين الفاً من "الرفاق"، نزل مئتا الف من سكان وارسو الى الشوارع يهتفون "للرجل الذي قال لا للروس". وفي تشيكوسلوفاكيا قاد ايمر ناجي المردود اليه هو ايضاً اعتباره، انتفاضة عمالية انتهت باعدامه وبسقوط 20 ألف قتيل وجريح بنيران المصفحات السوفياتية. ولسوف تتكرر في 1968 محاولات التحرر الذاتي لبلدان اوروبا الشرقية ربيع براغ وبودابست، لكن جميع هذه المحاولات الشيوعية القومية لن يُكتب لها النجاح ازاء الصلابة البيروقراطية والايديولوجية للقيادات السوفياتية ما بعد الستالينية. والواقع انه ما كان للامبراطورية السوفياتية ان تنهار الا من داخلها، لا من اطرافها. وهذا بالضبط ما فعله يلتسن عام 1989 عندما لعب الورقة القومية الروسية ضد الورقة الاتحادية السوفياتية لخصمه غورباتشوف، فتفكّكت الكتلة السوفياتية وانهارت الشيوعية نفسها كنظام ايديولوجي. لكن هذه قصة اخرى يفترض ان يغطيها جزء ثانٍ من هذا التاريخ للجناح الاوروبي الشرقي من العالم المعاصر.