أصيبت الطبقة السياسية في المانيا، الحاكمة منها والمعارضة، بصدمة شديدة بسبب الهجوم العنيف الذي شنه وزير الداخلية الفرنسية جان بيار شوفنمان على المانيا، متهماً اياها بأنها لا تزال تفكر بمنطق الرايخ الثالث، في معرض رده على تصورات وزير خارجيتها الاخضر يوشكا فيشر حول أوروبا الموحدة المستقبلية. وكان فيشر قد القى خطاباً قبل اسبوعين من هجوم شوفنمان في جامعة هومبولدت في برلين ركز فيه على ضرورة فتح الاتحاد الأوروبي شرقاً وجنوباً وتعميق الوحدة، مضيفاً أن التصور الاساسي للاتحاد يتمثل في تسريع قيام نواة من الدول الراغبة في الاندماج والنمو المشترك، على ان يخرج في النهاية اتحاد فيديرالي يضم دولاً قومية متعددة. ودعا الوزير الاخضر الى تقسيم السيادة الأوروبية بين الدول القومية وبين الاتحاد الفيديرالي الأوروبي، بحيث تترك للدول الاعضاء صلاحيات واسعة. ورداً على ذلك اتهم وزير الداخلية الفرنسي المعروف ب"انزلاقاته" السياسية، المانيا ب"وجود اتجاه لديها لتفصيل الفيديرالية الأوروبية على قياس نموذجها". وأضاف: "وفي الواقع فإنها لا تزال تحلم بالرايخ الجرماني - الروماني". وفي الوقت الذي أثارت تصريحات شوفنمان على الفور زوبعة من ردود الفعل المنتقدة والمعارضة في فرنسا، أدت في النهاية الى تراجعه نسبياً عن كلامه والى محاولة التخفيف من وقعه في ما يخص استمرار الماضي القومي النازي في المانيا، بقيت برلين الرسمية صامتة تماماً. ولم تشأ الحكومة الالمانية الرد ولو بكلمة واحدة على كلام شوفنمان الذي اعتبر بعض السياسيين الديغوليين المعارضين في فرنسا أنه "أهان الشعب الألماني" و"شكك في أربعين سنة من الحوار الفرنسي - الالماني وفي العمل اليومي الجاري لتطوير أوروبا". واكتفى متحدث باسم وزارة الخارجية الالمانية لم يشأ ذكر اسمه، بالقول ان الوزارة لا تعلق على كلام شوفنمان، مشدداً على ان برلين ستدعم الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي التي ستبدأ مطلع الشهر المقبل من أجل انجاح عملها. وذكرت أوساط الحكومة الالمانية ان برلين تتمسك بعلاقة وثيقة مع باريس مشيرة الى ان المستشار غيرهارد شرودر ووزير خارجيته فيشر توصلا مع الرئيس جاك شيراك ورئيس حكومته ليونيل جوسبان ووزير الخارجية هوبير فيدرين خلال اللقاء في رامبوييه نهاية الأسبوع الماضي، الى اتفاق على تمتين العلاقات. وتجدر الإشارة الى ان فيدرين علق بنفسه على نتائج اللقاء قائلاً انه الأنجح الذي عقد حتى الآن ابان عهده كوزير، ملاحظاً انه أعطى دفعة جديدة للعلاقات بين البلدين. وقد تقرر في اللقاء ان يزور فيدرين برلين نهاية هذا الاسبوع ويجتمع مجدداً مع فيشر، حيث من المؤكد ان تكون تصريحات شوفنمان على رأس ما سيجري بحثه. واذا كانت برلين الرسمية، وخصوصاً الوزير فيشر، فضلت السكوت وعدم الرد حرصاً على العلاقات بين البلدين، فإن ذلك لا يعني ان المسؤولين الالمان لم يقفوا حائرين أمام سؤال: كيف يمكن لوزير أساسي في الحكومة الفرنسية ان يتفوّه بمثل هذا الكلام في توقيت غريب. فشوفنمان لم يقل ما قاله مباشرة بعد اعلان فيشر لتصوراته الأوروبية أو بعد يومين أو ثلاثة، وانما بعد مرور حوالي اسبوعين عليها، بل مباشرة بعد انتهاء لقاء القمة الفرنسية - الالمانية في رامبوييه الذي اعتبرته فرنسا أنجح لقاء بين البلدين. والأنكى من ذلك انه يأتي عشية تسلم فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي فكأنها تنقصها المشاكل والنزاعات مع من يفترض ان يكون اكثر الأقوياء الاوروبيين قربا منها. والسؤال الآخر الذي لا يزال يحيّر برلين الرسمية يتمثل في ان ردود الفعل العنيفة على شوفنمان في فرنسا لم تشمل أي موقف واضح من الرئيس شيراك ومن رئيس الحكومة جوسبان الذي رفض التعليق على الأمر وعلى مطالبة نواب ووزراء الخضر في حكومته بطرح الموضوع في البرلمان وإقالة وزير الداخلية. وهذا أمر صعب الفهم هنا، وكان من الممكن له ان يُسدل الستار على "انزلاق" وزير داخليته في أمر حساس جداً لدى الألمان، خصوصاً لدى الاشتراكيين والخضر. وكان من المستغرب ايضاً ان "يشتكي" المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، دانيال فاليان، من الضجة التي قامت في باريس ملاحظاً ان تصريحات شوفنمان أثارت في الجانب الفرنسي من نهر الراين تعليقات وردود فعل أكثر مما حدث على الجانب الألماني من النهر؟! رغم تأكيده على متانة العلاقات بين البلدين. ويحق هنا التساؤل حول ما إذا كان لقاء رامبوييه ناجحاً بالفعل الى هذا الحد كما يدعي فيدرين، أو ما اذا كانت برلين قد طرحت أموراً ومواقف اعتبرتها باريس تطاولاً عليها أو تجاوزاً لها، الأمر الذي استدعى مثل هذه الصفعة على وجهها، خاصة وان المانيا تحاول منذ وصول شرودر الى السلطة البروز بثقة جديدة بالنفس وتجاوز عقدة الذنب التي ولدها تاريخها النازي في أوروبا. ونحن نعرف ان العلاقات بين البلدين لم تشهد الحرارة المطلوبة منذ البداية حينما حاول شرودر اقامة محو ثلاثي الماني - بريطاني - فرنسي على حساب المحور الثنائي الالماني - الفرنسي المعروف منذ 40 سنة، وفشل بسبب عدم استعداد لندن. وعلى اية حال لا يمكن لشيراك أو لجوسبان وحزبه الاشتراكي الاكتفاء بتخفيف وقع كلام شوفنمان دون ادانته ونفض اليد من انزلاقه. يضاف الى ذلك ان الأخير نفسه لم يتراجع كثيراً عما قصده معتبراً ان فكرته "صحيحة لكنه طرحها بشكل ضيق ومعقد"، رغم التفسيرات والاعتذارات والتصحيحات التي قدمها أرسل رسالة توضيح خاصة الى وكالة الانباء الالمانية ايضاً بأنه لا يقصد ما فُسر من كلامه، وانه يحترم المانيا والألمان ويتحدث الالمانية بطلاقة ويسافر بسرور الى هذا البلد . ويمكن اتهام المانيا بالكثير من الامور، الا ان اتهامها بأنها لا تزال تحلم بالرايخ الثالث في ظل حكومة اشتراكية - خضراء أمر يستدعي التوقف والإدانة المطلقة بعد مرور نصف قرن على الحالة النازية. اما فيشر نفسه فيمكن القول انه من فئة المثقفين الأوروبيين التي تعي وعياً عميقاً - تماماً كما شرودر وكول سابقاً - أن ضمان مستقبل البيت الأوروبي هو ضمان لمستقبل بلادها نفسها، هذا حتى لا نذكّر بتكونه السياسي منذ ان كان طالباً يسارياً تربى على معاداة النازية القديمة والنازية الجديدة والتطرف القومي والعنصرية ومعاداة الاجانب. لكن يبقى ان ثمة من يبحث عن أسباب "منطقية" لموقف شوفنمان بما يتعدى الموقف الشخصي. اذ يبدو ان الخشية من هيمنة المانية على أوروبا لا تقتصر عليه!