الشاي والقهوة يقللان الإصابة بالسرطان    المملكة توزع 2.100 حقيبة إيوائية في شمال قطاع غزة    لاعبو عمان: جمهورنا كان اللاعب رقم 11 بعد النقص العددي أمام السعودية    تعزيز التوسع العالمي لعلامة جايكو و أومودا مع إطلاق مركز توزيع قطع الغيار في الشرق الأوسط    غزة بين نيران الحرب وانهيار المستشفيات    انخفاض عدد سكان غزة بنحو 160 ألف نسمة في نهاية 2024    ضبط إثيوبيين في جازان لتهريبهما (87663) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي    «تعليم مكة» يُكرم 1000 طالب وطالبة لتفوقهم خلال العام الدراسي 1445 ه    أكثر من نصف مليون مستفيد من برامج "جمعية أجياد للدعوة" بمكة خلال عام 2024م    غارات أمريكية وبريطانية تستهدف صنعاء    ولي العهد يعزي رئيس وزراء بريطانيا في وفاة شقيقه    سعود بن نهار يلتقي العتيبي    أمطار وصقيع على الشمالية    أمير المدينة المنورة يرأس اجتماعاً لمناقشة استعدادات الجهات المعنية لاستقبال شهر رمضان    "الجاسر" يقف ميدانيًا على مشروع مطار جازان الجديد    أنجلينا جولي وبراد بيت يتوصلان إلى تسوية بشأن الطلاق بعد نزاع 8 سنوات    ضبط 7 سوريين في الرياض لارتكابهم حوادث احتجاز واعتداء واحتيال مالي    كونسيساو مدرب ميلان يتحدى ابنه في ظهوره الأول مع الفريق    مدير عام «مسام»: نجحنا في انتزاع 48,705 ألغام في عام 2024    أمير حائل يستقبل مدير الدفاع المدني    نائب أمير تبوك يستقبل مدير شرطة المنطقة    سوق الأسهم السعودية ينهي آخر تعاملات عام 2024 باللون الأخضر    أصول الصناديق الاستثمارية العامة تتجاوز ال 160 مليار ريال بنهاية الربع الثالث 2024م .. 84% منها "محلية"    تطبيق "سهم" يتجاوز حاجز المليون مستخدم في عام واحد فقط    مجلس الوزراء يشيد بنجاحات القطاع غير الربحي    انتهاء مدة تسجيل العقارات لأحياء 3 مدن.. الخميس القادم    التعاونية وأمانة منطقة الرياض تطلقان "حديقة التعاونية"    «الإحصاء»: معدل مشاركة السعوديات في القوى العاملة يصل إلى 36.2%    بتوجيه من القيادة.. وزير الدفاع يبحث مع الرئيس الإماراتي التطورات الإقليمية والدولية    هل يكون 2025 عام التغيير في لبنان؟    الصحة: إيقاف طبيب أسنان مقيم لارتكابه عددًا من الأخطاء الطبية في الرياض وتبوك    صناعة المحتوى الإعلامي في ورشة بنادي الصحافة الرقمية بجدة    النصر بطلًا لكأس الاتحاد السعودي لقدم الصالات    ميزة لاكتشاف المحتوى المضلل ب «واتساب»    المملكة تواسي حكومة وشعب كوريا.. القيادة تعزي الرئيس الهندي    ابق مشغولاً    مداد من ذهب    هزل في الجِد    هل قمنا بدعمهم حقاً ؟    رحلات مباركة    في نصف نهائي خليجي 26.. الأخضر يواجه عمان.. والكويت تلاقي البحرين    التأكد من انتفاء الحمل    زهرة «سباديكس» برائحة السمك المتعفن    مركز مشاريع البنية التحتية بمنطقة الرياض يعلن تفعيل أعماله في 19 محافظة و47 بلدية    نائب أمير مكة يطلع على أبرز المشاريع المنجزة بمحافظات المنطقة    لغير أغراض التحميل والتنزيل.. منع مركبات توصيل الأسطوانات من التوقف في المناطق السكنية    «الصفراء» حرمتهم.. والمدرج مكانهم    مُحافظ جدة يُكرّم عدداً من ضباط وأفراد مكافحة المخدرات    القهوة والشوكولاتة.. كماليات الشتاء والمزاج    5 فوائد للشاي الأخضر مع الليمون    مجلس إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون يعقد اجتماعه الرابع لعام 2024    أمير الشرقية يشدد على رفع الوعي المروري    مغادرة ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة عُمان في نصف نهائي خليجي 26    كلام البليهي !    التغيير العنيف لأنظمة الحكم غير المستقرة    13 ألف خريج وخريجة من برامج التخصصات الصحية    التعصب في الشللية: أعلى هرم التعصب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقنية الرفيعة، لا سيما الانترنت، حيال سؤالي الديموقراطية والتقدّم
نشر في الحياة يوم 20 - 05 - 2000

ينطلق غوردون غراهام من سؤال بسيط: ما الذي ينبغي ان نفكّره في ما خص هذه الظاهرة الجديدة: الانترنت؟ هل علينا ان نخافها ام ان نرحّب بها بأذرع مفتوحة؟
والحال أنه في كتابه "الانترنت: تقصّ فلسفي" راوتليدج يحاول احتضان الحوار بين الطرفين المتخاصمين وادارته: اي المصابين بعشق الانترنت واللوديتيLuddites. وهؤلاء الاخيرون اكتسبوا تسميتهم من نِد لود Ned Luddفي مطالع القرن التاسع عشر. فقد اقدم اتباعه ومؤيدوه آنذاك على تحطيم الآلات في معامل يوركشاير ونوتنغهامشاير في انكلترا الثورة الصناعية، مخافة ان تدمّر هذه الآلات اعمالهم ومصادر رزقهم. وكائنة ما كانت الظلامات النازلة، او المهددة بالنزول، بهم، فقد دفعوا غاليا مقابل افعالهم إذ حوكموا وشُنقوا.
لكن الابعد من الطريقة الهمجية التي عوملوا بها، وكانت طريقة رائجة حينذاك، هو لاجدوى محاولتهم وقف التقنية الجديدة الداخلة الى صناعة النسيج، وعقم هذه المحاولة في حجز تغيير العالم عن طريق التقدم. والمقصود ليس فقط عالم المنتوجات النسيجية بل الانتاج الصناعي ككل.
فقد كان لود وصحبه مهمومين بمقاتلة المستقبل، ولذا كان لا بد ان تفضي معركتهم الى هزيمة، فاقتصرت مساهمتهم في التاريخ على اعطائنا اسماً يمكن اطلاقه على هذا الصنف من المعارضات الذي لا يني يظهر ممثلون له وناطقون بلسانه.
وما من شك في ان التعبير الاحدث، والابشع، عن اللودية الجديدة هو ما مثّله يونابومبر في الولايات المتحدة، لأن حملته ضد التقنية الجديدة اتخذت شكل زرع القنابل في الجامعات وشركات الطيران. وبعد طول تكتم على هويته، تبين لدى انكشافها ان يونابومبر هو الدكتور ثيودور كاشينسكي، عالم الرياضيات اللامع الذي تقاعد بعد فترة وجيزة من امتهانه العمل الاكاديمي. وفي تقاعده انزوى في احدى غرف مونتانا حيث تابع حملته ضد التقنية الحديثة. وبضغط من المدعي العام الاميركي، نشرت "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، في 1995، مانيفستو يونابومبر المُعنوَن "المجتمع الصناعي والمستقبل".
لكن اذا كان من السهل اتهام هذا الرجل بالعته والجنون، فمن الصعب عدم الانتباه الى حجم الدائرة التي مثّلتها افكار المانيفستو: ذاك ان "الثورة الصناعية وتأثيراتها كانت كارثة على الجنس البشري. لقد زادت لنا، على نحو عظيم، توقعات حياة الذين يعيشون في بلدان "متقدمة". لكنها اخلّت بتوازن المجتمع، وجعلت الحياة غير قابلة للتحقيق، واخضعت الكائنات الانسانية لعناصر مُهينة، وقادت الى آلام بسيكولوجية في العالم الثالث فضلاً عن الألم المادي ايضاً وانزلت اضراراً ضخمة بالعالم الطبيعي".
وغني عن القول ان كلاما كهذا ذو شعبية لا يُستهان بها في العالم قاطبة، وهو ما يقابله، عند المصابين بعشق التقنية من ذوي "ايديولوجيا التقنية"، الظن بأن الابداع والتجديد في هذا المضمار هما علاج العلل جميعاً. لكن هؤلاء يفترضون ايضاً ان من هو اكثر تقدماً تقنياً هو الافضل بالمطلق، وهي السمة التي ربما شكلت اهم سماتهم المميزة. ففرضيتهم تلك لا تحملهم على التأمل في حقيقة الكوارث العظمى التي حصلت في ظل التقدم التقني، وكانت النازية التي هي اكبرها، واحدة منها. فاذا جاز ان العالم يتحول على يد تقنية المعلومات، وهو يفعل وسوف يمضي على هذا النحو، الا ان من التبسيط الجزم بغائية ايجابية تنجم بذاتها، وفي صورة آلية، عن هذا التحويل.
اما الانترنت تحديداً فينبغي البدء، لدى تقييم جدّته، بوصفه. وهذه مهمة اصعب مما يُفترض للوهلة الأولى لأنه، هو الذي تخضع تقنيته للتغيير المذهل، تظهر له استخدامات وملامح جديدة بوتيرة يومية. فمن غرائبه انه وجد على قيد الحياة كنظام مواصلات لدى الجيش الأميركي، وكان الغرض منه تزويد القوات المسلحة وسائل مضمونة وآمنة لايصال المعلومات السرية الى حيث ينبغي ان تصل. اي انه ولد بوصفه نوعاً من نظام بريدي اليكتروني وداخلي. وامتد هذا النظام الى العالم الاكاديمي لمساعدة الطلاب في بحثهم عن المعلومات.
والآن تحول البريد الاليكتروني الى وجهه الاستخدامي ذي الفائدة الفورية والمباشرة، جامعاً بين وظائف البريد والفاكس والتليفون بكلفة رخيصة نسبياً. وقد جعلته سهولة الاستعمال وفورية التوصيل جذاباً لأعداد لا تني تتضخم بسرعة. لكن الانترنت، او بالاحرى "الشبكة"، اكثر بكثير من بريد اليكتروني. اذ فيه تتحد ملامح ووظائف المكتبة الضخمة والغاليري الواسعة ولوحة الاعلانات على نطاق عالمي. كما تلعب الشبكة، بصورة متزايدة، دور القاطرة في عملية التواصل بين اعداد هائلة، لا من الافراد فحسب بل من مجموعات المصالح ايضا. فهناك قدر من المعلومات يفوق الخيال، وملايين الصور من كافة الانواع، الشخصي منها والعام، الثابت والمتحرك. وقد بات في الوسع، كما هو معروف، اداء مهمات كثيرة من خلالها: كانجاز العلاقات البنكية والتبضّع وتبادل الوثائق وشراء البطاقات وغير ذلك.
ومن اجل ان نقترب مما هو الانترنت، سنحتاج الى تخيّل مركّب تجتمع فيه المكتبة والغاليري وستوديو التسجيل والسينما ولوحة الاعلانات والنظام البريدي والسوبرماركت وجداول الوقت والبنك والصف المدرسي والجامعي والصحيفة والنادي ومركز الابحاث ودار النشر. وعلينا بعد ذلك ان نضرب هذا كله بعدد غير محدود وان نعطي النتيجة مدى جغرافيا غير محصور .
هكذا نصل الى تشكيل فكرة عن حجم الانترنت ونطاقه، الا ان الفكرة هذه تبقى قاصرة عن تزويدنا بالفهم اللازم لعملية التواصل التي تجري داخله ومن خلاله. فالجميع تقريبا غدوا الآن يألفون تعبير "الإبحار على وجه الشبكة"surfing the net ، وهذه صورة ربما كانت مضللة قليلا. فهي قد تقترح المرور السلبي على سطح شيء ما، فيما الحياة الكامنة في لجّة الانترنت اقوى بكثير من الوصف هذا. فاذا صح ان في الامكان استخدام الشبكة مصدراً للمعلومات، شأنها شأن انسيكلوبيديا ضخمة، وانها تزوّدنا باداة تواصل جديدة وقيّمة لكي نبث او نعلن، فالصحيح ايضا انها تتعدى كونها طريقةً في مراقبة العالم الى صيرورتها طريقة للحضور فيه، لا بل السلوك والتصرف. وهذا بالضبط ما طرح في التداول تعبير "الفضاء السّبراني" Cyberspace، وهو بُعد "حيّزي" جديد كلياً خلقته السبرانيات، بُعدٌ يمكننا العيش فيه.
فما دام الحضور في الفضاء السبراني نوعاً آخر من الكينونة، مميزاً عن الكينونة داخل اجسادنا، فهذا بذاته كفيل بحملنا على الاقرار بأن الانترنت تقنية جديدة بالمعنى الراديكالي للكلمة.
لكن هذه الشبكة ذات المدى الكوني هي سلطة للذين يملكون رغبة في التأثير على المجريات. فعلى عكس الوسيط السلبي الآخر، التلفزيون، يوفّر طابعها التفاعلي للمواطنين العاديين القدرة على ممارسة تأثير غير مسبوق على الاحداث السياسية والاجتماعية التي تعنيهم. وحين تمتد سلطتهم درامياً الى هذه المجالات العامة او القطاعية لحياتهم، فانها تمنحهم درجة اكبر بكثير في ما خص استقلالهم الشخصي. وهذا يعني ان في وسع الانترنت ان يعزز الى ابعد الحدود القطاع الاشد اساسية وحميمية في الحياة الانسانية، وان يشبع، من ثم، ضرورة لا تقل ضروريةً عن الرفاه المادي.
لكن الانترنت ايضا يستجيب معياراً آخر من معايير الجدّة الراديكالية، اذ يؤشّر الى التغير الكبير في الاشكال الاجتماعية والثقافية. وهو يفعل هذا عن طريق تعطيل الحدود الوطنية وتخريبها. فالشبكة "كونية" كما تقول تسميتها بحق. لقد اوجدت درجة من الاممية غير مسبوقة، وبتعطيلها الحدود ترسم علامات استفهام على سلطة الدولة بصفتها القوة المسيطرة في العلاقات الاجتماعية، ومن ثم تتيح اعادة صوغ الجماعات بما يقدّمها اكثر فردية. واما اعادة الصوغ هذه فعملية تحويلية بالضرورة اذ تجعل سلوكات الافراد والجماعات قليلة الاكتراث بالامة - الدولة، اي بالمؤسسة التي دارت حولها وتكيّفت بموجبها الحياة الانسانية لعقود.
بيد ان ديموقراطية الانترنت وكونيته لا تذللان المشاكل جميعا. فما لا يزال من المغري طرحه وتقليب اوجهه هو ما اذا كان التجديد التقني يوفّر ادوات افضل لخدمة اهداف اخلاقية ومفيدة. وما يمكن قوله في هذا المجال هو، اولاً، ان عملية التجديد هي، على الاقل في جزء اساسي منها، عملية تجريب واكتشاف. وثانياً، انها توسّع نطاق الاهداف ذاتها التي كنا نضعها نصب اعيننا، كما تعدّل تصوّرنا عنها. وثالثاً، ان ما سبق يجعلها عملية نمو وتطور، ما يسعه ان يثير اهدافا جديدة كليا.
وما ينجم عن ذلك ان تصير محاولة تقويم أية تقنية جديدة اكثر تعقيدا من الطرق القديمة والبسيطة في طرح ثنائية الوسائل التي تخدم الأهداف. فاذا اضفنا النقطة الرابعة والاخيرة، وهي ان الوسائل والاهداف ليست متمايزة الا نسبيا، بدا لنا ان من الخطأ الاعتقاد بربط تقويم التقنية بالجدوى الاستعمالية وحدها، اذ هي تتعدى ذلك الى مفهوم "القيمة" بذاتها.
وقبل تناول الطبيعة الديموقراطية للانترنت، ينبغي ابداء بعض التحفظ في ما خص المحطة التي بلغتها الشبكة في تطورها. فمع ان استخدامها وشعبيتها ينموان بوتائر غير مسبوقة، يجدر الاستدراك بأن تطورها لم يكتمل بتاتاً. فهي تضعنا، وفي صورة متواصلة، امام مشروع لم يُنجز، وقد لا يُنجز ويتم. غير انها استقرت حتى اللحظة، وهذا يكفيها فخراً، عند تزكية حلم فينا قديم جداً، هو ذاك الذي يستبطن عالماً لا تقبل حرياتُه التعبيرية الكبت او الرقابة.
ففي وسع الانترنت، بادىء ذي بدء، رأب الصدع بين الديموقراطيتين المباشرة والتمثيلية. ذاك ان الممثلين المنتخبين لا يستطيعون حيال القضايا التي تستجد بعد انتخابهم، نقل آراء من اقترعوا لهم وتحويل ذلك الى سياسات عامة وراهنة. كما لا يمكن على الاطلاق توقع ما سيجدّ من قضايا في الحياة السياسية مما لم يكن مثاراً لحظة الانتخاب. وهذا فضلا عن ان مقترعين كثيرين لم ينجحوا اصلا في ايصال من اقترعوا له الى قبّة البرلمان.
كذلك ففي اي مجموعة انتخابية هناك اختلافات في الرأي بين المصوّتين للمرشح نفسه. وقصارى القول ان ثمة اسباباً كثيرة توجب توثيق الصلة وادامتها بين المرشح والمصوّتين له فلا تقتصر على الموسم الانتخابي، ولا تهدد تالياً بامكان الاخلال بالتفويض الديموقراطي.
وأساساً من خلال الصحافة والتلفزيون والمهرجانات الشعبية والاتصال المباشر مع الممثلين، يملك المقترعون الوسائل والفرص لايصال اصواتهم. الا ان التقنية الرفيعة تبقى اليوم الاقدر على تقصير المسافة وتكثير وسائل الاتصال بالمندوب البرلماني.
والانترنت، في هذا المجال، له فعالية خاصة قياسا بوسائط الاتصال الاخرى، فعاليةٌ لا تلبث ان تتحول تحريضاً على الاستخدام والتدخل.
فالبريد الاليكتروني ذو الوظائف العديدة يخلو من العيوب التي تتخلل الوسائط الاخرى.
فهو اذا كان يخدم كرسالة، الا انها رسالة من دون حاجة الى طابع بريدي وبريد. واذا كانت له فورية التليفون، الا انه لا يُجبر مستخدمه على الاجابة الفورية كما يفعل التليفون. وفضلا عن انه ارخص، فمن المألوف تحميله جواباً من كلمتين او ثلاث، بما يُعدّ "وقاحة" او "سلوكاً جافاً" في التليفون، ناهيك عن ان التليفون غير المحمول يُلزم المتحدثين بمكانين معينين، وهو ما لا يصح في البريد الاليكتروني الذي يجمع، والحال هذه، بين فورية التليفون وامتيازات البريد.
وما ينطبق هنا على الافراد ينطبق على الجماعات التي يسعها تعميم رسالة او موقف او بيان. فاذا كان تشكيل وادامة الاحزاب واللوبيات ومجموعات الضغط مفيدين في قطع المسافة الفاصلة بين الديموقراطية التمثيلية والديموقراطية المباشرة، فكل تقدم في تقنيات تشابه البريد الاليكتروني، او تتفرع عنه، تخدم هذا الغرض.
بيد ان الاخير، كما سبقت الاشارة، ليس هو الانترنت. انه مجرد واحد من ملامحه التي تستطيع كلها اداء وظائف ديموقراطية. فلنأخذ، مثلا، بناء صفحات على الشبكة يمكن التعامل معها ككاتالوغات لشركات ومؤسسات ومنظمات وافراد. فأول ما يُلاحَظ ان هذه الكاتالوغات قابلة للتغيير الدائم قابليتها لأن تضم رسوماً وصوراً متحركة وصوتاً، فضلاً عن النص والصورة الثابتة. كما يسعها ان توفر الفرصة لتلقي ردود الفعل الفورية عليها، ومن ثم التفاعل مع من هي موجهة اليه او اليهم.
واهم من هذا كله انه غدا في وسع الافراد، بالاعتماد على المادة المخزّنة المتعاظمة على نحو متواصل، ان يعرضوا كفاءات ومهارات كانت لتقتصر، لولا الانترنت، على المهندسين او الفنانين او الطوبوغرافيين، اي على الاختصاصيين في حقل التناول المعني. ولتقدير معنى هذه الدمقرطة، لا بد من المقارنة بالراديو والتلفزيون: اذ على رغم تكاثر الشبكات التلفزيونية بارقام فلكية، لا يزال حضور فرد بذاته، او حتى جماعة بذاتها، على التلفزيون اصعب واعقد بما لا يقاس من حضورهما على الانترنت.
ولئن قيل، بصدق، ان استخدام الاخير لا يزال حكراً على محظوظين، ولو بمعنى واسع وفضفاض للكلمة، الا ان ما نعرفه عن سهولة انتشار التقنيات وسرعته يلغي التعويل على العنصر السلبي هذا.
لذلك لا يبالغ من يقولون ان الحياة الانسانية عرضة للتحول بسببه، لكن اتجاه التحول هو ما لا يزال عرضة للشك والاستفهام.
فاذا صح، وهو صحيح، ان تدفق المعلومات يخلق مواطنا اكثر وصولا الى المعلومات واعرف واقدر، بالتالي، على الاختيار، الا ان مقارنة الانترنت بالتلفزيون تتكفّل بتظهير حجم الحيرة حياله. فحين يظهر على الشاشة الصغيرة ما لا يعجبنا نغير القناة من دون ان يكون واضحا ما الذي سنقع عليه، اما في الانترنت فنمضي حتى نقع على ضالتنا.
وما يعنيه هذا ان الاخير ينطوي على ميل تعزيزي اكبر، ميلٍ يدفع باصحابه الى التوثّق مما هو قائم اصلا لديهم من رغبات وميول واهتمامات. ومع ان التفاعل مع المعلومات المضادة لموقف مستخدم الشبكة يبقى وارداً بطبيعة الحال، غير ان طردها او الاختيار فيها بما يلائم الموقف الاصلي يبقيان الحافز الاقوى. وهذا جميعاً يُسقط عن الانترنت امكانية ان تكون رقيباً عقلانياً على اللاعقلاني، او اداة فرز للتشوّش الذي يستدعي الفرز. لا بل هناك، من ثم، احتمال كبير بأن يعمل الانترنت على مفاقمة التجزوء السياسي والخَياري بدل مساهمته في بلورة اجماعات عقلانية. فالشبكة بوصفها فوضى فرضية لا تقل عن فرضية الشبكة بوصفها ديموقراطية. وما الاستخدام المتكاثر والفعال لها من قبل الفاشيين والشعبويين والعنصريين على انواعهم الا دليل ذلك. بيد اننا نجد انفسنا هنا، مرة اخرى، امام غموض يفوق الوضوح، إذ أليست الدولة، وهي الانجاز السياسي الاعظم في التاريخ، هي من انجب اشخاصا كهتلر وزملائه؟
والشيء نفسه يصح في العلاقة بمفهوم "الواقع الافتراضي" حيث نصل الى عالم الخرافة العلمية والفانتازيا، او هذا ما يفترضه كثيرون على الاقل. فاذا ما كانت مناقشة "الواقع الافتراضي" تزيل عن المخيلة كل قيد، فهذا يعني ان كل الضوابط الفعلية والمفهومية التي تحظى بقدر من الاجماع فيما تسيطر على توقعاتنا، تصبح ايضاً عرضة للازاحة.
وازاحة كهذه للقيود والضغوط قد تلائم الروائي او الشاعر، الا انها حرية قد لا تفيد كثيرا في عمليات البناء المجتمعي، او حتى في مجال التقصّي النظري والبحثي. فهي تلغي الفوارق بين اي توقع او افتراض وبين ما عداه من توقع او افتراض، بحيث تلتبس الامور بالقدر الذي تتباعد فيه وتتفرّد.
ومن زاوية اخرى مغايرة تماماً، يمكن القول ان ولوجنا ارض المتوهّم والمتخيّل عن طريق العلاقة ب"الواقع الافتراضي"، ليس مطلقاً. ذاك ان ثمة رقابات لا بد من الانتباه الى انها ترافقنا ونحن في هذه الارض، غير ان الرقابات هذه ذات اشتغال معكوس عما عهدناه قبلاً في الرقابات.
فما نتعاطى معه الآن بوصفه خيالاً علمياً محضاً، قابل لأن يكون في اللحظة عينها قد صار اختراعاً ينتمي الى دنيا الواقع. وهذا سبب اضافي لحصر العمل بعالم الواقع الافتراضي وتضييق نطاقه، والا التبست الحدود الفاصلة بين الانترنت كمعرفة وديموقراطية، والانترنت كفوضى.
وقصارى القول ان الشبكة تقع في مكان وسط ما بين مخاوف اللوديين وآمال المصابين بعشق التقنية.
فالتجديد التقني لا يمكن اعتباره، ولا يجب، مجرد تحسين لآلة تخدم غرضاً، اذ فيما يكتفي بعض التقنيات بالتعديل والتكييف تمارس اخرى مهمة التحويل العميق، وفي هذه الخانة تندرج الانترنت. مع هذا فليس محتّماً ان ينصبّ تحويلها في وجهة ديموقراطية متبلورة ونافعة، واذا فعلت فليس من الحاسم انها لن تعزز احدى النزعات الكامنة في الديموقراطية نفسها، اي تفضيل السياسات الاستهلاكية السريعة، او القناعات القائمة اصلا، على حساب الصنع العقلاني للقرار.
والامر الذي يمكن اسباغ درجة اعلى من الجزم عليه هو ان الانترنت مرشّح لتقوية، لا لاضعاف، تذرر الفرد وتحصّنه باخلاقيات وسلوكيات ومصادر امداد معرفي لا يتشارك فيها مع كثيرين. وهذه عملية لن تستطيع ان تلجمها محاولات الضبط الخارجية او التشكل الداخلي للوقائع الافتراضية التي هي محطات جديدة اخرى في التفرد.
غير ان هذه التوقعات السلبية ليست سلبية الا بالقياس الى تلك الايجابية المضخّمة لدى المصابين بعشق التقنية. فالواضح وضوح الشمس ان الانترنت حمل الينا وجوها انتفاعية جديدة ومصالح غير مسبوقة. ولسوف يمضي في اداء هذه المهمة معطوفة على تحويل انماط عيشنا ووجودنا جميعا.
وقد سبق لبنجامين فرانكلين ان قال في عبارة له شهيرة انه "ما من شيء مؤكد الا الموت والضرائب"، لكن الواضح ان ثمة اشياء اخرى مؤكدة، هي تلك الاوجه من وجودنا التي يمكن وصفها بأنها ملامح الطبيعة الانسانية والشرط الانساني. فاذا كانت التغييرات التي اتى بها اختراع السيارة او التليفون مدهشة، فليس اقل ادهاشاً ان الناس الذين تمتعوا بتلك الثمار استمروا يقرأون ويثمّنون افلاطون ونشيد الاناشيد وشكسبير وعمر الخيّام.
لكن، من زاوية اخرى، اذا صح ان التجديد التقني والكشف العلمي ساعدا في مكافحة المرض والفقر، الا انه سيكون وهماً افتراضنا القضاءَ على الفقر والمرض. فلا توجد لدينا الآن العلامات الكافية على ان التقدم التقني يزيل الحروب او يمنع الانتحار او ينهي ما بات جزءاً من اجزاء الوجود الانساني.
وفي المعنى هذا فإن الكلام عن تحويل الانترنت لنا لن يكتمل بغير الحديث عن تحويلنا، نحن، له. وتحويلنا نحن هو ما سيكون الفعل الاكبر والفعل التقريري.
وهذا لئن ذكّرنا بالمقايضة الفاوستية الشهيرة مع الشيطان، فقد سبق لهايدغر ان اختصر الإشكال على نحو بليغ لم تقلل من اهميته التطورات الكثيرة اللاحقة بما فيها التقدم التقني: "فالمسألة التي تخص التقنية ترتبط مباشرة بما هو مُراد منها ان تكونه". والبشر هم الذين يريدون.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.