تعبير جديد ظهر في اللغة الانكليزية: "مستخدمون سابقون للانترنت". استقصاء رأي يقول ان 28 مليون اميركي وحوالي مليوني بريطاني، هم أصلاً من غلاة الانترنتيين، صاروا "مستخدمين سابقين". أبعد من هذا ان جلّ هؤلاء السابقين مراهقون يعتمد عليهم تطور الشبكة. هل هذا معقول؟ لقد اكتشف هؤلاء، على ما يبدو، ان الحياة الفعلية تنطوي على ما هو أكثر: على ان الناس لا يزالون يحبّون ان يقرأوا كتباً، وان يشاهدوا افلاماً على شاشات عريضة، وان يمارسوا الجنس الفعلي لا الافتراضي virtual على الشبكة. غني عن القول ان الانترنت تقنية تغيّر حياة الناس الى الافضل. وهو ذو طاقة جبارة تشمل ما لا حصر له من جوانب الحياة. الا ان تقنيات كثيرة عرفها التاريخ لم تحقق القطع الكامل مع الماضي، كما قيل ابان ولادتها. وما عرفناه مع الزراعة والصناعة والقطارات والتلفزيونات، شهدناه أيضاً مع الانترنت. فقد نشأ من حول الشبكة متحمّسون بلغت بهم الحماسة ان اعتبروا كل شيء افتراضياً: الافلام والكتب سوف توجد كلها على "الأون لاين"، وسوف تنضوي خانعة ذليلة في خيمة الدوت كوم. وما جعل الاحتفال يبلغ اقصاه تزامنه مع انتهاء الالفية الماضية. هكذا ارتسم حدّا البداية والنهاية، الجديد والقديم، المستقبل والماضي. وفي نزوع ثوري لا يخلو من الهستيرية بدا ان الانترنت قطع كل صلة بين القديم والجديد. فها نحن نبدأ من الصفر مستغنين عن كل ما عهدناه من قبل! هؤلاء "السابقون" لا يشككون بأهمية الانترنت الفائقة. لكن استقالتهم منه لا تعدم السبب والتعليل: فالانترنت افتراضي تعريفاً، اي ليست فيه حرارة الحياة وكثافتها ورائحتها. وهذا الذي يُعدّ من عناصر قوته هو، بالضبط، من عوامل تنفير النافرين. ثم انه، ثانياً، مُكلف. فهناك شراء قطع العتاد الثقيل الهارد وير، وهناك الاشتراكات وفواتير التليفون، ثم هناك التطويرات الدائمة لعتاد ينبغي شراؤه بلا توقف. واذا صحّ، ثالثاً، ان الانترنت يسهّل حياتنا فإنه يصعّبها ايضاً. فموظفو المكاتب والشركات الكبرى لا يكفّون عن التذمّر من ان البريد الاليكتروني يعقّد مشكلة تراكم المعلومات بدل ان يحلّها. ومن دون ان يلغي الاضطرار الى الاجتماعات الوجاهية، زادها. وما الهدف من هذه الاجتماعات الا تدارس ايّ الرسائل ينبغي الاحتفاظ بها، وايّها ينبغي التخلص منها كي لا تقع في ايدي المنافسين. وهذا ناهيك عن اجتماعات ما كانت لتنعقد اصلاً لولا الحاجة الى فض نزاعات ناجمة عن الاتصالات الاليكترونية. الظاهرة التي نحن في صددها لا تقلل اطلاقاً من اهمية الانترنت. لكنها تعلن دخولنا طوراً جديداً عنوانه نهاية استبداد الشبكة، او نزع قداستها. فقد بات في الوسع ان نقول: انها جيدة لأمور كثيرة، سيئة لبعض الأمور. وابعد من هذا، انها دخلت في عاديّ الحياة ومألوفها فلم يعد ثمة من يتحدث عن استخدام الانترنت بوصفه رسالةً مجيدة، او حتى بوصفه خبراً. واغلب الظن ان الانترنت سيتطور مضيفاً الى وظائفه وظائف وادواراً مهمة اخرى. الا انه سيفعل بهدوء وتواضع اكبر. اما نحن فسوف نتابع بتقدير لا يبلغ مرتبة الدهشة والتسليم.