عندما جرؤت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، تحت تأثير من جدانوف، على اتهام ثلاثة من كبار الموسيقيين السوفيات، بالنزعة البورجوازية والتأثر بالغرب، كان آرام خاتشادوريان، أكثر الثلاثة دهشة لذلك الاتهام، إذ لئن كان من غير المثير للدهشة توجيه تلك التهمة الى الاثنين الآخرين: شوستا كوفيتش وبروكوفياف، فإن خاتشادوريان، ثالث الثلاثة، لم يكن في الإمكان اتهامه بذلك، هو الحائز مرتين على جائزة ستالين، وكاتب موسيقى النشيد الوطني للجمهورية الأرمنية السوفياتية، والممجد للذكرى الخامسة والعشرين لقيام الثورة البولشفية، في واحد من أجمل أعماله "السمفونية الثانية" - 1943. لكن آرام خاتشادوريان صمت في ذلك الحين ولم يرد على اللجنة المركزية. بعد ذلك بسنوات، وبعد رحيل ستالين وزوال الجدانوفية، بدأ الموسيقي الأرمني الكبير ثأره، وراح يصب جام غضبه على متهميه، مؤكداً أن تهمته الحقيقية بالنسبة إليه لم تكن نزوعه البورجوازي والغربي، بل العكس تماماً: اهتمامه بالموسيقى الشعبية الأرمنية ونزعته القومية الشعبوية وشرقيته. والحال أن من يستمع الى موسيقى خاتشادوريان يكتشف بسرعة أنه كان على حق، وعلى الأقل بالنسبة الى مراحل إنتاجه التي تبدأ مع العام 1934 حين كتب سمفونيته الأولى، التي طعمها بالكثير من التراث الشعبي الأرمني، ولكن أيضاً التركي والجيورجي والأذربيجاني. قبل ذلك، كان خاتشادوريان متأثراً ببرليوز ثم برافيل. لكن هذا التأثر الذي طبع سنوات تأليفه الأولى، كان هو بالتحديد ما قاده الى التراث الشعبي القومي الخاص بالمنطقة التي ينتسب إليها. آرام خاتشودريان الذي رحل عن عالمنا في الثاني من أيار مايو 1978، كان ولد قبل ذلك بثلاثة أرباع القرن في تفليس عاصمة جيورجيا، من أسرة أرمنية كانت تقيم هناك، مثله في ذلك مثل مواطنه السينمائي بارادجانوف، الذي كثيراً ما يشبه به، واحد في مجال الموسيقى والثاني في مجال السينما، حيث أن الاثنين تشبعا بمبادئ الثورة الشيوعية، إضافة الى نهلهما من التراث الأرمني - الجيورجي المشترك، بعد تأثر بالغرب طاول سنوات عملهما الأولى. منذ طفولته اتجه خاتشادوريان الى الموسيقى حيث درس أولاً في "غنيزيني" ثم في المعهد التربوي في موسكو، ولكن لم يكن ذلك إلا بعد فترة تردد دخل خلالها جامعة موسكو ليدرس البيولوجيا. غير أن السنوات التالية وشغفه بالعزف على البيانو، حددت مستقبله، خصوصاً وأنه في كونسرفاتوار موسكو التقى الأستاذ مياسكوفسكي، الذي كان أول من اكتشف المواهب الخفية لدى ذلك الفتى الأرمني. وهكذا من مجرد عازف على التشيلو الذي سيكتب له خاتشادوريان لاحقاً، كونشرتو كان من أروع انتاجاته، تحول الفتى بالتدريج ليصبح واحداً من أكثر المواهب وعداً. وكان أن تعهده أستاذه وراح يشجعه وأثمر ذلك بالفعل. ومنذ تخرجه من المعهد، بدأ آرام خاتشادوريان يكتب أعماله المتلاحقة. وكان أول ما لفت الأنظار إليه كونشرتو كتبه للبيانو في العام 1936. غير أن انطلاقته الكبري كانت مع موسيقى باليه "غاباتي" التي كتبها في العام 1942، وتضمنت موسيقى "رقصة السيف" الشهيرة التي ستقتبس وتقتبس بعد ذلك دون هوادة. مهما يكن في الأمر، خلال تلك السنوات راحت شهرة خاتشادوريان تتزايد، وصار يعتبر واحداً من ألمع الموسيقيين السوفيات. ثم أتت سيمفونيته الثانية لتعزز مكانته الرسمية في موسكو، في وقت كان بدأ يخف لديه فيه تأثير برليوز والغربيين، وصارت موسيقاه أشبه بأنطولوجيا للموسيقى الشرقية، تعمر بجمل قوية وبتعبيرات كان من الصعب العثور عليها خارج ذلك الإحساس القوقازي الذي كان يغمره. وحسبنا اليوم، للتيقن من هذا، أن نستمع الى الحركة الثانية من السيمفونية الثانية وإلى معظم الأجزاء المتتالية للسيمفونية "ماسكاراد" 1944 التي وضعها انطلاقاً من نص للشاعر ليرمنتوف. ولسوف يواصل خاتشادوريان طريقه على ذلك النحو على رغم العقبات البيروقراطية واتهامات اللجنة المركزية. وهو سيصل الى ذروة جديدة في العام 1953، حين كتب باليه "سبارتاكوس" الذي أعاد إلى الحياة باليه قديم كان كتبه العام 1939 بعنوان "السعادة". وسوف يكرس عالمياً مع سيمفونيته الثالثة، ثم بخاصة مع كونشرتو للتشيلو، كتبه ويشبه كثيرون قوته بقوة كونشرتو دفوراك للتشيلو. وحتى اليوم لا تزال موسيقى خاتشادوريان أكثر حيوية من موسيقى أي من معاصريه، تغري قادة الأوركسترا والعازفين وتطرب الجمهور خاتشادوريان الى اليمين مع بروكوفياف وشوستاكوفيتش أيام الاتهامات التي وجهت إليهم.