قد يكون من اليسير على أي كان، اليوم، ان يرى في النص الذي كتبه توماس دي كوينسي، خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر بعنوان «اعترافات مدمن أفيون انكليزي»، بعداً ساذجاً، امام ما اعترى المدمنين في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات قرننا الجديد هذا. لكن في تلك الأزمان المبكرة، اعتبر ذلك النص الإنكليزي نصاً في منتهى القسوة، واعتبر الاعتراف الذي يتضمنه، علامة على سمة رومنطيقية لا شك فيها، حيث ان الكاتب يصف فيه كيف أدمن الأفيون وضاع في متاهات الإدمان شريداً في الأرياف الإنكليزية، حتى أنقذته محبوبته، ثم تابع هو إنقاذ نفسه... إلى آخر هذا النص العابق بصنوف الألم والمرارة. لقد كان نص توماس دي كوينسي من القوة والتأثير، بحيث سرعان ما استولى عليه عتاة الرومنطيقيين والشعراء ليقتبسوه ويحولوه ويحاول كل واحد منهم ان يعبّر من خلاله عن تجربة رومنطيقية مؤلمة مرّ بها. ومن أولئك الرومنطيقيين ألفريد دي موسيه، الشاعر الفرنسي، وجيرار دي نرفال، وبخاصة شارل بودلير الذي كتب، مستوحياً منه، نصه الأشهر «الفراديس الاصطناعية». لكن الأدباء لم يكونوا وحدهم من استوحى النص. كان هناك أيضاً هكتور برليوز، الموسيقي الفرنسي الكبير، الذي استند الى اقتباس دي موسيه، لكي يحوّل النص الى واحدة من أهم السيمفونيات الرومنطيقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، اي الى ذلك العمل الذي خلّد اسمه «السيمفونية الغرائبية»، السيمفونية التي لا تزال تُسمع في أيامنا هذه وتُحبّ، وتعتبر، علمياً، المؤسسة لنمط من الموسيقى السيمفونية يسمى «الموسيقى ذات البرنامج»، أي الموسيقى ذات الموضوع الذي تدور حوله. وكان ذلك تجديداً في الموسيقى السيمفونية التي كانت، قبل ذلك، تجريدية في مجال تعبيرها عن معنى وموضوع في شكل مفصل. «السمفونية الغرائبية» هي واحدة من ثلاثة اعمال، لم يكتب برليوز سواها طوال سنوات إبداعه الموسيقي، في المجال السيمفوني تحديداً. إذ كتب غيرها «السيمفونية الجنائزية والانتصارية» و «السمفونية الدرامية» (وهذه الأخيرة عبارة عن قطعة سيمفونية مستوحاة مباشرة من مسرحية «روميو وجولييت» لشكسبير الذي سيكون ذا مكانة كبيرة في بقية اعمال برليوز وحياته). وتبقى «السيمفونية الغرائبية» بالطبع أبرز أعمال برليوز. وهو، في سبيل كتابتها، وللتعبير عن حال ذاتية مرّ بها خلال الفترة التي كتب فيها تلك السيمفونية، استخدم، كما أشرنا، نص دي كوينسي، ولكن ليحوّله الى عمل خاص: إذ إنه عبّر فيه عن ولهه بحبيبته في ذلك الحين، الممثلة هارييت سميثون، التي ستصبح زوجته لاحقاً. إذاً، انطلاقاً من رومنطيقية حبّه لهارييت، كتب برليوز هذا العمل الأخّاذ، الذي قدّم للمرة الأولى في باريس عام 1830، أي العام نفسه الذي وقعت فيه تلك الثورة الفرنسية الجديدة التي سيكرس برليوز لها سيمفونيته «الجنائزية» بعد ذلك بعشرة أعوام. تنقسم «السيمفونية الغرائبية» الى خمسة أقسام. وهي تحمل، درامياً، عنواناً فرعياً هو «مرحلة من حياة فنان». والفنان الذي تحكي السيمفونية تلك المرحلة من حياته، هو الموسيقي نفسه الذي يرسم في شكل فائق الرومنطيقية - ولا يضاهيه في رومنطيقيته أي عمل آخر في تاريخ الموسيقى، كما يرى المؤرخون عادة - تشرّده وحبّه لفتاته. وفي هذا الإطار تحمل دلالاتها كلها، العناوين التي وضعها برليوز لأقسام السيمفونية الخمسة: «حلم ووجود شغف» - «حفلة راقصة» - «مشهد في الحقول» - «طريق الجلجلة» - و «حلم ليلة سبت». ولسنا في حاجة هنا الى تفسير علاقة عناصر هذه العناوين بالمناخ الرومنطيقي القائم على الأحلام في تلك الأزمان التي كانت رومنطيقية الحلم والألم والتشرد والعلاقة مع الطبيعة والرقص تشكل عنصراً أساسياً في بحث مضنٍ عن الذات يستخدم صورة المحبوبة الضائعة مرآة لصورة الذات نفسها. فقط يمكننا ان نشير الى طغيان البعد الذاتي على موسيقى أتت لتجدّد في هذا المجال، حيث تبدو الموسيقى نفسها، لا أكثر ولا أقل، جزءاً من سيرة ذاتية لصاحبها. من هنا ليس غريباً أن تكون صورة المحبوبة (هارييت في هذه الحال) ماثلة في كل لحظة وفي كل حركة على مدار السيمفونية ككل: هي الألم والأمل، هي الموت، وهي الخلاص، وهي سبب الضياع ووسيلة العثور على الذات. ولعل ما يزيد من صورة الوضع ان برليوز حين كتب هذه السيمفونية كان لا يزال في السادسة والعشرين من عمره، وكان ذا حس تمردي في المجالات كافة. وهذا الإطار كله، هو الذي استهوى الفنانين جميعاً، الى درجة ان كثراً منهم قالوا ان في صفحة واحدة من «السيمفونية الغرائبية»، ما يعادل ما في سيمفونيات متكاملة لغير برليوز من عبقرية. والحال ان العمل بدا من الجمال والتجدّد، الى درجة ان فرانز ليست، معاصر برليوز وصديقه، سرعان ما حوّل العمل الى نص للبيانو وحده وراح يقدمه في كل مكان مضفياً على نجاح إنجاز برليوز، نجاحه الشخصي كواحد من أعظم عازفي البيانو في زمنه. وسيقال لاحقاً ان مفهوم «السيمفونية ذات البرنامج» قد ولد تحديداً من خلال ذلك اللقاء بين عمل برليوز وإضافة ليست إليه. كما ولد مفهوم «القصيدة السيمفونية» الذي يسود كثيراً خلال القرن التاسع عشر، وسيصل الى ذروة له مع رمسكي - كورساكوف في «شهرزاد»، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع، حتى وإن كان العنصر الرومنطيقي يشكل القاسم المشترك بين شتى الأعمال التي توصف بأنها «قصائد سيمفونية». كان من نتائج النجاح الساحق والكبير الذي حققته «السيمفونية الغرائبية» فور تقديمها عام 1830، أن نال برليوز عنها جائزة روما، وتوجه بالتالي الى العاصمة الإيطالية، حيث التقى هناك مندلسون وارتبط معه بصداقة، أثّرت في هذا الأخير، الذي كان يكتب في ذلك الحين، منكبّاً مثل برليوز على اعمال شكسبير يستوحيها (افتتاحية «حلم ليلة صيف» مثلاً)، كما التقى غلينكا، الذي اطلع من خلاله على الموسيقى الشعبية الروسية. ومنذ ذلك الحين ستكون إيطاليا (من طريق باغانيني) وروسيا (من طريق غلينكا) عنصرين أساسيين في عمل برليوز...ليس في عمله الموسيقي فقط، بل أيضاً في عمله كناقد للموسيقى. والحال ان برليوز بقدر ما اشتهر كمؤلف رومنطيقي، عرف طوال الأعوام الأربعين التالية كناقد للموسيقى في الصحافة اليومية. وهو في ذلك الإطار كتب كثيراً (مقالاته تملأ عشرة مجلدات على الأقل). ومع هذا، يمكن التأكيد أن لا شيء في طفولة برليوز وصباه كان يؤهله لذلك كله. فهو ابن طبيب، وكان مقدراً له منذ ولادته عام 1803، أن ينحو منحى ابيه، ويتجه الى الطب، لكنه لم يفعل، بل إنه حين توجه عام 1821 من مدينته غرينوبل، الى باريس لدراسة الطب، أُغرم بالموسيقى وانضم الى الكونسرفاتوار، ثم تركه ما إن التقى هارييت سيمثون وأغرم بها، لينصرف الى التأليف الموسيقي. وكانت «السيمفونية الغرائبية» أول أعماله الكبيرة وسبب شهرته. بعد ذلك ألف برليوز كثيراً، وكتب أوبرات وموسيقى دينية، إضافة الى السيمفونيات الثلاث التي ذكرنا. ومن أشهر أعماله الأخرى أوبرا «هارولد في ايطاليا» وأوراتوريو «طفولة السيد المسيح» وأوبرا «بنفينوتو تشيليني». وعلى رغم هذا الإنتاج كله ونجاحه، مات برليوز عام 1869 في باريس معدماً ويائساً بعد سنوات من موت زوجته ومحبوبته هارييت، وما تلى ذلك من زواجه ممثلة تدعى ماري ريتشيو، ماتت بدورها خلال حياته كما مات ابنه الوحيد لويس. [email protected]