على خلاف الانتخابات النيابية العامة في إسبانيا، وهي أقرت في 12 آذار مارس حزب الشعب من اليمين الوسط على غلبته البرلمانية والحكومية، أقرت الانتخابات النيابية العامة اليونانية، في التاسع من نيسان ابريل، حزب "الباسوت" الحركة الاشتراكية الهلينية من اليسار الوسط على قيادة اليونان في السنوات الأربع الآتية. وإسبانيا واليونان تتشاركان في أوروبيتهما الجغرافية والاقتصادية والسياسية. فالدولتان عضوان في الاتحاد الأوروبي، وفي حلف الأطلسي واتحاد أوروبا الغربية. وعلى حين دخلت إسبانيا مجموعة العملة الأوروبية اليورو منذ انطلاقها، تفاوض اليونان على اللحاق بالمجموعة في أول العام الآتي. وبكَّر رئيس الحكومة اليونانية الانتخابات، وحل المجلس قبل ختام عقده، طلباً لتفويض الناخبين مضيه على المفاوضة القائمة واستجابة شرائط العملة الواحدة. والمقارنة بين البلدين، وحمل المقارنة على الخلاف، تقتصر على اللون السياسي. واللونان السياسيان، إذا صح المثنى، قرينة على جواز الثبات في أوروبا الاقتصادية والسياسية، والرسوخ فيها، على وجهين سياسيين مختلفين. وهذا، بدوره، قرينة على تقدم المشاغل الاجتماعية والاقتصادية و"الثقافية" العبارة السياسية، وعلى إلزام المشاغل الحركات السياسية الاضطلاع بتبعاتها وأثقالها على رغم تباين مصادر الحركات وتراثاتها. ولكن إقرار الناخبين بتقدم مشاغلهم الاجتماعية والاقتصادية و"الثقافية" على هوياتهم السياسية والحزبية، التقليدية والموروثة، واحتسابهم إلزام المشاغل هذه الحركات السياسية، على رغم تباينها، العمل على تنفيذ برنامج يكاد يكون واحداً، الإقرار والاحتساب دليلان واضحان على بلورة مجتمعات الناخبين ثقافة سياسية تُوْسِع للأمرين وتبني عليهما. ولعل دلالة المسألة تقوى في ضوء تاريخ البلدين. فالدولتان تتحدران من حربين أهليتين تشابكت فيهما العوامل الداخلية والدولية على مقادير متفاوتة ولكنها كانت في كلتا الحالين، شديدة الوطأة. وكان للجيش والكنيسة، الكاثوليكية في إسبانيا والأرثوذكسية في اليونان، دور راجح في الانقسام الأهلي الدامي. فانتصب قادة القوات المسلحة في البلدين للدفاع عن هوية قومية، وتاريخ قومي، اضطلعت الكنيستان بتعريفهما وحفظهما، وفرضتا رسومهما المحافظة والجامدة والفاشية أو الفاشوية تخفيفاً. وأدى ضعف الحركة الشعبية والجمهورية في البلدين، وتأخر أبنيتهما الاجتماعية والاقتصادية، إلى انقلاب المطالبة الإصلاحية والتحديثية منازعةً أهلية، واتساع الهوة بين الإصلاحيين الحداثويين وبين الجمهور والعامة، وإلى محاولة الحزبين الشيوعيين والستالينيين تصدر الحركة الشعبية والجمهورية وقيادتها على طريقتهما المتعسفة والمدمرة فكانت الحرب الأهلية الإسبانية، في 1936- 1939، بداية الحرب العالمية الثانية، وكانت الحرب الأهلية اليونانية في 1944، الإرهاص بالحرب الباردة. وحفظ البلدان من تاريخهما الدامي شقاقاً سياسياً داخلياً وحاداً، ربما تؤذن الانتخابات الأخيرة بانصرامه. فأورثت الحربان الأهليتان البلدين "حزبين" سياسيين، أو عصبيتين سياسيتين تمزجان الدين بالقومية، والمصالح الاقتصادية بانقسام اجتماعي و"ثقافي" وسياسي داخلي ودولي حاد. فنهض البلدان علمين على جنوب أوروبا، وعلى تأخر بلدانه ومجتمعاتها، وغلبة النزعات الاستبدادية والشعبوية المنغلقة على هذه المجتمعات. وغذى مزيج الدين والقومية الخلاف الداخلي ودوامه، على نحو ما غذى الأمران الارتيابَ القوي والمرضي في الخارج الأوروبي وسياساته ومقاصده، طوال عقود من الزمن. ولم يخرج البلدان من أسر المركبات والعقد السياسية والاجتماعية إلا في أواخر العقد السابع وأوائل الثامن. فكان طرد "الكولونيلات" من رأس الدولة اليونانية بداية مسيرة أوروبية بطيئة. ولم تطوِ اسبانيا ذيول حربها الأهلية وعزلتها و"خلودها" إلا بعد وفاة قائدها وزعيمها، فرنكو، غداة نيف وثلاثة عقود من السلطة المطلقة والخانقة، كان عام 1939، الأول من أعوام الحرب، ابتداءها. وأظهرت أطوار البلدين تشابك حدة النزاع السياسي الداخلي، وقربه المخيف من النزاع الأهلي، بالريبة من الأجنبي الأوروبي والأميركي. فعلى قدر قوة العداوة الداخلية أصْلت القوى السياسية المتحاربة والقومية الدينية والشيوعية، الخارجَ العداوةَ، وحملته التبعة والمسؤولية عن مشكلاتها وعثراتها، وسعت في التحصن منه ومن رساميله وأذواقه وسلعه وأفكاره وسياحه و"أخلاقه". ورسا الخلاف السياسي على تهمة الحزب من الحزبين خصمه بالعمالة للأجنبي، وخيانة شعبه ووطنه، والتخلي عن استقلال الدولة بين يدي "الأجنبي" - وهو غير أجنبي الخصم-. وجمعت التهمة هذه قوى سياسية واجتماعية متعادية. فلم يأنف الحزب الشيوعي اليوناني نحو 6 في المئة من المقترعين من مسايرة الكنيسة الأرثوذكسية تحت لواء مناهضة أوروبا الأطلسية والتضامن الأرثوذكسي والبلقاني، حين عمدت قوات أطلسية إلى ردع الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، وقواته العسكرية ومنظماته الأهلية المسلحة، عن إجلاء ألبان كوسوفو وإرهابهم، العام الفائت. واجتمع اليمين واليسار والوسط، من غير تمييز، في تظاهرة "وطنية" عارمة مشى فيها مليون يوناني قبل نحو عقد من السنين، انتصاراً لقصر اسم مقدونيا على المحافظة اليونانية، وتنديداً ب"اغتصاب" الجمهورية اليوغوسلافية السابقة الاسم. وفي أثناء العقد المنصرم لم تترك الأحزاب اليونانية فرصة انفجار أزمة بين اليونان وبين تركيا لم تنتهزها، وتتوسل بها الى رص الصفوف اليونانية، من وجه، وإحراج الحزب اليوناني الحاكم وتهمته بالاعتدال إذا هو لم يستجب داعي التأزيم، من وجه آخر. فشبكت السياسة اليونانية مسائل قبرص وبحر إيجه والعلاقات اليونانية والتركية، وثاراتها التاريخية، ونزعات الحياد اليونانية بإزاء السياسة التركية الأطلسية، في مسألة واحدة هي مسألة دخول تركيا السوق الأوروبية المشتركة، فالاتحاد الأوروبي النقدي والاقتصادي. وتذرعت بالخلافات المتراكمة هذه الى الحؤول دون قبول الاتحاد الأوروبي ترشح تركيا الى عضويته. وحمل تردد أوروبا في مجاراة السياسة اليونانية المتعنتة، حمل السياسة اليونانية على وصم النزعة الأوروبية في اليونان نفسها بالتراخي القومي والتخلي عن حماية المصالح القومية المقدسة. وعلى نقيض هذه السياسة الانتخابية حال حزب "الباسوت"، في شتاء العام الفائت، بين التحفظ اليوناني عن الحرب الأوروبية الأطلسية على صربيا وبين انفجار التحفظ تظاهرات صاخبة على القوات الحليفة في طريقها من مرفأ سالونيك الى مقدونيا. ولم ينتهز خصمه، حزب الديموقراطية الجديدة، الفرصة ليندد ب"عمالة" خصمه وتخليه عن القضية الهلينية في سبيل "تطبيع" أوروبي وأميركي... وتوجت السياسة اليونانية منحاها الجديد، في قمة هلسنكي الأوروبية كانون الأول / ديسمبر 1999، بتخليها عن معارضتها عضوية تركيا في الاتحاد. وأذن ذلك بسياسة بلقانية جديدة، وبالخطو على طريق معالجة المسألة القبرصية من طريق أوروبا مجتمعة، وليس من طريق مجابهة تركية ويونانية موحدة. واتفقت هذه السياسة، بوجهيها الداخلي والإقليمي الدولي، مع سياسة اقتصادية أوروبية على طرف نقيض من الحماية والعزلة القوميتين. فباشرت تخفيض الديون الثقيلة التي يرزح الاقتصاد تحت وطأتها - وهذا شرط أول من شروط دخول منطقة العملة الأوروبية المشتركة - من نيف و111 في المئة من الناتج الإجمالي الى 104 في المئة، في غضون أربعة أعوام. وابتدأت التخفف من قطاع عام كبير ومرهق، وضعيف الجدوى دخولاً وإنتاجية وعمالة. وكانت المصارف والاتصالات والطاقة فاتحة الخصخصة، بمعايير قانونية واقتصادية أوروبية. وأرفقت الحكومة الخصخصة أو التخصيص بأعمال إنشائية كبيرة في مترو الأنفاق والمطارات والجسور والطرق الدولية. وسنت قوانين الاستثمار في البورصة. وأتمت الإجراءات المالية والنقدية بمراقبة التضخم وضبطه. وبقيت إصلاحات ثقيلة، تكلفتها السياسية والانتخابية عالية. وتُنجز الإصلاحات التمهيد لفاعلية النهج الجديد. ولعل أبرزها تقليص عدد العاملين في أجهزة الإدارة، وإصلاح النظام التربوي والتعليمي، وضبط موارد صناديق التأمين والتقاعد ومراقبة تسليف أموالها الطائلة. ويستحيل إنجاز التحديث والتجديد الاقتصاديين من غير فك المواطنين، منتجين ومستهلكين، من روابطهم الجمعية والعصبية التي تحملهم على تلافي المساواة القانونية، وعلى المحاباة في أمور مثل التشغيل والتسليف والجباية والحقوق المالية العامة. فالفردية، على هذه المعاني، ملازمة للتحديث والتجديد الاقتصاديين، وهي الوجه الاجتماعي و"الثقافي" للتحديث والتجديد هذين. وفي هذاالمضمار ما زال اليونانيون، بحسب المعايير الأوروبية التي يرتضونها، على أبواب أوروبا يصفها بعضهم بالأميركية. وفي مضمار الفردية، والأخذ بمعاييرها، جرى الإسبانيون شوطاً ليسوا هم، أصحاب هذا الشوط، أقل الناس دهشة به وافتتاناً. وحين خلف حزب وسط اليمين الحزب الاشتراكي، في 1996، توقع مراقبون كثر رجوع الحكومة الجديدة في التشريعات التي سنت الإجهاض والطلاق في بلد كاثوليكي عريق مثل إسبانيا. وبنى المراقبون توقعاتهم على نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في صفوف أنصار الحزب الشعبي وناخبيه. ولكن إلحاح الأساقفة على الجناح المحافظ من حزب خوسيه ماريا أزنار لم يلق صدى، ولم يرجع المجلس التشريعي في قوانين الأحوال الشخصية الفردية. وهذا من الدلائل على تشارك الحزبين السياسيين الكبيرين في أحكام وقيم تعم المجتمع الإسباني كله. ويعزو بعض المراقبين تجديد ولاية الحزب الشعبي - إلى عوامل أخرى تتصدرها السياسة الاقتصادية الناجعة - إلى ختام فصول الحروب الأهلية الإسبانية وذواء "أبطال" هذه الحروب، أو "بطليها"، الكتائبي اسم حزب فرنكو والشيوعي. وجواز الانتقال من كتلة انتخابية الى كتلة انتخابية منافسة، على ما جرى في دورتي 1996 و2000، قرينة على الإقلاع عن النظر إلى السياسة، وإلى الاختيار الانتخابي، النظرة العصبية والأبدية التي تسم بميسمها المجتمعات المتحجرة على حروبها الأهلية. ولعل اختبار الانتقال هذا هو الشباب في المرتبة الأولى. وهؤلاء بلغ عددهم نحو مليونين ونصف المليون من الناخبين، ولم يكونوا شهوداً لا على الحرب الأهلية وبعضهم أهلهم لم يشهدها ولا على أفول الفرنكوية ونظامها الاجتماعي "الطائفي" من طوائف الحرب وأصنافها. وفي الأثناء ضوت الطبقة المتوسطة العتيدة، وهي خليط من الأعمال والمهن المتحدرة من التعليم المهني المؤهل والجامعي والمتفرعة عن الإدارة والتنظيم والتوزيع والمراقبة، ضوت 54 في المئة من الجمهور، وكانت تقتصر، إلى 1982 قبيل تولي الحزب الاشتراكي الحكم لأول مرة، على 23 في المئة منه. وانتشرت في هذه الطبقة أحكام سياسية واجتماعية تقدم المنظمات المدنية وغير الحكومية، والانخراط فيها، على الأحزاب السياسية و"نضالها"، وتصدِّر في المرتبة الأولى المخاطر الناجمة عن البطالة والمخدرات، وتؤْثر الحرية والمبادرة والمنافسة على المساواة الاجتماعية، وتؤخر الرفاه الفردي والأسري على عدد الأولاد وفي غضون العقدين الأخيرين تدنى متوسط الخصوبة من 4،2 الى 1،1، وترجئ الزواج الى العقد الرابع... واضطلعت هذه الطبقة بنقل إسبانيا الى المرتبة السابعة من القوى المالية العالمية، وكذبت آراء شائعة كانت تنفي عن أهالي إسبانيا القدرة على اكتساب المهارات التقنية والبروز فيها وتنسبهم الى "الأدب" و"اللاهوت" أو "الفلسفة". وخَلَفَ التعويل على الإدارة والسلطات العامة التعويل على القوى الاجتماعية نفسها. فانخفضت نسبة البطالة، وكانت نسبة البطالة بإسبانيا الأولى بين الأوائل الأوروبيين، وأدت النقابات دوراً راجحاً في المفاوضات على الحقوق الاجتماعية من غير أن تتجشم الدولة أعباء مرهقة تعود على الاقتصاد الوطني كله بالتضخم والتبديد والفساد. ولكن هذه الإنجازات لا تصرف عن تقرير اتساع الفروق الاجتماعية، وتعاظم الفقر والهامشية اللذين يتطاولان الى 5،6 ملايين عامل لا يزيد دخلهم الشهري عن مئتي دولار أميركي، ولا عن ملاحظة أحوال المتقاعدين والمسنين المتردية. وتتوج العصبية العنصرية على العمال المهاجرين إلى إسبانيا، والعاملين في المهن التي أخلاها البلديون، الوجه المظلم من أطوار إسبانيا الديموقراطية على خلاف اليونان التي لم يؤد تعاظم الهجرة الألبانية والغجرية إليها الى نشأة حزب يميني متطرف. لا شك في مغالاة بعض الأوروبيين والأميركيين وسياساتهم، حين يزعمون، في صدد أنواع مختلفة من الحوادث والمشكلات، أن تحسين الأحوال الاقتصادية هو العلاج الشافي للحوادث والمشكلات السياسية والاجتماعية هذه. ولكن المثلين اليوناني والإسباني، إلى أمثلة أخرى مثل إيرلنداالجنوبية، ايرلندا دبلن وليس بلفاست وكوريا الجنوبية، تحقق المغالاة الأوروبية والأميركية وتصدقها. وهي، على الأرجح، بعض مصدق هذا المذهب ومرجعه. ولكن تعيين علة أولى دور يدور أو حلقة مفرغة. فالمجتمعات التي تنذر نفسها، وتقف قواها وطاقتها على قضية قومية أو أهلية تنزلها منزلة الدين، لا تحكم في نفسها بالانقسام الأهلي المزمن ولا تعادي الأجنبي والغريب وتستعديهما العداء المميت، وتغلق دونهما أبوابها وحسب. فهي تصرف همم أهلها عن الإنتاج والحياة الاقتصادية عموماً، وتكبلهم بأحكام سياسية واجتماعية ينوءون بها "الى الأبد"، وتقيدهم بمشاغل تستنزفهم وتؤبد أنواع خلافاتهم وحروبهم. والرغبة في الجمع بين النفس البطولية، وهي على ما هي عليه من الثبات والاقتتال والعداء والتحجر، وبين الاندراج في العالم المعاصر وأخذه بالجدوى الاقتصادية والاستهلاك وطلبه الرخاء والمتعة - هذه الرغبة تطلب المحال وتمني النفس ببلوغه. وليس هذا القول تسليماً بالتفاهة من غير شرط، ولا عمى عن علل العالم المعاصر وحداثته. ولكن الإقامة على تقاليد النفس البطولية تقلل من فرص حماية ما يستحق الحماية والحفظ والتغيير من هذه النفس. وتسلم الإقامة هذه النفس الى حداثة ركيكة، وممتنعة، من غير أضعف حصانة. فالاختيار، إذ ذاك، ليس بين الكرامة وبين الموت، بل بين ميتتين لا كرامة في أي منهما. * كاتب لبناني.