بين عامي 2009 و2011، عندما راحت أوروبا تفكر في فرض انضباط الموازنة على اليونان، كانت الحكومة اليونانية تعتقد ان في وسعها الاستمرار في الإنفاق. سوق المغفلين هذا انهار في كانون الاول (ديسمبر) 2011، تاركاً مكانه لحوار بين الصُمّ. وتتهم أوروبا اليونانيين بانعدام المسؤولية والخداع والطفيلية. أما اليونانيون، فينظرون الى شركائهم كمتغطرسين وعدوانيين، ساعين الى الهيمنة. وطَفَت الى السطح مجدداً كل الصور النمطية القديمة من الانفصال (بين الكنيستين الشرقية والغربية) عام 1054، الى الاحتلال الالماني اثناء الحرب العالمية الثانية. لكن، ألا يفتقد الى الحذر وضع اليونان في مواجهة أوروبا كما لو انهما كيانان منفصلان انفصالاً جلياً؟ سيكون ذلك بمثابة نسيان أن ثلاثين سنة من الحياة المشتركة في قلب الاتحاد الاوروبي، وستين سنة من الشراكة في حلف شمال الاطلسي «الناتو»، نسجت علاقات وثيقة بين اللاعبين اليونانيين وبين المجموعة الاوروبية-الأطلسية. ونكتشف اليوم مواطن ضعف المجتمع اليوناني، بين الدولة التي جرت المبالغة في توسيعها وبين الفساد والزبائنية وانعدام كفاءة الادارة ونقص التنافس. أهذا ذنب اليونانيين وحدهم؟ ألم نتسامح مع الزبائنية، بل نشجعها، ومع توزيع الريع الأوروبي لتجنب فيضانات السياسات التي يمكن ان تعرض للخطر دور اليونان في المنظومة العسكرية الغربية؟ من يمكنه تصور ان شبكات الفساد المتموضعة على المستويات الأرفع من الدولة اليونانية لم تستفد من تواطؤ الأوروبيين؟ الم يرتبط التشجيع المنهجي للاستهلاك الاستعراضي بمجموعات الضغط التابعة للدول المصدرة للسيارات الفاخرة؟ وشراء الصناعات اليونانية من قبل مجموعات أوروبية راغبة في الاستحواذ على شبكات التوزيع التي أنشأتها الصناعات، ألم يساهم في تعميق العجز التجاري؟ بعض السياسيين اليونانيين أدى دوراً شديد السوء. وسعى آخرون إلى تطبيع الوضع وتهدئته. ويمكن دراسة متأنية للدعم الاميركي والأوروبي الذي حظي به كل من الصنفين (من السياسيين اليونانيين)، أن تقسم المسؤوليات. في كل الأحوال، يصعب الادعاء أن من استفاد من حالة التراخي التي سادت اليونان هم اليونانيون وحدهم. وأعاد إلى الواقع تطور اليونان بين عامي 1981 و2009، بانتاج صورة المركز والاطراف. نحن بعيدون، اذاً، عن صورة أوروبا الانصهار التي جرت صيانتها بعناية قبل انهيارها في 2009. هل يمكننا فصل الأزمة الاقتصادية عن جملة من الاحداث التي بدأت مع اعمال الشغب في اثينا في كانون الاول (ديسمبر) 2008 وزعزعت بقوة البلاد بعد ازمة المنتجات المصرفية الفرعية؟ ألا يرتبط الانزلاق اليوناني بالتناقضات داخل المعسكر الاوروبي–الأطلسي؟ ها هي التفسيرات تخرج من السياق الوطني الصرف. وعلى غرار ما جرى في الاعوام 1917 و1940 و1947، تبدو اليونان مجدداً في بؤرة التحديات العالمية. وما سينجم عن كل ذلك في 2012 هو وضع كارثي، وبعد المساعدة على تدهور أحد اعضائها طوال ثلاثين سنة، باتت اوروبا عاجزة عن دعم بلد لا يشكل أكثر من اثنين في المئة من اقتصادها. فوضى وتأخر وانقسامات داخلية واستراتيجيات وطنية تستدعي الانقسامات ونفوذ اميركي ومهل انتخابية ومرارات تاريخية؟ كل هذه من التفسيرات. تتحمل المكانة الاوروبية ثمن هزيمة جدية. وها نحن نبحث كيف نبعد شبح الافلاس بمناورات اقتصادية– مالية. ولإنقاذ المظاهر، نطالب اليونان بالقبول بخطة تقشف جديدة. وكل ما ندعو الى أخذه في الاعتبار– من التفويض بحق التصرف الى تعليق الديموقراطية- يشكل خطوة في اتجاه الانحراف ما بعد الديموقراطي في اوروبا. ويُنسى ان الهوية اليونانية تشكلت حول موضوع المقاومة الذي يعتبر بسذاجة ان التهديدات والإذلال والضغوط يمكن ان تستوعب غضباً شعبياً يظهر اليوم على شكل عداء حاد للغرب. والربيع العربي ليس بعيداً جداً. صدمة على هذه الدرجة من الشدة ستقود اليونان نحو تحالفات جديدة ستكون لها عواقب خطرة على المصالح الاوروبية في شرق المتوسط. ولتؤدي مجدداً دورها كوسيط مع أوروبا، على الطبقة السياسية اليونانية ان تعثر على شرعيتها من جديد. وإجراء الانتخابات التشريعية يمثل شرطاً ضرورياً –لكنه غير كاف، للأسف- للعودة الى الاستقرار السياسي. وستكون قد حلت اللحظة المناسبة لاستئناف الحوار مع الشركاء الاوروبيين الذين ينبغي عليهم ايضاً تحمل قسطهم من المسؤولية. * استاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بانثيون- السوربون، عن «لو فيغارو» الفرنسية، 14/2/2012، إعداد حسام عيتاني