يأخذ بعض الكتّاب العرب الذين تناولوا موضوع العولمة، يأخذون على بعضهم الآخر عدم الوضوح الناجم عن التشتت الفكري في عرض الموضوع، أو عن التركيز على جانب هامشي من جوانب العولمة على حساب جانب أو جوانب أكثر أهمية. ويصل نقل الكتابة في العولمة الى ذروته مع نفي مشروعية هذه الضجة الكتابية وهذا الزحام الكتابي في موضوع العولمة، على اعتبار أنها ظاهرة قديمة، كانت دائمة التلازم مع المجتمعات البشرية، من أيام الإمبراطورية الرومانية، وفتوحات الاسكندر، والفتوحات العربية، الى آخر هذه المحطات التاريخية المتعاقبة، التي كانت دائماً تشهد تمدد قوة دولية، أو قوى دولية، على نطاق واسع، كما كانت تشهد، تفاعلاً وتبادلاً ثقافياً واقتصادياً بين الشعوب في كل العصور. وإذا كانت هذه الملاحظة صحيحة، فإنها لا تغطي ظاهرة العولمة الحديثة في نهاية القرن العشرين بل تعيدها الى جذورها التاريخية، والى سياقها التاريخي، بمعنى أن فترات سابقة في تاريخ البشرية كانت تعرف مركزاً أو مراكز ذات اشعاع عالمي، يغطي مساحات واسعة من الكرة الأرضية. غير أن هذه العلاقة المؤكدة بين ظاهرة العولمة الحديثة، ومسارها التاريخي عبر مختلف العصور، لا ينفي، ولا يجوز أن يغمض الأعين عن خصوصيات تتميز بها الظاهرة الحديثة عن مثيلاتها في عصور سابقة. أهم هذه الخصوصيات: 1 - اتساع المدى الجغرافي لظاهرة العولمة الراهنة، بما يشمل الكرة الأرضية بأسرها، بل بما يتجاوزها الى الفضاء الخارجي. وهي حال جديدة لم يسبق لها مثيل حتى في زمن فتوحات الاستعمار الأوروبي في القارة الأميركية شمالها وجنوبها، ثم في القارة الآسيوية بلاد الشرق الأقصى. وإذا كانت واشنطن هي مركز ظاهرة العولمة الراهنة مع وجود مراكز فرعية كثيرة، فمن الصعب ايجاد بقعة في الكرة الأرضية خارجة عن النفوذ السياسي المباشر أو غير المباشر للإمبراطورية الأميركية. 2 - تضخم تعداد البشرية المنخرطة في ظاهرة العولمة الحديثة، الى مستوى لم يسبق له مثيل في أي زمن سابق. ومن أسوأ ما تتيحه وتسهله هذه الكثافة البشرية غير المسبوقة نمط البرمجة الإعلامية "لقطعان هائلة من الكتل البشرية" التي يتزايد فيها عدد أميي القراءة في الجنوب، وأميي الثقافة في الجنوب والشمال، وفقاً لما يقتضيه سلم القيم المناسب لمركز العولمة الحديثة، والبرمجية الاقتصادية للسوق الاستهلاكية التابعة كلياً لمركز أو مراكز الإنتاج الأساسية في منظومة العولمة الحديثة، كل ذلك في اطار تزايد اختلال التوازن بين الموارد الطبيعية المتاحة والكتل البشرية المستهلكة، واختلال التوازن البيئي المتراجع أمام أنماط التصنيع التي لا يبدو حتى الآن سقف نهائي لشراهتها وشراستها. 3 - انهيار كامل لم يسبق له مثيل أو شبيه في حواجز المواصلات البطيئة والاتصالات البطيئة، وهي الحواجز التي كانت تسمح في كل الأزمنة الماضية بخصوصيات أنماط النمو الحضاري والثقافي والاقتصادي لكل شعب داخل حدوده الإقليمية، الأمر الذي أوجد حالياً وضعاً كامل الجدة، تأتي اليه الشعوب والأمم من ماض مثقل بالعناصر الخاصة بكل شعب وأمة، وتتجه فيه نحو حاضر ومستقبل تتناقص فيهما الخصوصيات شيئاً فشيئاً، وتتزايد فيهما العناصر المشتركة شيئاً فشيئاً. غير أن هذه الظاهرة التي يمكن أن تكون ذات ايجابية هائلة لو كانت ثورة المواصلات والاتصالات في التنقل وفي المعلومات تتم في اطار تفاعل حر طبيعي طليق من أي قيود أو أي برمجة مفروضة، تنمو للأسف الشديد عكس ذلك تماماً. على سبيل المثال: جميل جداً أن تستمع البشرية بأسرها، كل مساء، الى نشرة أخبار موحدة أو شبه موحدة، من خلال الأقمار الاصطناعية، ولكن مرعب جداً أن تكون هذه النشرة الموحدة أو شبه الموحدة تصنع وفقاً لرغبات ومصالح مركز القرار الأقوى في منظومة العولمة الجديدة، فتتصدر النشرة وتظهر فيها الأخبار "المناسبة فقط"، وتتراجع أو تختفي الأخبار "غير المناسبة". أصبح واضحاً أن هذه الحال تنتج بل هي أنتجت فعلاً قاموساً موحداً للقيم والدلالات، ولكن وحدة هذا القاموس ليست ثمرة تفاعل حر للقيم والدلالات في سائر المجتمعات البشرية، ولكنها نتاج مجتمع واحد مسيطر، هو مجتمع القوى المتحكمة في مركز القرار، في منظومة العولمة الجديدة. وفي حال بروز أي التباس أو اختلاف في تفسير محتوى تعبير قيمي أو أخلاقي أو قانوني ما مثل: السلام - الإرهاب - التنمية - القانون - الأخلاق فإن التفسير الوحيد المعتمد هو ذلك الوارد في قاموس منظومة العولمة الجديدة. وهو قاموس أصبح يتمتع في العقد الأخير من الحياة الدولية بصفات محددة: - فهو قاموس ذو تعابير مطاطة، قابلة للتمدد والانكماش، بل قابلة للانتقال من معنى محدد في حال معينة، الى معنى مناقض تماماً في حال أخرى، وفقاً لتقلبات مصلحة مركز القرار العالمي. - وهو قاموس ذو سلطة مطلقة، لا مجال للاجتهاد في تفسير معانيه، خصوصاً إذا كان المجتهد من خارج "الطبقة الحاكمة" في منظومة العولمة الجديدة. وإذا حدث أن انتزع أحدهم عنوة حق الاجتهاد، فإن اجتهاده لا يمكن أن يتجاوز حدود الثرثرة الكلامية العاجزة عن أي فعل، في اطار شكلي من ديكور "الرأي والرأي الآخر". 4 - مع أن الاقتصاد كان دائماً قوة أساسية من بين القوى التي تحرك التاريخ حتى قبل أن يكتشف ماركس ذلك ويعبر عنه في نظريته الفلسفية، فإن المرحلة الراهنة في الحياة الدولية تشهد طغياناً وليس هيمنة أو سيطرة فقط للعامل الاقتصادي، حتى تحولت كل العوامل الأخرى في الحياة البشرية، إما ملحقات ثانوية للاقتصاد، أو من أدوات التسويق والترويج الاقتصادي. ومن اللافت للنظر والمثير على سبيل المثال، لا الحصر مقارنة حجم وفعالية وعمق الدور الذي تلعبه مؤسسة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي في الحياة الدولية بل في الحياة الداخلية لكل دولة معاصرة، بل أحياناً في حياة كل بيت بحجم وفعالية وعمق الدور الذين تلعبه مؤسسة الأونيسكو الثقافية الدولية. فدور المؤسستين الاقتصاديتين والأبرز في الحياة الدولية، آخذ في التزايد والتنامي والانتشار بلا سقف محدد حتى الآن، بينما دور المؤسسة الثقافية الدولية آخذ في الضمور. بل ان دور المؤسستين الاقتصاديتين يتحول تدريجاً الى صاحب القرار الأساسي بل صاحب القرار الوحيد أحياناً في تحديد شكل الحياة البشرية الجماعية والفردية في العصر الحديث، بينما يتراجع دور المؤسسة الثقافية الدولية في تحديد شكل الحياة البشرية المعاصرة، وهو تراجع يصل في معظم الحالات الى حد التلاشي. ومن المثير للقلق الشديد أن نلاحظ أنه إذا كان شكل الكرة الأرضية في اطار العولمة، يتخذ شكل "القرية الكونية" وهو التعبير الأكثر بساطة والأكثر شيوعاً في وصف ما يحدث من تحولات، فإن تأمل شكل الحياة داخل هذه "القرية الكونية"، يظهر لنا أن نشاطات هذه الحياة تكاد تنحصر في دورين لا ثالث لهما: دور المنتج ودور المستهلك. ومع أن كل أشكال الحياة القديمة كانت تحمل تداخلاً بنسبة معينة بين الاقتصادي والثقافي، فلا أعتقد أن الحياة البشرية شهدت في أي حقبة سابقة تداخلاً كاملاً بين الاثنين، يصل حد التماهي كما هو حاصل الآن، فمنتج البضائع الاستهلاكية الأساسية، هو نفسه منتج القيم الثقافية السائدة. غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزه في حمأة تطور أساليب ترويج وتسويق السلع الاستهلاكية ومواجهة التنافس المحموم في هذا المجال، الى تحول كثير من النشاطات الإنسانية التي كانت تمارس في اطار الهواية الرياضية أو الهواية الفنية أو الهواية الثقافية العامة، أما الى أدوات مباشرة بيد مؤسسات الترويج والتسويق، مثل كرة القدم وكرة السلة وكرة المضرب في مجال الرياضة، والموسيقى والغناء والرسم في مجال الفنون، أو تمارس هذه النشاطات تحت ضغط حوافز ترويجها وتسويقها كبضاعة للاستهلاك، وليس كتعبير عن حاجة انسانية تتجاوز الحاجات الغريزية المباشرة. ان أزمة العرب الكبرى ازاء هذا النمط الجديد في الحياة تتمثل في أنهم دخلوا عصر هذا النمط وهم قابعون في مقعد المستهلك، فازداد بذلك الضغط عليهم بين "سندان" ارثهم الحضاري الذي وصلهم بتعاقب الأجيال من أيام أجدادهم المنتجين، "ومطرقة" واقعهم الراهن الذي تتداخل فيه عوامل انتاج السلع الاقتصادية وانتاج القيم الثقافية. وهذا في رأيي هو جوهر الأزمة التي تحمل اسم أزمة الهوية. وبعيداً عن صراع الكتاب والمثقفين العرب المعاصرين حول هذه الأزمة، بين متحصن بالهوية كأداة حفظ على الشخصية المميزة، ومندد بها كحاجز أكبر في وجه التفاعل مع عالم لا يكف عن التطور وعن اتخاذ أشكال جديدة للحياة البشرية في كل يوم، بعيداً عن هذا الصراع الفكري يفيدنا جداً تأمل موقف المواطن العربي العادي الذي هو لا يرفض التطور الجديد في الحياة البشرية "خوفاً" من انهيار الحواجز، بل على ما أعتقد "قلقاً" من أن هذا الانهيار للحواجز يتم في اطار "ميزان تاريخي للقوى" إذا صح التعبير لا يسمح إلا بحال واحدة من التفاعل، هي التي تبقينا مجتمعات وأفراداً في موقع المستهلك. ويستند اعتقادي هذا الى أن الموروث الشعبي العربي يحمل من غير شك وعياً كاملاً بأن عصور الازدهار الحضاري العربي، قد قامت أصلاً على قاعدة التفاعل الحضاري بين الشعوب في كل المجالات الاثنية والثقافية والاقتصادية والعلمية وليس على قاعدة الانغلاق. بمعنى أنه إذا كانت الهوية العربية تحمل بين مكوناتها الأساسية الارث الحضاري العربي، فهذا الارث لم يكن يوماً مرادفاً للانغلاق الحضاري، بل مرادفاً للانفتاح والتفاعل. أما اليوم، فإن أبشع أقنعة العولمة المتعددة، هو "قناع" التفاعل الإنساني والتكامل الإنساني والتعاضد الإنساني، الذي يغطي "الوجه" الذي يريد تثبيت الحياة البشرية وايقاف ساعتها على اللحظة التاريخية الراهنة، وفقاً "لميزان القوى الحضاري الراهن": منتج الى الأبد، أو مستهلك الى الأبد. وإذا كان من فائدة واحدة يمكن أن يجنيها العرب المعاصرون من ملامح العولمة المعاصرة شديدة الشراسة والشراهة، فهي أنها تضعهم أمام مأزق تاريخي ليس له سوى مخرج واحد: ان الاكتفاء بالدفاع عن النفس بمجرد التمسك الجامد بعوامل الشخصية العربية كما وصلتنا عبر ميراثنا الحضاري، يسير بنا حتماً نحو تآكل هذا الميراث حتى فقدانه الكامل لأي زخم وأي حيوية. اننا محكومون بأن نستأنف في عصرنا هذا، مسيرة الانجاز الحضاري والانتاج الحضاري الذي صنع لنا هذا الميراث في قرون غابرة. ومن الآن والى أن تصل البشرية الى "أوتوبيا" تكون فيها كل شعوبها منتجة وكلها مستهلكة اقتصادياً وحضارياً، فإن ميراثنا الحضاري يصلح لأن يكون سنداً لنا ومرجعاً، ولكنه لا يصلح لأن يكون "بديل" حيوية معاصرة، في كل ميادين الحياة، هي وحدها الكفيلة بإخراجنا من مقعد المستهلك الكسول، الى أحد مقاعد المنتجين المبدعين النشطين، في كل مجالات الحياة البشرية المعاصرة. العرب المعاصرون محكومون بوعي كامل لكل معالم وملامح مأزقهم هذا، وباتخاذ القرارات المناسبة بشأنه، وبانتزاع حقهم في تنفيذ هذه القرارات، ولن يقوم أحد بهذا العمل نيابة عنهم، فمصلحة مركز القرار في منظومة العولمة الحديثة، تقتضي بأن تبقى المنطقة العربية مصدراً أبدياً للخامات الرخيصة، وسوقاً مستهلكة أبدية للبضائع والقيم المستوردة، ومنجماً أبدياً للأيدي العاملة الرخيصة، ولا بأس، والحال هذه، من تحويل ما تبقى من الخصوصيات الثقافية العربية الموروثة الى ديكور خارجي، يزوق ملامح هذا الوضع القبيح. * كاتب لبناني.