كان صوت سميح شقير، في الثمانينيات، واحداً من الأصوات التي أسست تيار الغناء الملتزم في الوطن العربي، حين كان على الفن أن يواكب حركة الجماهير ويعبر عن رغبتها وإرادتها في الثورة والتغيير. فمنذ مطلع الثمانينيات انطلق من سورية صوت المغني شقير في تجربته منشداً للوطن وللثورة وللإنسان، في مواجهة الزنزانة والجلاد والقهر السياسي والطبقي، وكان يكتب ويلحن ويؤدي، وكانت لغنائه نكهة وخصوصية ميزت تجربته عن سواها من التجارب في الحقل نفسه الذي نبعت خصوصيته من التركيز على هموم وقضايا الإنسان العربي. وحظيت القضية الفلسطينية، والثورة في معانيها وشعاراتها، بحيز وفير من أغاني شقير هذه، وكانت الحماسة والتحريض هما ما يطبع جل العطاء في هذا الحقل. في التسعينيات، ومنذ مطلعها، انقطع سميح شقير عن جمهوره، وكان لانقطاعه سببان، فقد سافر الى أوكرانيا، وأمضى فيها خمسة أعوام دراسية عاد منها بحصيلة نظرية في الموسيقى، وكان سفره هذا "تزامن مع التحولات الانقلابية في المفاهيم كما في الواقع" بحسب تعبيره. والآن، يعود سميح الى جمهوره بشريط جديد. جديد في أسلوبه الساخر تحديداً، ومن ثم في كلماته وألحانه وأدائه. السخرية هي الأسلوب الذي يميز شريط "زماني" الذي يضم اثنتي عشرة أغنية متنوعة في إطار واحد. والسخرية التي يلجأ اليها المغني الملتزم هي أسلوب جديد، ولكن "للضرب على الأوتار القديمة نفسها، فالسخرية تملك إمكانية التعبير، والدخول الى النفس دخولاً مرحاً". في الشريط الجديد، من تأليفه وتلحينه وأدائه مع كورال من أربعة مرددين، وفرقة موسيقية على آلات: العود، البزق، الفيولنسيل، الترومبيت، الفيولا، الكونترباص، الكَوَلا، الدرامز، الطبلة، الرق، والدف، ثمة عزف على هموم اجتماعية واقتصادية وثقافية، لا تخلو من بُعد سياسي. فالسياسي هنا يتراجع الى الخلفية، ولا يعود مباشراً كما تجلّى في تجربة الثمانينيات. ولهذا، فالفنان شقير يرى أن تجربته هذه ليست سوى امتداد لتجربته السابقة، وأن "ما حصل لم يكن تغييراً جذرياً. بل هو تجديد في الأدوات يسمح بقراءة جديدة للواقع من جهة، وبالتواصل مع الجمهور من جهة ثانية... وصحيح أن التعبير المباشر عن الهم السياسي قد اختفى، لكن هذا الهم موجود. وأنا لا أفضل بين السياسي والاجتماعي ... لكن الصرخة الجادة التي كانت في أعمالي السابقة لم تعد تلائم المزاج العام الهارب من آلامه ومن قسوة واقعه". لعل أقسى ما في "زماني" من سخرية، هو سخريته اللاذعة من هذا الزمن المعيوش الآن، والذي - لفرط "جماله" - يقدم للناس العسل، يومياً، "في الصواني". وتطاول سخرية المغني مظاهر عدة مما أفرزته مرحلة الانهيار والتحولات الانقلابية، حتى ليسخر من الحب الرومانسي الذي لم يعد هذا الزمان يحتمله أو يستوعبه. ويسخر من تحولات صديقه الذي كان حتى أمس فقيراً وثورياً ثم غدا له قصر يدعو اليه أصدقاء من البشوات والأفندية الذين يقضون السهرات في القصف، أكلاً وشرباً، والكلام على البطولات. يسخر من "نجم الغنية المطروحة في الأسواق"، ومن الناس الذين "تبهدلنا" كرمى لعيونهم، فقالوا له "بتستاهل" وليكتشف أن "المعتَّر مبسوط" وأن "المَرَة بدها ظلم الراجل". ويشفق على الفرقة الموسيقية التي كثر فيها الطبالون وقل الكمنجاثية. ويعود فيسخر من الأغاني والمسلسلات البدوية في عصر الكمبيوتر والستلايت. ومن الحوارات الثقافية للمثقفين. وليست موضوعات السخرية وحدها هي التي تتعدد، بل صورها وأشكالها، فمن سخرية لاذعة مباشرة، الى مبطنة، الى مواربة واستعارية أو رمزية، وهي تعتمد كلاماً بسيطاً وعادياً تحاول رفعه بالإيقاع اللحني ومستوى الأداء الملائم للكلمات الى مصاف الأغنية المتماسكة، المبنية والمشغولة كي تلامس وتلائم ذوق ووعي المستمع. فاللحن الذي يؤلفه شقير يتماشى مع كلماته التي تولد ملحنة ومنغّمة، لأنها لو قيلت دون اللحن فربما بدا كثير منها كلاماً نثرياً بلا وزن أو إيقاع، كما هو الحال - مثلاً - في حوار ثقافي الذي يكرر فيه المغني / المثقف لازمة "أنا مش معك"، ونستمع خلالها الى حوارات مبتورة يحاول كل مثقف فيها استعراض ثقافته القائمة على حفظ أسماء وعناوين كتب وقضايا، ويعلن أحدهم "أنا مش معك... قالها فولتير... ممكن أضحي بروحي حتى تقول كلمتك..." أو في جملة "طول عمري بحب الشجر، والشجر بعيد... و عايش بمدينة شبَّهْتا بصبة باطون..." وسواها. والى هذا التعدد في الموضوعات والصور وأساليب السخرية، ثمة التعدد في صعيد اللحن والإيقاع. وبرغم الاتكاء على الإيقاع السريع للجملة الموسيقية، فإن الإيقاع الهادىء والبطيء يظل حاضراً. كما يتنوع طول الجملة الموسيقية فتأتي طويلة هادئة أو سريعة قصيرة، وبحسب ما تقتضي الفكرة المعبَّر عنها. تنطوي هذه التجربة الغنائية، ككل تجربة جديدة، وأولى للفنان نفسه في هذا المجال، على روح البحث والتجريب ومحاولة الإفادة من عطاءات آخرين في هذا الحقل، فهي تفيد من روح عمل سيد درويش. كما تميل على عمل زياد الرحباني لتفيد من بعض جوانبه، لكنها تمتلك خصوصيتها وهوية صاحبها، وهي - بحسب صاحبها نفسه - مغامرة تسعى الى تحدّي السائد وتصطدم مع الثبات بحثاً عن الجديد، لكنها مغامرة محسوبة "لأن فيها عناصر موسيقية وكلمات وأداء... تعبر عن هموم المجتمع". ومشكلة هذا النمط من الغناء هي مشكلة المجتمع الذي يفتقر الى الذاكرة في مجال العمل الساخر "ليست لدينا ذاكرة للعمل الساخر. في مصر كان سيد درويش، في لبنان الآن زياد رحباني. أما في سورية فما من تجربة واحدة للغناء الساخر. هناك أشكال من المونولوغ والأعمال الفكاهية. لكن تجربتي هي الأولى في سورية لهذا هي تجربة تصطدم مع الذائقة السائدة والذهنية التي تحاكي الثبات". تجدر الإشارة الى أن ألحان الأغاني هذه، جرى تطويرها وتقديمها في حفلات خاصة في المانيا، إذ قدمتها الفرقة في حفلات للموسيقى الخالصة، دون الكلمات، وقد لقيت التجربة - بحسب شقير - إقبالاً طيباً، فهي موسيقى "لها علاقة بأصول موسيقية شرقية، من جهة، وهي، من جهة ثانية، ذات بناء حديث ومعاصر، تلبي أكثر من ذائقة. تأخذ الثيمات المعتقة من موسيقانا الشرقية، وتعمل على توزيعها آلياً، وبنائها ضمن إيقاعنا الشرقي الحديث. انها ذات روح شرقية، ولُكنة إنسانية / كونية". ويكرس سميح شقير - حالياً - وقتاً طويلاً لإنجاز أعمال موسيقية يعدّها كخلفيات للأعمال الدرامية التلفزيونية. وهو يبرر هذا العمل، ولا يراه غريباً عنه، "فأنا - يقول شقير - منذ فترة طويلة أشعر بإمكانية الموسيقى على تخطي حدود الكلام. وفي هذه المرحلة أفضل الموسيقى لقدرتها على تجاوز التفاصيل باتجاه الكوني. تظل قدرة الموسيقى على التعبير أكبر من قدرة الكلام. والعلاقة بين الموسيقى التصويرية والدراما هي فسحة للتعبير المشترك عن حالة. طبعاً ليست هي الحلم للتعبير عن ذاتي موسيقياً، لكنها فسحة. والأمثل لي هو تأليف عمل موسيقي ضمن مشروعي وأفكاري. وهذا ما أسعى اليه، ولدي بدايات عمل أحتاج وقتاً وإمكانات لإنجازه. ولكني متأكد من أنني لا أقدم إلا ما أرضى عنه، حتى في حقل الدراما". وعن مصير الأغنية الجادة، وما إذا كان لديه تفكير في العودة اليها، يقول شقير "إن اللحظة السياسية الحالية فاقدة الحرارة والحماسة. وفي هذا المناخ يصعب تقديم ذلك النمط من الغناء. ولكن. ولأن في مخزوننا حاملاً لأغنية الوطن والحرية والقيم الإنسانية الأخرى، فيمكن أن تعود. ومن جهتي، لدي مجموعة من الأغاني المؤلفة والملحنة المنوّطة الجاهزة للتقديم، وأنتظر الوقت الملائم لتقديمها في شريط أو اثنين. لأنها تجربة ذات شكلين، أحدهما وجداني في حس إنساني عام، وبالأسلوب الجاد، والثاني ذو طبيعة شعبية". ولأن شريط "زماني" هو الأول في هذا المجال، لا بد من التنويه الى ما يمكن أن يتركه من آثار وردود فعل متناقضة تراوح بين التشجيع المطلق والرفض الحاسم، وخصوصاً أن ثمة تنويعاً على صعيد اللهجة بين المصرية والسورية قد يحرم الشريط بعض خصوصيته، لكنه تنويعاً يساعد على وصوله لشريحة أوسع إذا ما تيسر له الموزع الناشط على مستوى الوطن العربي عموماً، أو حتى على مستوى سورية ومحيطها حيث تكوّن للمغني جمهور عريض يمكن أن يكون متلهفاً لسماع جديده بعد انقطاع طويل.