في كتاب أصدره في النصف الثاني من السبعينات وصف الشاعر المصري الراحل نجيب سرور مقهى "ريش" بأنه "أحد منتديات المثقفين... والادعياء". وسرور نفسه كان من العناصر "الفاعلة" في حلقات النقاش التي ميزت مقهى "ريش" في الستينات والسبعينات، وكانت تتحول أحياناً ساحة للتراشق، بزجاجات الجعة الفارغة! وفي السبعينات ايضاً هاجم شاعر آخر هو أحمد فؤاد نجم "مثقفي مقهى ريش" في قصيدة له جاء فيها "يعيش المثقف على مقهى ريش / يعيش يعيش يعيش/ محفلط مظفلط كتير الكلام / عديم الممارسة/ عدو الزحام/ بكام كلمة فاضية / وكام اصطلاح / يفبرك حلول المشاكل أوام / يعيش المثقف/ يعيش يعيش يعيش". وقبل أيام أعيد افتتاح المقهى الأشهر في وسط القاهرة بعد فترة إغلاق دامت عشر سنوات خضع خلالها ل"التجديد". ومع ذلك لا تزال تتصدر واجهته عبارة "الافتتاح قريباً" باللغتين العربية والانكليزية، ويفسر صاحب المقهى ذلك بقوله "ان عمل الكافتيريا لم يتقرر بشكل رسمي بعد" رافضاً اعطاء تفاصيل لتوضيح الأمر. في أي حال شهدت الكافتيريا، منذ إعادة الافتتاح التي تجسدت في انتظام العمل "رسمياً" في البار والمطعم الملحقين بالمقهى، لقاءين يذكّران بأجواء الستينات والسبعينات. في الأول التقى عدد من المثقفين حول الشاعر أحمد فؤاد نجم احتفالاً بعيد ميلاده ال 71، وسرعان ما انفض الجمع من دون خسائر تذكر! والثاني جرت وقائعه قبل ايام واستهدف تأسيس "تجمع مستقل للمثقفين المصريين"، وكان نجم في مقدم الذين حضروا هذا اللقاء ايضاً، وحين ذكّره أحدهم برأيه القديم في "مثقفي ريش" اكتفى بالابتسام، فيما أكد الكاتب ابراهيم منصور أن "الفاجومي" - وهو اللقب الذي يشتهر به نجم - تراجع عن ذلك الرأي. وحرص منصور، وهو من أبرز وجوه "حقبة ريش الذهبية"، منذ بداية اللقاء الثاني على تأكيد أن "مقهى ريش" لن يكون مقراً للتجمع المزمع تأسيسه "حتى لا نضايق أحداً" واقترح أن يكون "اتيليه القاهرة" مقراً له. ووافق الفنان التشكيلي محمد عبلة، بصفته عضو مجلس إدارة الاتيليه، على الاقتراح. إلا أن الأمر لم يمض حتى النهاية بهذه السلاسة، إذ طالب كثير من الحاضرين بالاتفاق أولاً على الشكل القانوني للتجمع، على أن يجري النقاش بعد ذلك حول مقره. ولم يتوصل اللقاء، الذي أدارته الروائية واستاذة الأدب الانكليزي في جامعة عين شمس الدكتورة رضوى عاشور، الى اتفاق، لا بشأن صيغة التجمع وشروط الانضمام اليه، أو المكان الذي يفترض أن يلتقي فيه اعضاؤه بانتظام. بل إن هناك من حاول هدم الفكرة من أساسها داعياً الى العمل من خلال النقابات القائمة واتحاد الكتاب بدل الاكتفاء باتهام هذه التنظيمات بعدم الفاعلية، ومن هؤلاء السيناريست أسامة أنور عكاشة. ويبدو أن "كافيه ريش" الذي تأسس على طراز أوروبي في العام 1908 وصار جزءاً مهماً من الحياة الثقافية والسياسية والفنية في القاهرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يقبل الآن على مرحلة تستفيد من التاريخ ولا تكرره. فالترميم الذي خضع له المقهى راعى المحافظة على القديم قدر الإمكان، كما قال ل "الحياة" المهندس عباس محمود، الذي أشرف على عملية الترميم. اذ جرى تحويل "بدروم" المقهى، الذي استخدم لسنوات طويلة كمخزن، الى "بار" تتصدره خلف واجهة زجاجية مطبعة صغيرة كانت مخصصة لطبع المنشورات السرية لزعماء ثورة 1919. اما صالة المطعم فتزين جدرانها صور بالأبيض والأسود لأبرز رواد المكان من الراحلين مثل عبدالوهاب البياتي ومعين بسيسو وغالب هلسا وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وكامل الشناوي والممثلين نجيب الريحاني ويوسف وهبي وسليمان نجيب، وأم كلثوم التي ثبت أخيراً ان أول خشبة مسرح اعتلتها في القاهرة 1923 كانت خشبة "تياترو ريش" الذي كان يشغل حديقة المقهى قبل أن يزال في زمن لاحق وتنشأ على انقاضه بناية سكنية ضخمة. وتتوسط تلك الصور صورة ملونة للأديب الكبير نجيب محفوظ الذي كان يتحلق رواد المقهى حوله في ندوته الاسبوعية لسنوات عدة، قبل أن يقرر صاحب المقهى أن تكون اجازته الاسبوعية متوافقة مع موعد الندوة بالذات. ويقول الروائي مجيد طوبيا الذي عاصر الحقبة الذهبية لمقهى "ريش" ل"الحياة": سيكون من الصعب على ابناء جيلي والاجيال التالية من الأدباء الجلوس على "ريش" يومياً كما كان يحدث في الماضي. انا مثلاً لا أقدر على الذهاب الى هناك يقيم في شرق القاهرة أكثر من مرة واحدة كل أسبوعين. اما الشباب فإن قائمة الاسعار الجديدة لن تناسبهم، فهي تزيد عن مثيلتها في المقاهي الاخرى بنحو 40 ضعفاً". ويتفق القاص الشاب وحيد الطويلة مع ما ذهب اليه طوبيا. ويضيف ل "الحياة" أن مقهى "ريش" الجديد "صار جزءاً من النظام العالمي الجديد ومن ثم علينا أن نهرع الى مقاهٍ أخرى تغض البصر عن حرافيش يتحدثون كثيراً ويكتبون قليلاً".