ليس أمام إسرائيل، قبيل انسحابها من جنوبلبنان، سوى أن تحلّ ميليشيا "جيش لبنانالجنوبي" التي انشأتها وسلحتها وموّلتها وحددت لها وظيفة المحاربة بالنيابة عنها في الشريط المحتل. إذ أن تفكيك هذه الميليشيا وتسريح أفرادها يشكل بداية حل لمعضلة قد تعرقل سيناريو الانسحاب نفسه إذا اهملت أو إذا تركت لتتفاعل تمهيداً لاستغلالها بعد الانسحاب. الأممالمتحدة حسمت أمرها بالنسبة إلى هذه القضية وأبلغت الإسرائيليين أن بقاء الميليشيا يعني أن الانسحاب غير كامل، وان أي عمليات لحزب الله ضد "الجنوبي" ستكون مبررة، وبالتالي فإن القوات الدولية ستكون في موقف حرج لا تريده، لذا فهي تريد استباق مثل هذا الاحتمال للتخلص منه. أما مطالبة انطوان لحد ب"عفو عام" فهي مناورة اللحظة الأخيرة التي يعلم صاحبها جيداً أنه تأخر كثيراً بطرحها. صحيح أنه استند إلى سابقة "العفو" المشؤوم الذي استفاد منه المحاربون، إلا أنه كان فرصة محددة ومحدودة انضوى الجميع بعدها في لعبة سياسية وفرت لها الدولة اللبنانية العائدة من غياب "إطاراً شرعياً"، كما وفرت لها سورية سقفاً يتحرك تحته الجميع. بمعنى آخر، ان ظروف "اللحديين" لا تنطبق عليها مواصفات ذلك العفو، خصوصاً ان الدولة العائدة ما لبثت ان تبنت رسمياً المقاومة اللبنانية للاحتلال، وكان اللحديون ولا يزالون إلى اليوم رأس الحربة التي يحارب الإسرائيليون المقاومة بها. بمعزل عما يطرحه انطوان لحد يفترض ان تكون للحكومة اللبنانية مقاربة واضحة لمشكلة سكان الشريط المحتل، بل يفترض ان تكون لديها مبادرة حيالهم. فإذا كان "العفو" الذي طلبه لحد مرفوضاً وغير منطقي - وهذا مفهوم - فإن صمت الحكومة وعدم مخاطبتها أولئك الجنوبيين أمر غير مفهوم وغير مبرر. فنحن لسنا فقط أمام محاربين سلحتهم إسرائيل واستخدمتهم، وإنما نحن حيال "شعب" صغير يُنظر إليه على أنه شعب خونة، وهذا غير صحيح وغير منطقي. فليذهب المقاتلون إلى الجحيم، ولكن ينبغي أن نعرف كيف نستعيد أبناء الشعب الآخرين. فهؤلاء عاشوا طوال ربع قرن تقريباً تحت رحمة الأمر الواقع، لم يذهبوا إلى الإسرائيلي موالين ولم يتخلوا عن لبنانيتهم مختارين. كانت بينهم قلة ممن باعوا أنفسهم كلياً للعدو، وهؤلاء لن يعودوا اطلاقاً، أما الآخرون فلا خيار لهم سوى العودة، ومن شأن الحكومة اللبنانية ان تشق لهم طريق العودة بأمان وكرامة. وبعض الكرامة أن يُحاسب المتعاون مع العدو أمام القضاء اللبناني. وإذ قال رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص ان "من يسلم نفسه لن يلقى من القضاء إلا العدالة والشفافية وحكم القانون، ولن يكون للانتقام أو التشفي مكان في سياسة المسؤولين حيال أحد"، فحبذا لو تكون هذه عناوين مبادرة وطنية تعمل الدولة على بلورتها وتتعهد تطبيقها على رغم كل علامات الاستفهام التي يرسمها اللبنانيون حول "الشفافية" و"حكم القانون" و"العدالة". في أي حال يشكل موقف رئيس الحكومة بداية مخاطبة معقولة للجنوبيين "العائدين"، وهو موقف مطلوب تطويره لئلا يُكتفى بالمعالجات الأمنية التي تبقى محدودة الأفق. وكلنا يعلم أن قسماً كبيراً من اللحديين دخل منذ فترة في تفاوض سري مع الأجهزة أو مع "حزب الله" أو مع مراجع سياسية، وفي المقابل هناك قسم عقد العزم على الرحيل ورتّب أموره في هذا السبيل، لأنه يعرف تماماً أنه اقترف في حق وطنه وشعبه ما لا يسمح له بالبقاء فيه. وهذا الواقع لا بد أن يشجع الدولة اللبنانية على أخذ زمام المبادرة في الجنوب، لأنها ليست في صدد استرجاع أرض فحسب، وإنما استرجاع لبنانيين يريدون أن يبقوا في وطنهم من دون خوف أو تردد.