على رغم أن اشتداد المرض على نزار قباني طوال الشهور السابقة كان أكد على أن هذا الشاعر العربي سوف يرحل عن عالمنا، فإن ذهول العالم العربي لم يكن هيناً عندما أعلن عن رحيل صاحب "خبز وحشيش وقمر". ومن هنا عمّ الحزن ليس الأوساط الأدبية والفنية العربية وحدها، بل قطاعات عريضة من جماهير عربية رأت في رحيل نزار قباني خسارة قومية لا تعوض. وهكذا شعر كثيرون يوم الأول من أيار مايو 1998، أي في اليوم التالي لرحيل الشاعر فعلياً، أن ثمة فراغاً كبيراً بدأ يلوح، كان أشبه بالفراغ الذي تلى إعلان رحيل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش خلال السنوات الأخيرة. ذلك أن نزار قباني كان في الحياة الشعرية العربية، ما كانه أولئك الثلاثة في الحياة الغنائية. كان شاعراً متميزاً بالتأكيد، لكنه كان - أكثر من ذلك - ظاهرة استثنائية، إذ لم يحدث سابقاً أن تمكن شاعر، كرس حياته للشعر، من أن يجعل من كتبه الأكثر مبيعاً، في طول العالم العربي وعرضه، طوال ما لا يقل عن أربعة عقود من السنين. فنزار قباني كان الشاعر المقروء أكثر من أي شاعر آخر، وربما في العالم كله. بالنسبة الى الباحثين والأكاديميين، قد يكون من الصعب النظر الى شعر نزار قباني، بوصفه التجلي الأفضل للشعر العربي المنشود. صحيح أن كثيرين يعتبرونه امتداداً لكبار شعراء المرأة واليومي في الحياة العربية بدءاً من عمر بن أبي ربيعة. لكن كثيرين كانوا يرون في الوقت نفسه أن تجديدات نزار ظلت محصورة في مجال الموقف والتعبير أكثر مما في مجال اللغة الشعرية. فلغته كانت دائماً بسيطة وقد يقول البعض تبسيطية تستقي من التعبير اليومي وتخاطب العواطف، وقد يقول البعض: تخاطب الغرائز، وربما وجد في هذا بعض أسباب نجاحها، في عبارات قصيرة ثاقبة تدخل القلب مباشرة حتى وإن عجزت عن أن تعرج على العقل أو الروح. ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون، من بين إنجازات نزار قباني الكثيرة، أثره الكبير في التجديد الذي طرأ على كلام الأغنية العربية، منذ "أيظن" لنجاة الصغيرة وحتى تلحينات كاظم الساهر لبعض أجمل نصوص نزار، مروراً ببعض القطع الوطنية الرائعة التي شدت بها أم كلثوم ذات يوم. طبعاً ما نورده هنا إنما هو صورة موجزة للسجال الذي دار ويمكن أن يدور دائماً حول نزار قباني وشعريته. لكن المؤكد خلف هذا كله هو أن هذا الشاعر الذي كان ظهوره الأول في العام 1944 عبر ديوان "قالت لي السمراء" ظل يضخ المكتبة العربية بأشعاره ومجموعاته ولحظات غضبه وفترات حبوره، حتى لحظات عمره الأخير، بحيث أن مجموع ما أصدره من كتب لم يقل عن ستين كتاباً بين مجموعة شعرية وسيرة ذاتية ومقالات نثرية. ومع هذا تظل عناوين مثل "طفولة نهد" و"سامبا" و"الشعر قنديل أخضر" و"هوامش على دفتر النكسة" و"قصائد متوحشة" و"إلى بيروت الأنثى مع حبي" من أشهر ما أصدر نزار. ولد نزار قباني العام 1923 في دمشق، وتلقى دروسه الابتدائية ثم الثانوية والجامعية فيها. وهو تفتح على الأدب والشعر باكراً متتلمذاً على يد خليل مردم بك "هذا الرجل الذي كان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام ... هذا الرجل ربطني بالشعر منذ اللحظات الأولى"، كما قال نزار في سيرته الذاتية. ونزار منذ ارتبط بالشعر باكراً في صباه لم يتركه بعد ذلك أبداً. وهو حتى حين كان ينصرف الى منصب ديبلوماسي رسمي كقائم بأعمال سفارة، أو سفير لبلدة في دول مثل الصين وإسبانيا، في فترات متفرقة من حياته، كان يحرص على إبقاء الشعر همه الأول والأخير. والشعر بالنسبة الى نزار قباني كان يعني المرأة والوطن. ومن هنا طغى هذان الموضوعان على شعره، فكتب للمرأة بعض أجمل وأرق قصائد الشعر العربي الحديث، كما كتب للوطن أكثر قصائده غضباً وحباً. وفي الحالتين كان نزار قباني أشبه بمن يعبر عن العواطف العربية العامة، إضافة الى ذلك البعد اليومي البسيط في صوره وموضوعاته ما جعل الكثيرين يشبهون شعره بشعر الفرنسي جاك بريغير، الذي كان مثله، في لحظات كثيرة من حياته، صاحب إضافات أساسية على الأغنية أكثر مما على الشعر نفسه. رحل نزار قباني عن عالمنا في اليوم الأخير من شهر نيسان ابريل قبل عامين بعد معاناة مع المرض شغلت المسؤولين والجماهير العربية. وحين أدرك هؤلاء في الأول من أيار مايو أن الحياة العربية خسرت نزار قباني، شعروا أن جزءاً من عالمنا بدأ ينهار.