سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عولمة الإعلام والاتصالات تجبه الهويات بتحديات التركيب والتغيير والإحاطة 4 من 4. الوحدات الاجتماعية والتاريخية المغلقة تغادر عوالمها إلى علانية عامة ومشتركة عسيرة
وإلى توليفٍ مونتاج وتنضيد هما نتاج الوسيط الإعلامي نفسه، ومن بنات "طبعه" - الفرجة، الانفعال، التقطيع، القيام محل الواقع، مجانسة المختلف، زعم الترجمة، التخزين الضرير... - تتولى وسائط الإعلام، بما هي مصالح وكتل مصالح رأسمالية معولمة، رقابة خفية على المادة الإعلامية. وتقع الرقابة على الموضوعات، وتواتر الخبر عنها، وطرائق صوغه، إلى تأخير الخبر أو تقديمه، وعزله عن أخبار أخرى تقربه إلى الفهم والعقل أو جمعه إليها. ولعل هذا الباب، باب المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية الحاكمة في الإعلام والمتسلطة عليه، هو أكثر الأبواب طرقاً وتناولاً. ففي منتصف العقد العاشر من القرن العشرين بلغ عدد وكالات الأخبار مئة وعشرين 120 وكالة، خمسون منها وطنية. ولكن خمس 5 وحدها وكالات يصح وصفها بالعالمية. والوكالات الخمس هذه، وهي أب وي ب ورويترز وو ص ف وتاس، تبلِّغ أخبارها، أو أنباءها على ما كان يقال في العقد السادس، إلى 8،99 في المئة من "الأرضيين"، أي سكان الأرض، وتنشرها فيهم وعليهم. وفاقم انتشارُ خزائن المعلومات والمعطيات، أو "بنوكها"، وتعاظُم دورها في الإعلام الصحافي والبحثي، فاقما الفرق بين المجتمعات الصناعية وبين المجتمعات الأخرى. فعلى حين كان عدد "البنوك" هذه مئة 100 في 1965، بلغ العشرة آلاف 10000 في أعقاب ثلاثين عاماً. ويبلغ عدد "البنوك" الأميركية سبعة آلاف وخمسمئة 7500، والأوروبية ألفين ومئة 2100. وتقتسم البلدان الأخرى، وهي معظم العالم، الأربعمئة 400 "بنك". ولما كانت خطوط الهاتف هي الوسيط الضروري بين خزائن المعلومات والمعطيات وبين أصحاب الاستعلام، عجز المحتاجون في البلدان الفقيرة التجهيز الهاتفي عن بلوغ حاجتهم من المعلومات. ويتفق مستوى التجهيز الهاتفي مع مستوى التجهيز التلفزيوني ومستوى التجهيز الحاسوبي. ففي الأبواب الثلاثة هذه تتقدم الولاياتالمتحدة الاميركية التسعة وثلاثين بلداً الأوائل في الترتيب 1994: فلكل مئة مواطن أميركي 5،59 جهازاً هاتفياً، و79 شاشة تلفزة، و7،29 حاسوباً. وتحل البلدان الإنجليزية اللغة الثانية أحياناً، مثل كندا وأوستراليا واليابان وبريطانيا وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا وتايوان وإسرائىل وماليزيا وجنوب افريقيا وتايلندا والفيليبين والهند، مراتب متفاوتة من اللائحة. والبلد الأضعف تجهيزاً تلفونياً هو الأضعف تجهيزاً بالحاسوب والاتصال المعلوماتي. وتتأخر الهند مراتب اللائحة: ف1،1 في المئة هندي يحوز تلفوناً، وخمسة في المئة يملكون جهاز تلفزة، وعليه لا يملك حاسوباً إلا هندي واحد في الألف، وهي نسبة تقل سبعة أضعاف عن متوسط البلدان غير الصناعية وتبلغ 7 في الألف، وتتهدد مستقبل الهند الاتصالي والمعلوماتي بالضمور. وعلى هذا فالمصدر الإعلامي الأول، وهذا يصح في كافة أنواع الإعلام، إنكليزي اللغة. وتبلغ حصة اللغة الإنكليزية تسعين 90 في المئة من مادة المصدر. وحمل هذا باحثاً وكاتباً وإعلامياً فرنسياً على البرم بالأمر والقلق. فهو لاحظ أن طلب الاستعلام بمواد أو مداخل مثل بونابرت أو ديغول أو ميتران، وهم من أعلام "الوطنية" والتراث الفرنسيين، من طريق الشبكة، يقود لا محالة إلى الجامعات الأميركية و"بنوك" معلوماتها ومعطياتها. فما لا يطاق، على قول مؤرخ فرنسي، هو "تصفح تاريخ العالم في مرآة أميركا وحدها". ولا تعفّ الغلبة الأميركية عن التلفزة. وهي لا تقتصر على بلدان "الجنوب" وحدها بل تشمل بلدان "الشمال". ففي مطلع العقد العاشر كانت الشاشات الأوروبية تبث بين 20 و40 في المئة من برامجها الثابتة نتاجاً أميركياً. وتبلغ الحصة الأميركية سبعين 70 في المئة إذا احتسبت الأخبار السياسية والعلمية والفنية... ومقابلات الاستديو. فتصدر الولاياتالمتحدة الأميركية 1994 نتاجاً متلفزاً بأربعة مليارات بليون دولار، إلى أوروبا، سوقها الأولى، ولا تستورد إلا بثلاثمئة وخمسين 350 مليوناً. وعلى تسعين 90 في المئة من النتاج التلفزيوني الأوروبي أن يقبع داخل حدود أوروبا ولا يتعداها. وزاد الإقبال على النتاج الأميركي التلفزيوني جراء انتشار محطات البث في أرجاء العالم، واعتمادها بثاً متصلاً يبلغ أربعاً وعشرين ساعة في اليوم. فسعة السوق الاميركية تتيح لها تسديد تكلفة الانتاج، وعائداً من الربح كافياً، يمكنانها من بيع صادراتها من "السلع" الإعلامية والثقافية بأثمان رخيصة. ويُحصى هذا في عوامل الغلبة الأميركية على سوق عالمية تنزع إلى الوحدة، على رغم حواجز اللغة والتقاليد والهويات الكثيرة والمختلفة، وتنحو نحوَ تقليل اعتبار "الاستثناءات" الثقافية، على قول الفرنسيين، واعتبار الهويات القومية والتاريخية. وتتوسل الصناعة الإعلامية والثقافية الأميركية إلى غلبة سلعها بسياسة "مص الدماء": فهي تستعيد مقتطفات من الآداب والأساطير والأعمال المحلية العربية والهندية الأميركية والفرنسية والانكليزية والشعبية الأوروبية الوسيطة وغيرها وتخرجها في حلة صور متحركة بمتناول كل الأفهام والأذواق في جهات العالم الأربع. وعلى مثال آخر، قريب من هذا، "تجدد" الصناعة الأميركية أعمالاً سينمائية أوروبية، وترويها على حسب ما ترتأي، ويهوى جمهورها المحلي، وتصدرها إلى بلاد المنشأ الفني لتحل محل الأعمال الأصول. ويحول توحيد التعرفات الجمركية على السلع المستوردة وخفضها العام، وتقييد الدعم الحكومي المحلي للإنتاج - تحول هذه الأحوال، الناجم معظمها عن نازع العولمة، دون حماية الإنتاج المحلي، أو الوطني، أو القارّي في أحيان متكاثرة. فتشبِّه هذه الحالُ على الأذهان والأفهام قوةً أميركية، وطنية أو قومية بحسب نسبةٍ عربية نابية عن موضعها، مطلقة اليد في تصريف الأفكار والمعاني والصور على هواها، ولا قيد عليها إلا قيد ما تحسبه مصلحتها أو مصالحها. فيسع هذه المصالح، على زعم أصحاب المذهب، تقديم ما شاءت وتأخير ما شاءت. وليس تعظيم مسائل وموضوعات مثل الليدي ديانا، أو "محرقة" اليهود من وجه آخر، إلا من القرائن الكثيرة على سخافة متعمدة وانحياز متعمد. وليست العولمة، على هذا، وفي كل مضامير العمل الإنساني، إلا قناعاً تتقنع به أمركة مُرسلة وغاشمة تستأنف، من طريق إوالات السوق وحرية التجارة والخصخصة، سياسات أمبريالية مجربة ومدمرة. ولا رد على هذا المنزع، بحسب من يحملون العولمة على الأمركة، إلا تجديد السيادة الوطنية والشعبية على مرافق السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة، وحمايتها من غزو بربري جديد يصيب الهويات التاريخية في الصميم، ويتهددها بالاندثار. وقد لا يغالي آخرون غلو "السياديين"، على ما يسميهم الفرنسيون كذلك، لكنهم يستبقون من هذا الرأي نواته إذا هم تركوا معظم النتائج العملية المترتبة عليه. ومهما كان من أمر المناقشة الاقتصادية للنتائج المترتبة على سياسة "سيادية" حمائية مفترضة، ولجواز مثل هذه السياسة بعد أو امتناعها واستحالتها، فما يرمي إليه أصحاب الهوية القومية الإعلامية والثقافية وأنصارها هو، على الأغلب والأكثر إن لم يكن على الدوام وأبداً، الانكفاء على داخل لا يسبر غور خصوصيته وتفوقه، وتنهض عَلَماً عليه "دولة" هي أي قائدها وزعيمها ومرشدها وحزبها الحاكم و"شعبها" أي قومها وإثنيتها أو "حزبها" واحدٌ من غير فرق ولا تباين. وزعمُ هوية على هذه الشاكلة، قومية كانت أو دينية أو طبقية اجتماعية وإيديولوجية، على رغم الفروق بينها، ترتَّب عليه على الزعم جمعُ وجوه العلائق السياسية والحقوقية القانونية والثقافية والصحافية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية في يد مركزية واحدة. فالمجتمعات التي تساس بمثل هذه الهوية، أي بزعمها وزعم جوازها وإمكانها، لا تنصب السياسة بموضع القيادة وحسب، بل تَحِلُّ السياسة في "طليعة" ضيقة انتخبت نفسها بنفسها، وتقيم بين "الطليعة" هذه، ويختصرها سيد مطاع لا يراجع، وبين "شعب" أخرس، يفترض واحداً من غير شقوق، رابطةً وثقى مثالها صلة المعنى بالبيان عنه. فالهوية، والحال هذه، هي هذا العَلَم عليها، وجامعُ العبارة عنها في كل أحوالها. ولا تستقيم عبارة من هذا النوع، حتى في عالم مغلق ومسطح، إلا برقابة متزمتة وشكاكة يوكل إليها أمر البت في ما يحق له الحدوث وفي ما ينبغي أن يسدل عليه ستار العدم، ماضياً وحاضراً وآتياً. ومثل هذه الهوية قيمية ومعيارية وليست إنَّية ولا تجريبية. فلا يصح القول فيها إذا لم يكن استدلالياً وقياسياً: يَستدل على ما ينبغي أن يصدر عن الهوية الجوهرية هذه، ويقيس الحوادث على معانيها اللازمة ويردها إلى هذه المعاني ويردم الفروق بين الحوادث وبين المعاني اللازمة. وحيث يسود هذا المثال للهوية يقتصر الإعلام على الدعاوة، أو على الإرشاد والتوجيه "القومي" أو الديني والخلقي، أو "التاريخي" - من "الكتاب الموحد" للتاريخ - ، أو "التربوي المدني".... ومهمتها الأولى حماية "الشعب" من التفرق مواطنين وأفراداً وجماعات - مؤتلفة من آراء ومصالح ومواضٍ خاصة ومستقلة، ومن علاقات "طبيعية" وعصبية موروثة - " ومهمته الثانية حماية هذا "الشعب" من خارج يتصور على الدوام في صورة العدوان والغصب والكذب والتسلط والتحريض" وهذه تحرف الهوية عن هويتها، وتزين لها الضلال عن النهج المستقيم. وتدعو المهمتان الإعلام الراشد والصادق، وهو ينبغي أن يقوم عليه محازبون موظفون من "القطاع العام" معروفون بتمييزهم الصارم الحقيقة من الباطل، إلى إثبات كل ما يدل على التماسك الداخلي تماسك "الدولة" و"الشعب" وعلى الصمود بوجه العدوان الخارجي، وإلى اطراح كل ما يشتمُّ الموظفون منه إضعافاً للوحدة الداخلية "القومية" أو افتئاتاً على الصمود وجبه الخارج. وفي هذا الضوء القاتم يرسو إعلام الهوية على إيجاب العالم المتخيَّل الذي لم يخرج منه الإتحاد السوفياتي إلا بالحرب ومن طريقها، والذي وصف المعارضُ "المنشق" التشيخي فاتسلاف هافل صيغتَه الملطفة والمخففة والشائخة في أعقاب نيف وعقدين. وخرج الاتحاد السوفياتي من عالم إعلامه المتخيل، والمضلِّل عمداً، إلى بعض الإعلام عن الوقائع القاسية والجارحة غداة مأساة تشيرنوبيل، وخلل مولداتها الذرية وانتشار إشعاعها المميت، بأوكرانيا والجمهوريات الأخرى والبلدان المجاورة، في شتاء 1986. فكانت العلانية الغورباتشوفية أول الدواء القسري والاضطراري، والخطوة الأولى على طريق إعلام هو جزء من علانية عامة ومشتركة أو "حيز عام"، بحسب ترجمة شائعة. والعلانية العامة والمشتركة - البورجوازية، على المعنى التاريخي الذي يحملها عليه يورغين هابرْماس، للبيان عن إنشاء هذه العلانية إنشاءً ملازماً لعوامل حادثة لا يصح استنتاجها من نواة جوهرية ثابتة وعامة أو من عبقرية حضارية مستمرة - تنهض على كثرة القوى والأطراف والمصالح والآراء التي تأتلف منها دائرة العلانية هذه، وعلى استقلالها وانفصالها بعضها عن بعض، وعن القوة العامة أو سلطان الدولة. فالأفراد الآحاد هم شرط العلانية، وهم فرضها الأول، وجمعياتهم الطوعية والتلقائية من أبنيتها. والدولة - الأمة هي مجتمع هؤلاء الأفراد الآحاد، ولو كانوا ثمرة تجريد حقوقي، أو جراء كونهم تجريداً حقوقياً. ولا يستوي الأفراد الآحاد على هذا النحو، أي أفراداً آحاداً، إلا بانفكاك وجوه الإجتماع بعضها من بعض: فتخرج معايير العمل الاقتصادي من الأحكام السياسية والدينية والخلقية، ويستقل صوغ القوانين عن الفرائض الشرعية والتقليدية، وتوكل المعارف الى الاختبار والفحص العقلي، إلخ. وتقوم هذه مقام القيود على سلطان الدولة الوطنية. وتضطلع الدولة الوطنية بدورين غير متفقين ولا متلائمين: دور التمثيل على الهوية التاريخية المشتركة والسيادة، ودور ميزان الإرادات والنزعات والأهواء الآنية والحاضرة والمتجددة مع إجراء كل انتخابات ومع ظهور حركات اجتماعية وتيارات رأي ومع عقلنة الإدارة. ولا يُحمل الدور الأول على الثبات، ولا الثاني على التغير والتحول. فالدور الثاني لا ينفك من العمل في الأول، وفي صوغه وتجديد معانيه، على قدر ما يسند هذا الدور التجديدَ إلى معانٍ يستولدها من الهوية التاريخية. ولعل مهمة الإعلام الأولى، بما هو جزء أو وجه من دائرة العلانية المشتركة والعامة، هي رعاية محاورة الدورين واحدهما الآخر، ورعاية منازعتهما الغلبة غير المستقرة ولا الحاسمة. وقد يبدو، اليوم، أن العولمة أطاحت الوجه الأول للدور الذي يضطلع به الإعلام، وينبغي ان تضطلع به الدولة والسياسة والثقافة والإدارة وأن يضطلع به التشريع. ولا ريب، اليوم، في قوة حجة هذا الظاهر. ولكن الانكفاء إلى هوية مجتمعة، وقائمة في نفسها، هاجسها الأول اتقاء العالم، يسلط على المجتمعات تخييلاً مدمراً، "الكذب الكبير" إعلامه الأوحد والعَلَم عليه. ويفترض "الكذب الكبير" هذا أن "الخارج"، أو العالم المعولم، خلو من الضوابط التي لا يعقل الاجتماع إلا بها، وينهار الاجتماع إذا انتفت هذه الضوابط أو تراخت ودب فيها الوهن. وعليه ينبغي أن يكون الإعلام المعولم، إعلام سي.إن.إن. على سبيل التمثيل، كذباً محضاً، وينبغي ألا يردع الصحافيين رادع من مصلحة أو قانون أو تقليد أو خلق مهني. وهذا الظن يخالف مخالفة قاطعة الأركان التي نهضت عليها دائرة العلانية. فالعولمة، عولمة الإعلام وغيره، نازع يجمع الأضداد، على حين تزعم الهويات الطهر. والتعويل على المنازعة أجدى وأسلم وأعقل. * كاتب لبناني.