غالباً ما نضيف بدائهنا الثقافية والاجتماعية الى الطبيعة والطبائع، فننعت الظاهرة أو الحادثة ب"الطبيعية" تعليلاً لها وتفسيراً. ويقوى النعت هذا إذا مضى بعض الوقت على اعتيادنا غلبة الظاهرة أو الحادثة، فلابست هذه ظواهرَ وحوادث أخرى غالبة كذلك، واجتمع منها ما يسميه الفرنسيون "هواء الوقت"، أي ما "يتنشقه" ناس وقت من الأوقات، أو زمن من الأزمان، من أفكار وأحكام ومعايير تبدو لهم تلقائية، فيرضونها من غير إعمال الرأي فيها ولا المراجعة. فنحن ننسب مطاليبنا وبرامجنا السياسية، في السياسة الخارجية وفي السياسة الداخلية على حد واحد ومشترك، إلى القانون والحق الدوليين والإنسانيين، ولا نشك في صحة النسبة هذه ولا في صدقها. ولهذا أردنا إصلاء سياسات غيرنا نقداً قاطعاً أنكرنا عليها كيلها الحقوق، والأخذ بها، بمكيالين، أو انتهاكها الحقوق المعروفة والشرعية. وإذا ثبت الانتهاك، وثبت الكيل بمكيالين، وإثباتهما من أهون الأمور على سياسة حقوقية وقانونية، لم يُفهم المثبتون كيف لا يقوم "العالم" على المنتهكين وأصحاب الكيل المجحف، وكيف لا يردعهم، يداً واحدة، عن ظلمهم وتطاولهم. ويُخلص من هذا الى أن الحقوق والقوانين إنما هي كذبة الأقوياء على الضعفاء، ولا سبيل الى إحقاق الحق إلا القوة. وكل مماشاة للحقوق والقوانين، والحال هذه، هي تستر على ضعف، وانتهاج طريق لا تؤدي إلا إلى دوام اغتصاب الأقوياء وتخلي الضعفاء. ويُنسى، في الأثناء، أن الاحتجاج السياسي بالحقوق الإنسانية والقوانين والأعراف الدولية لم يغلب على المقالات السياسية الشائعة إلا منذ نحو ربع القرن. وعندما عزم الرئيس الأميركي الأسبق كارتر، صاحب مفاوضات كامب ديفيد ثم راعي الاتفاق المصري والإسرائيلي المنسوب الى المنتجع الرئاسي الأميركي في 1979، على اتخاذ حقوق الإنسان دليلاً ومرشداً في "غابة" العلاقات الدولية، وتحكيمها في أمور مثل إفادة الدول من بند الرعاية التجارية، أو من المساعدات الأميركية التقنية ومن الفوائض الزراعية، فاق عدد الساخرين والمشككين عدد حاملي هذا المذهب "الجديد" على محمل الجد بكثير. ولعل الساخرين والمشككين هؤلاء كانوا هم أنفسهم من حملوا، في عام انتخاب كارتر الى الرئاسة الأميركية، 1976، توقيع الاتحاد السوفياتي اتحاد ليونيد بريجنيف، أمين عام الحزب الشيوعي، وألكسي كوسيغين، رئيس الحكومة إعلان مؤتمر التعاون والأمن بأوروبا، المعروف بإعلان هلسنكي، على رضوخ واقعي "للثرثرة" الإنسانوية الغربية والرأسمالية. فإقرار وارث لينين وستالين على رأس القوة السوفياتية المظفرة وهي في ذروة هيمنتها على العالم الثالث وحركات التحرر، بحق الرعايا في الانتقال و"الجواز الداخلي" وثيقة "المواطن" السوفياتي الأولى، والاستعلام والتشويش على "صوت اوروبا" هيئة إعلامية رسمية، والرأي في مصحات الأمراض العقلية، هذا الإقرار لم يشكل إلا قلة ربما في كونه مراعاة حاذقة للسذاجة الأميركية ولنازعها الولسوني والمبدئي. أما اليوم، وهو يوم يعود أوله أو تعود بديهته الى منتصف العقد التاسع، فليس أقوى تنديداً بخصم أو عدو من تهمته بانتهاك حقوق الإنسان والمواثيق الدولية. ويستتبع التنديد، على نحو ضروري، دعوةَ الهيئات الدولية والقوى العظمى أو من بقي منها "عظيماً" الى الاقتصاص من الجاني، وهو من تقع عليه التهمة، وقطع المساعدات الاقتصادية والعسكرية والتقنية عنه. وتتوسل المنظمات غير الحكومية الى إقرار العقوبات السياسية والاقتصادية وذروة هذه العقوبات الحصار قبل العمل العسكري، تتوسل بإثبات الانتهاك هذا. وتسوغ الدول القادرة على الحصار وعلى العمل العكسري، سياستها في الأمرين الى شواهد الانتهاك نفسه، وتحتاج الدول هذه الى الشواهد سنداً لتدخلها. فكأن احتلال المصالح الحيوية ليس ذريعة مرجحة، ولا سبباً وافياً ومقنعاً. وقد تجوِّز القرائن الكثيرة على تحكيم حقوق الإنسان في بعض أوجه السياسة، الخارجية الدولية والداخلية، الذهاب الى أن حقوق الإنسان العتيدة تصلح ركناً تنهض عليه السياسة على وجهيها الداخلي والخارجي، وعلى وجهها الخارجي العلاقات بين الدول سبيلاً الى إرساء الدولة الداخلية عنوة وقسراً بحسب بعضهم، على حقوق البشر والمواطنين. وهذا ما كانت كثرة الآراء تنكر جوازه وإمكانه وتحذر من النتائج المترتبة عليه. ولكن مهما كان من أمر الجواز والاستحالة، ومن أمر النتائج، ليس الاحتجاج بالحقوق والقوانين ارتقاءً "طبيعياً"، ولا عملاً بسنة من الضرب نفسه. فهو نتاج عوامل يسع المراقب تعقب تكوينها وترتيبها، ويسعه وصف الظروف التي لابست النشأة والترتيب وطبعتهما بطابعها. وعلى هذا، فتحكيم حقوق الإنسان في السياسة يصدر عن معنى، أو معانٍ انعقد عليها تحول الثقافة السياسية من طور الى طور في الدول والمجتمعات الأوروبية والأميركية. ويستخلص مارسيل غوشيه، الفرنسي، وكريستوف بوميان، البولندي الفرنسي، ويورغين هابيرماز الألماني، هذه المعاني على أنحاء ووجوه مختلفة، وفي مواضع متفرقة يجمع بينها ربما التأريخ للحوادث البارزة التي أرخت بثقلها على انعقاد الثقافة السياسية على المعاني الحقوقية والإنسانوية الغالبة. فكان اختبار "الانشقاق"، على ما سمي، في الأنظمة الشيوعية، في أواخر العقد السابع وأوائل العقد الثامن محاكمات الكاتبين دانيال وسينيافسكي الروسيين، وطباعة "أرخبيل الغولاغ" لسولجنتسين في 1974 من الأمارات الأولى على جدوى الاحتجاج بحقوق الإنسان على الحاكمين وسلطانهم. فأدى التمسك بهذه الحقوق الى ثلم جدار الاستبداد الذي بدا مرصوصاً وبريئاً من نوازع التدمير الذاتي التي علقت بالقومية - الاشتراكية النازية، على ما ذهب إليه بعض اليساريين الألمان. وكان توسل الكتاب والمثقفين والنقابيين بدعوى حقوق الإنسان، في روسيا السوفياتية ثم في بولندا الشيوعية والتابعة، الى مقاومة قبضة الحزب المستولي على الدول، وعلى هيئات المجتمع، كان هذا التوسل مجافياً لمفهوم هذه الحقوق. فهي، في تعريفها الذي درج عليه اصحاب المفهوم في القرن السابع عشر البريطاني ثم اصحاب "الأنوار" في القرن التالي، قيد على السلطات ووازع لها عن تطاولها الى ضمائر المحكومين وأجسادهم وبيوتهم وأملاكهم وأرزاقهم، ويغلب وجهها السالب، جراء هذا، على فعلها الموجب. ولكن ما حصل في الأنظمة الكيانية الشيوعية، في طور ضعفها، خالف التوقعَ المبني على المفهوم السالب. ولما أفلح عمال مصنع لينين للصناعات البحرية، في ميناء غدانسكي البولندي، في انتزاع نقابة "التضامن"، في 1980 - وكانت بولندا مسرح اضرابات واضطرابات عمالية في 1970 و1976 من قبل - ظهر من غير لبس أن تقييد السلطان الشيوعي بقيد يحد تماديه، ويلجم هذا التمادي، إنما يمتحن سيطرة "الدولة" الحزبية من وجه، ويباشر، من وجه آخر، تغيرات سياسية واجتماعية عميقة الأثر. غير أن الاختبار البولندي الكبير كان سبقه في مجتمعات الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، على وجه غير سياسي غلبت عليه "الثقافة" أي معانيها القيمية والمعيارية الموجبة والناظمة، اختبار الحركات الاجتماعية الجديدة، مثل الحركات النسوية والملونة والاستهلاكية والطالبية والتربوية والجنسية. وقامت هذه الحركات على إيجاب حقوق للنساء والملونين والفتيان والشباب والمستهلكين، ولعموم الناس بما هم أصحاب رغبات أو منتجون أو متعلمون أو أهل مدن أو مسافرون في آلات نقل أو متطببون... ولم تلبث هذه الحركات، في أميركا الشمالية أولاً ثم في غرب اوروبا، أن بلورت في نصوص قانونية عامة حقوقاً لا عهد للديموقراطيات الغربية بها من قبل. وتحولت حقوق الإنسان الى سائق سياسة عامة، داخل الدول وخارجها على ما مر القول، لا تعف عن مضمار من مضامير التدبير أو حقل من حقوله. ولكنها، فوق تناولها مضامير وحقولاً كانت بمنأى منها من التدخين، والتعريض بالكلام الى المغازلة أو تربية الأهل الأولاد، انقلبت دعوى حقوق الإنسان الى مصدر تقاس السياسة عليه، وتحمل على الصدور عنه، وعلى إعلاء اعتباره فوق كل اعتبار آخر. فإذا نجم عن هذه الحال تعذر المداولة والحسم، والجماعة بما هي دولة موكولة بهما، أو نجم عنها تفرق الأفراد وعسرُ اجتماعهم على قواسم ومصالح مشتركة، مضى المواطنون الأفراد على تقديم حقوقهم على ما عداها، ولو كان ما عدا هذه الحقوق هو شرائط اجتماعهم وشرائط حقوقهم نفسها. ويؤول تقديم حقوق الأفراد على شرائط الاجتماع الى إضعاف "القوة على الحكم" م.غوشيه وإلى التشكيك في شرعية السلطة ومزاولتها، على أي نحو جرت مزاولة السلطة. فليست ديموقراطية النظام السياسي هو موضوع التشكك أو الباعث عليه بل فعل الحكم المحض، ولو كان حكم المجتمع نفسه، على ما هي الحال في الأنظمة الديموقراطية التاريخية. ويتهدد هذا النظام السياسي الديموقراطي بخسارة ما يقوم به ويتماسك، وما لا غنى له عنه وهو قوته على جمع المواطنين في "لحمة" على قول ابن خلدون، يصدر عنها السلطان ويقضي في شؤون أفرادها ومواطنيها. وعلى هذا فقد ينبغي حمل ديموقراطية حقوق الإنسان، أو ديموقراطية الفرد، على أزمة عامة. ولعل عَرَض هذه الأزمة الأول هو عزلها الحق ويُجمع على حقوق... الإنسان أو المواطن، وتعريف السياسة ونظامها، الديموقراطي، بالحق وحده، وبمنأى من عوامل وعناصر لابست تعريف السياسة، والتدبير المشترك، وتلابسها اليوم شأنها المبارحة القريبة القرون الثلاثة أو الأربعة المنصرمة. ومصدر هذه العوامل والعناصر الفاعلة في السياسة، والمغفلة هو الجماعات وكثرتها "النقلية". وترتبت على هذه الكثرة تواريخ الجماعات وتقاليدها، وترتب اختلافها واقتتالها وتحالفها. فالسياسة، إلى اليوم، وعلى خلاف الطوبى التي تحملها منذ عقدين ونصف العقد في إنسانية مجتمعة وواحدة، تضرب بجذورها في اختلاف الجماعات وتفاوتها، وفي تباين الغايات التي تسعى فيها ووزنها الوسائل التي تتوسل بها الى غاياتها بموازين غير مشتركة. وانتهت المجتمعات الديموقراطية الغربية الى فك الحق من السياسة، بما هي مضمار السلطان المقيد والشرعي، ومن الاجتماعي - التاريخي وخصوصه، على ما يقول كاستور ياديس، ومنقوله، وأنجز هذا الفكر في سياق تاريخ يبدو اليوم وفي ضوء فصوله الأخيرة، عوداً على بدء الديموقراطية واستكمالاً لما افترضته على نفسها وأوجبته إبان نشأتها. واستهلت هذه النشأة، على ما هو متعارف بين كثرة المؤرخين، حركةُ الخروج من غلبة المسيحية على المجتمعات الأوروبية. فكان "تبلور" الدول الأوروبية، أو تقطع الأمة المسيحية، الكاثوليكية الرومانية و"الكونية" دولاً وطنية وقومية وسلالية ملكية أو امبراطورية، آية "انفكاك السماء والأرض" الواحدة من الأخرى، وذلك عن يد الإصلاح اللوثري والبروتستانتي، ابتداء وأولاً. وأرست الدول الجديدة، والمستقلة بسيادتها، قيامها بنفسها على أركان حقوقية وقانونية لا تدين بعللها وبموجباتها الأولى إلا لأصول داخلية أو إنسية انسانية وبشرية. فأصول الجسم السياسي الجديد إنسية وزمنية دنيوية خالصة. وهي صناعية تصدر عن الإرادة، وليس عن العقل ولا عن الطبيعة أو الفطرة. وهذه الإرادة هي، حقيقةً أو على ما يتصورها النظر السياسي، إرادات كثيرة ومتساوية يناجز بعضها بعضاً العداء، وتستوي في استقوائها بحق يسوغ لها جميعاً الدفاع عن نفسها ودون هذه النفس ومتعلقاتها. وإنساد الجسم السياسي إلى إرادات كثيرة أولى، متناجزة ثم متعاقدة، بدّد الأصل الأول والواحد، من وجه، وصرف الكنيسة، أي الهيئة الدينية ومعتقدها وجسمها الاجتماعي والمرئي، عن تعهد هذا الأصل وتوليه، من وجه آخر. وتوج الحق التعاقدي والذاتي الشخصي حملَ "الأصل" السياسي، وهو أصل نظري وبحسب المعقولات وليس حقيقياً، على الأفراد بما هم إرادات وطويات وضمائر وأفهام، وبما هم وحدات "حيوانية" ورغبات وأهواء ومصالح. ونصب الحق التعاقدي والذاتي الأفراد معياراً أوحد للتسويغ والتأصيل والتحقيق، في مضامير التشريع والاجتماع والفعل والتأويل. وأدخلت "الأنوار"، من باب إيجاب تقدم البشرية و"تربيتها" - أي ارتقائها مراتب التحرر من سلطان التقليد ومن حمل التظاهرات الطبيعية والانسية على أسباب خفية من المستحيل العلم بها والتحكم فيها - أدخلت أصل التاريخية، وأرست عليه تعليل حوادث الاجتماع المجتمعات على مختلف وجوهه. فذهب جيانباتيستافيكو، الإيطالي، في الربع الأول من القرن الثامن عشر، الى أن فهم الحوادث الإنسية أيسر من فهم حوادث الطبيعة وأحوالها. والسبب في هذا، على زعم صاحب "العلم الجديد"، إنما هو مباشرة البشر صنع حوادث التاريخ، وسعيهم في مقاصد يضمنونها أفعالهم" وصاحب الفعل، ولو جماعة متفرقة المقاصد والأهواء، أدرى بفعله منه بما لم يباشره ولا يدَ له فيه. وما أنشأه الإيطالي "علماً" باشرته الثورة الفرنسية، في أواخر القرن نفسه، عملاً على مسرح القارة الأوروبية وعلى مقاسها. فاختبرت "الثورة"، أي أصحابها ، إنشاء عالم تاريخي، بمواده ومعانيه وشرائعه وعلاقات ناسه، بأيدي أصحاب الثورة، وعن أيديهم. فكان هذا العالم التاريخي من صنع الإرادات والأفهام التي أرادته على شاكلة تصورتها، وسعت فيها. وبرز "المجتمع"، على صورة جماع الأفراد الذين تصدوا للصناعة الجديدة، وفي سياقة الظروف التي تصدوا فيها، برز صاحبَ العالم التاريخي، وفاعله، وإليه مرد حوادثه العظيمة. فاستوى المجتمع، أو الاجتماعي، مصدراً للتاريخ وثمرته الأولى والجامعة. فهو يصنع التاريخ، على قول كارل ماركس غداة نصف قرن على الثورة الفرنسية، ولكنه، أي المجتمع، صناعة تاريخية برمته ومن أدناه الى أقصاه. فاجتمعت الهيئة السياسية الغربية - أو ما هو مشترك فيها بين أجسام سياسية كثيرة أي مزاج الديموقراطية والليبرالية - على مقادير وصور متفاوتة ومختلفة - اجتمعت من الدولة - الأمة، بما هي "مناط السلطان الديموقراطي الذاتي" على قول م. غوشيه كذلك، ومن المجتمع المدني مصدراً لقوة الأفراد على التجدد والفعل والتداول على قول ي. هابرماز. وتستر الكفاح في سبيل العلمنة، وتصدرُ المسألة الاجتماعية العمالية المنازعات الاجتماعية، طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، تستراً على الركن الفردي للسياسة الغربية، وصورا السياسة في صورة اجتماعية و"إنسانية" خلاصية، أي مناطها الإنسانية كلاً وجميعاً. ولكن انتصار العلمنة انتصاراً ناجزاً، من وجه أول، وغلبة دولة الرعاية والضمانات على النظم الاجتماعية، من وجه ثان، أضعفا على نحو ظاهر وملموس الكيانات أو المعاني التي تتعدى الأفراد، وتتعالى عنهم، وتمثل على روابطهم في أعيان وأجسام، أياً كانت غاية التعدي والتعالي: الأمة أو الدولة، الطبقة أو الآتي المشترك. والحق أن أطوار الاقتراع والتجنيد الخدمة العسكرية والتعليم والإعلام والضمان الاجتماعي والاستهلاك، غداة الحرب الثانية وربما قبلها على زعم نوربرت إلياس صاحب "مجتمع الأفراد"، أرست الفرد الغربي على ركنين متلازمين: ركن الانفصال والانعزال، وركن الاندماج في المجاميع الكبيرة والأجسام الاجتماعية والبيروقراطية. فأفضت هذه الأطوار الى تآكل مهابة الكيانات "الشريفة" والعظيمة، وإلى ضعف "سلاطتها"، على قول بعض الفقهاء. فالآتي، كان العمل لأجله، وتوقعه خيراً من الحاضر يسوغان التضحية في سبيله" وكان سدى الرابطة بالأمة دَيْنها على الأجداد والآباء والأولاد الى آخر الذراري، ولحمة العلاقة بالدولة موجبات المواطنة" واقتضى التضامن مع الطبقة الوفاء لنضالاتها وللمؤاخاة التي صبغت بصبغتها خوض النضالات هذه. وهذه المعاني كلها، التضحية والدَيْن والواجب والوفاء، معان ٍ جمعية أو جميعية، وتتشارك في اعتقادها اتصاف الأجسام الجمعية والسياسية، مثل الدولة والأمة والطبقة والأجيال، بصفة تتعالى عن الأفراد، وتربط بينهم برابطة لا يملكون، باختيارهم فكاكاً منها إلا إذا ارتضوا، جزاء خروجهم عليها، اقتصاص الوجدان الجمعي منهم. وخلخل انفتاح الهياكل الاقتصادية، المالية والمصرفية والإنتاجية، وانفتاح الاتصالات على العالم المتشابك والواحد علامات التعارف بين الجماعات وجعلت العولمة من مقومات الهويات المختلفة، المهنية والوطنية والثقافية، معوقات دون التواصل وتعظيم العائل أو المردودية، على ما يرطن أهل الحرفة. فلم يتردَّ مفهوما الدولة والأمة، أي الدولة - الأمة، وحسب، بل تردى تصديق المفهومات التي رعت تماسك المقالات التاريخية والسياسية السائرة، مثل مفهوم التراث التراث الليبرالي أو البرلماني...، ومفهوم التقدم، ومفهوم الثورة - وهذا اختصر دواعي الإقبال الأوروبي على السياسة ومباشرتها منذ الثورة الفرنسية، على ما لاحظ فرنسوا فوريه في تأريخه للحرب "الثورية"، اليسارية الشيوعية واليمينية الفاشية، بين الحربين العالميتين. وتصدت حقوق الإنسان، أو تصدى اختصارها في فكرة ومعيار خلقي ومرشد عمل لملء الفراغ الفاغر الذي خلفه أفول أقانيم السياسة والاختبار الاجتماعي التاريخي. فأحلت محل السعي في التحكيم السديد بين الجماعات المتنازعة، والمتباينة المصالح والأهواء - وهذا التحكيم مناط السياسة - السعيَ في تعويض الأفراد ما ينزل بهم من ظلم وحيف. وعلى هذا، اختصرت الديموقراطية في الإقرار بالتعويض، وقبول التماساته من غير تشكيك ولا ارتياب. وأقرت على هذا الركن والأساس. ولكن أنكرت عليها، نظير إقرارها، قدرتها على أداء الحقوق المستحقة عليها، وعندها، بواسطة المؤسسات والهيئات والأدوات النيابية والإعلامية والقضائية والبيروقراطية والاقتصادية... التي تتوسل بها الديموقراطيات الى أداء هذه الحقوق. فاجتمع من غير تدافع، أو "تناقض" مدرك وظاهر، الإقرار العام، والصدوع التام بالأركان الى الإنكار والرفض، النقديين والغالبين، للأداء والعمل الفعليين والمتحققين. وشهدت الرأسمالية ومجتمعاتها المتقدمة والمتأخرة على حد يكاد يكون واحداً، نقداً لا هوادة فيه ولا تمييز. فهي الصورة الماثلة للبربرية، وهي تحقيق ذروة الاستلاب، والرأسمالية المعولمة جحيم من غير أفق ولا غد، وهي خلاصة الاستبداد وزبدته، وقياساً عليها كانت الرأسمالية المالية أو "الامبريالية" نعيماً أو كالنعيم: كانت الأمم أمماً، والدول دولاً، والسلع أعياناً تلمس وتستهلك وتشيخ، وكانت الطبقات معروفة الحدود، والانتخابات تدور على موازين قوى، الخ. ولكن هذا النقد الذي يتولاه خليط من الأساطين والمناضلين ينتهي في آخر مطافه الى مقترحات مثل ضريبة الاثنين في المئة على عمليات تحويل الأجانب الأموال بالعملة المحلية الى عملة دولية المعروفة بضريبة توبين، نسبة الى دارس الاقتصاد الاسترالي الذي اقترحها في 1972 تقييداً للمضاربة على العمليات المالية المحلية، وتحويل عائدها الى صندوق يصرف الى مساعدة الدول الفقيرة. ومهما كان الرأي في جدوى الاجراء، وهو جزئي وبعيد من ضبط المضاربات النقدية والمالية، فلا شك في ان تواضعه قرينة على الفرق الكبير بين مقدمات النقد البنيوي وخطابته المتطرفة والغالية وبين تمخض هذه المقدمات عن تفاصيل واجراءات ضئيلة الأثر، ولا متعلق لها إلا بالفروع والهوامش. ويتآلف النقد المتطرف والمقترح الاصلاحي المتواضع من غير تدافع ولا نفرة. وتستعيد المجتمعات التي لم تنته الى نصب حقوق الانسان سياسة وعقيدة بعض التظاهرات الاجتماعية الملابِسة إرساء السياسة على حقوق الانسان. فالمكانة التي يتولاها الإعلام من طريق الصورة المتلفزة واستدراجها وافتعالها، والتوسل بالاعلام الى مطاليب واجراءات سياسية وعسكرية مسوغها الأول الصورة المتلفزة واقترانها بانتهاك حقوق الانسان، ينجم عنهما عن مكانة الإعلام والتوسل به حمل السياسة على التسويق، وعلي العرض والطلب الاعلاميين. ويستعاض عن الفعل السياسي الدؤوب والمتماسك ب"الفلاشات" الخاطفة، وينقلب التأييد الى مزاودات حاتمية نسبة الى حاتم طيء نفسه، ويقتصر التكتل على انفعال جامح عمره من عمر الورود فلا يدعى الضحايا الى غير زيادة المشاهدين مشاهد الخراب والقتل. أما المحور الذي دار عليه انقلاب السياسة الغربية، الأوروبية أولاً، من موازنة الديموقراطية والليبرالية الى غلبة الليبرالية فيقتصر، في مجتمعاتنا، على شظايا كلمات وأفكار من غير لحمة. وعلى حين تغرق هذه المجتمعات في لجة تاريخها المدمرة، وترى خلاصها في تكراره واستعادته، تنيط سياستها المباشرة بتصدير صور "حقوقها" المتلفزة الى رأي عام دولي يستهلك الصور، ويؤولها على مثال بعيد من المثال الذي تبنى عليه خطابة الصور المحلية. ويُخلص من هذا الى تجديد دور التهمة، تهمة الأجنبي، والتنديد به وبخيانته ودعاويه. * كاتب لبناني.