يعرف الجميع الآن أن العقبة الرئيسية أمام التوصل إلى اتفاق سوري - إسرائيلي هي الخلاف على بضعة مئات من الأمتار من الأرض على الضفة الشمالية الشرقية لبحيرة طبريا. والخطر في هذا الخلاف أنه قد يؤدي بالرئيس حافظ الأسد ورئيس وزراء إسرائيل ايهود باراك إلى اضاعة فرصة تاريخية حقيقية لإحلال السلام، وهي فرصة قد لا تعود إلا بعد سنين طويلة. الأخطر من ذلك ان انهيار عملية السلام وانسحاب إسرائيل الأحادي من لبنان في تموز يوليو المقبل يمكن ان يغرقا المنطقة في دوامة جديدة من العنف، وربما حتى الحرب. الرهانات إذن عالية، والمفارقة ان القائدين مخلصين في الرغبة في الاتفاق، كما أكدا في مناسبات كثيرة، ويفهمان المنافع الكثيرة التي يأتي بها السلام لبلديهما والمنطقة عموماً، وكذلك على صعيد تركتهما الشخصية. لقد قطعا بالفعل مسافة مهمة نحو بعضهما بعضاً، لكن لا تزال تفصلهما تلك المئات القليلة من الأمتار على ساحل البحيرة، أي أنهما قريبان وبعيدان في الوقت نفسه. تؤكد سورية، المدافعة الصلبة عن حقوق العرب، استعدادها لإقامة "علاقات طبيعية سلمية" مع عدوها القديم، فيما تبدو إسرائيل بدورها مستعدة لدفع ثمن السلام. وكان رئيس وزراء إسرائيل السابق اسحق شامير قال قبل نحو عشر سنوات في مؤتمر مدريد الذي اطلق عملية السلام: "ولا بوصة واحدة!"، أي عدم التخلي عن أي جزء من الجولان. أما اليوم فباراك مستعد لإعادة كل الجولان، عدا ذلك الشبر الأخير. إذا أخذنا في الاعتبار أن الفجوة بين الموقفين صغيرة نسبياً، هل يمكن العثور على صيغة "خلاّقة" تلبي المصالح الجوهرية للطرفين، وتسمح بالعودة إلى محادثات السلام؟ الأفكار الواردة أدناه قد تعطي خطوطاً عامة لحل وسط. والأمل أنها ستثير التعليقات وتحفز النقاش وتقود إلى خطوات ايجابية من الجانبين. لم يقدم رعاة السلام الأميركيون حتى الآن صيغة مرضية للطرفين، بل انهم، بدل تقديم أفكارهم الخاصة حاولوا، مثلما فعلوا مراراً في الماضي، اقناع الأسد بالقبول بموقف إسرائيل. وكان هذا السبب في فشل قمة جنيف في السادس من الشهر الماضي بين الرئيسين بيل كلينتون وحافظ الأسد. جوهر الصراع سألخص الآن الموقفين المتضاربين حسب فهمي لهما: كانت سورية عشية حرب 1967 موجودة على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا. وكان صيّادوها يصطادون السمك في البحيرة، وكان هناك بعض القرى الصغيرة على الشاطئ كلها زالت الآن استمدت مياهها من البحيرة. وحسب المبعوث الأميركي دنيس روس، فإن الأسد قال لكلينتون إنه سبح في البحيرة وقلى وجبة من السمك على الضفة. المطلب السوري الرئيسي هو إعادة الوضع الذي كان سائداً قبل حرب حزيران يونيو 1967. ومن هنا إصرار الأسد على انسحاب إسرائيل إلى الخط السابق للحرب، أي خط 4 حزيران 1967. وعرض على إسرائيل السلام الكامل مقابل الانسحاب الكامل. هذا هو جوهر موقفه. بالمقابل، لا تصر إسرائيل على التفرد بالسيادة والسيطرة على البحيرة فحسب، تقول إنها توفر 40 في المئة من مياه الشرب، بل أيضاً على ساحلها المباشر، ثم عبره إلى مسافة تشمل الطريق الذي يمر حول البحيرة، أي ان إسرائيل، لكي تبعد سورية عن الطرف الشمالي الشرقي من البحيرة، تريد تقديم خط الحدود بضعة مئات من الأمتار إلى الشرق، وهو مطلب ترفضه سورية تماماً بالطبع. وكما شرح الرئيس الأسد دائماً للقادة الأجانب خلال زياراتهم لدمشق، فإن أراضي الجولان ليست جوهرية لسورية على الصعيد الاقتصادي، بل انها رمز مهم من رموز سيادتها واستقلالها، وإذا وافق على تسليم شبر واحد منها، فما المانع من تسليم الكل؟ هكذا نجد، من زاوية القضيتين الحاسمتين، السيادة على الشاطئ ووصول سورية الى البحيرة، بعداً كبيراً بين الموقفين. لكن ما هي الخلفية التاريخية للخلاف؟ الحدود الاستعمارية شكّلت سورية وفلسطين تحت سلطة العثمانيين، أي قبل الحرب العالمية الأولى، منطقة جغرافية واحدة. وكانت فلسطين في النصف الثاني من القرن 19 جزءاً من ولاية الشام، ثم أعاد العثمانيون خلال ثمانينات القرن نفسه ترسيم الولايات، واقتطعوا من ولاية الشام ولاية جديدة لبيروت ألحقوا بها القدس. وكانت هناك حرية كاملة لتنقل البشر والبضائع في كل الوحدات الإدارية التي تكونت منها سورية الجغرافية. وكما يعلم الجميع، فإن نهاية الحرب العالمية الأولى شهدت تدمير الامبراطورية العثمانية وتمزيق سورية الجغرافية واخضاع مناطقها للاحتلال من قبل القوى العظمى المنتصرة في الحرب. وفي صيغة استعمارية مموهة اعطت عصبة الامملبريطانيا الانتداب على فلسطين، ولفرنسا الانتداب على سورية ولبنان. بعدها دخلت القوتان اللتان كانتا تنظران الواحدة منهما الى الخطط الامبريالية للاخرى بارتياب، في مفاوضات طويلة لرسم الحدود الدولية بين سورية وفلسطين. كان "اتفاق سايكس - بيكو" المبرم اثناء الحرب في 1916 الذي قسّم المنطقة للمرة الاولى الى مجالي نفوذ بريطاني وفرنسي، وضع ثلثي بحيرة طبريا في القطاع الفرنسي أي في سورية. وعدل ذلك في معاهدة انكلو - فرنسية اُبرمت في 1920 وضع بموجبها ثلثا البحيرة في القطاع البريطاني، أي في فلسطين. لكن بريطانيا تعرضت بسبب "اعلان بلفور" - الذي وعدت فيه اثناء الحرب بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين - لضغوط صهيونية مكثفة كي تعدّل الحدود مرة اخرى لمصلحة فلسطين. كان الصهاينة يريدون، وهم يخططون لاقامة دولتهم في المستقبل، ان يدخلوا في فلسطين كل المستوطنات اليهودية، وقبل كل شيء كانوا يريدون ان يسيطروا على الموارد المائية للمنطقة. وبعد مزيد من المفاوضات الانكلو - فرنسية تم التوصل الى حدود 1923 الدولية. وبموجب هذا الاتفاق مُدّت حدود فلسطين لتشمل كلا ضفتي أعالي نهر الاردن اضافة الى الشواطئ الشرقية لبحيرة الحولة وبحيرة طبريا. وفي الزاوية الشمالية الشرقية من بحيرة طبريا، رُسمت الحدود على مسافة عشرة امتار فقط عن خط الماء. ولكن تبيّن ان هذا الترتيب لم يكن عملياً. كانت هناك سبع قرى سورية على مقربة من البحيرة وتعتمد عليها. ولم يكن بالامكان ان تعزل عن البحيرة بحاجز على مسافة عشرة امتار من الماء. وهكذا، ابرمت بريطانيا وفرنسا في 1926 "اتفاق حسن جوار" اعطى القرى السورية منفذاً الى البحيرة. وفي الواقع، احتفظت سورية بمنفذ الى الزاوية الشمالية الشرقية حتى احتلال اسرائيل للجولان في 1967. من نافلة القول ان سورية لا تقبل في الوقت الحاضر بحدود 1923 الدولية "التي رسمتها الامبريالية على الخريطة العربية". فهي، حسب وجهة النظر السورية، فرضتها على المنطقة قوى اجنبية، وهو ما جرى فعلاً. ولم تكن لسورية المستقلة يد في ذلك. والحدود الوحيدة المقبولة بالنسبة الى سورية هي خط الرابع من حزيران يونيو 1967، أي الخط الذي كانت سورية تحتفظ به وتدافع عنه عشية حرب حزيران. يمكن اذاً تلخيص الموقفين في الوقت الحاضر كالآتي: اسرائيل ترفض تقاسم مياه بحيرة طبريا مع أيٍ كان. وهي تطالب بأن يكون استخدام المياه من البحيرة مقصوراً عليها. لذا تريد إضافة الى السيادة على البحيرة، ان تسيطر على خط الشاطئ لمنع السوريين من الوصول الى مياهها. كما تريد اسرائيل أن توفر أمن المياه عبر ضمانات بألا تلوث سورية مياه البحيرة وألا تتدخل في تدفق المياه اليها من مرتفعات الجولان. وحسب علمي فإن سورية لا تعارض سيادة اسرائيل على البحيرة. وليس لديها أي خطط لضخ الماء منها او تلويث مياهها او تحويل مجرى جداول تتدفق من الجولان. لكنها تطالب فعلاً بالسيادة على خط الشاطئ الشمالي الشرقي وتريد ان تستعيد المنفذ الى البحيرة الذي كانت تتمتع به حتى 1967. اما في ما يتعلق بالجداول التي تصب في البحيرة من الجولان، فإن وجهة النظر السورية تتمثل في ان توزيع هذه المياه يجب ان يتم وفقاً لقواعد القانون الدولي الذي يضمن حقوق الدول الواقعة في اتجاه مجرى النهر وأعاليه على السواء، بمعنى آخر، حقوق اسرائيل وسورية على السواء. وأخذاً في الاعتبار فإن سورية تنوي توطين اعداد كبيرة من الناس في الجولان بعد تحريرها، وهي تريد نظاماً مائياً في الجولان يؤمن تقاسماً عادلاً للمياه بينها وبين اسرائيل. كما تجادل بأن أي اتفاق ثنائي على المياه تتوصل اليه مع اسرائيل يجب ان يأخذ في الاعتبار مصالح الاطراف المتشاطئة الاخرى، وعلى وجه التحديد لبنانوالاردن والسلطة الفلسطينية. حل وسط ممكن: منطقة سياحية مشتركة؟ لن يكون مثيراً للاستغراب ان ينشأ، في سياق السلام، تعاون بين وكالات السفر السورية والاسرائيلية لتقديم خدمات فاعلة الى السياح. والارجح ان السياح الاجانب الذين يزورون المنطقة سيرغبون في زيارة بلدان عدة - على سبيل المثال، لبنان وسورية والاردن واسرائيل - في الرحلة ذاتها. سيرغب السياح السوريون في زيارة اسرائيل، فيما يرغب سياح اسرائيليون في ان يزوروا مدناً سورية ويشاهدوا مواقع الآثار الفريدة فيها، إضافة الى السفر براً عبر سورية في طريقهم الى تركيا وأوروبا. ومن المحتمل ان تنشأ شبكة صلات بين شركات سورية واسرائيلية للتعامل مع هذه الحركة السياحية. فما هو الاعتراض في مثل هذه الظروف على جعل الزاوية الشمالية الشرقية من بحيرة طبريا منطقة سياحية مشتركة؟ ستكون المبادئ التي يقوم عليها هذا المشروع المشترك المقترح كالآتي: 1- تملك اسرائيل السيادة الكلية على البحيرة فيما تكون لسورية السيادة الكلية على خط الشاطئ الشمالي الشرقي. 2- تتعهد سورية ألاّ تضخ المياه من البحيرة، او تلوثها، او تحرف مجرى جداول تصب فيها، او تلحق بها ضرراً إيكولوجياً او بيئياً. وتتعهد اسرائيل ان تعطي سورية منفذاً الى البحيرة لصيد السمك والسباحة وانشطة اخرى ذات صلة. 3- يتمتع مواطنو كلا البلدين والسياح الاجانب بحرية الوصول، من دون شكليات بيروقراطية، الى الطريق المحيط بالبحيرة والى المقاهي والمطاعم ومنشآت السباحة على الشاطئ. 4- لا ينشئ أي من البلدين مخافر للشرطة او الجمارك او نقاط تفتيش امنية في المنطقة المجاورة مباشرةً للبحيرة. وفي كل الاحوال، ستكون منطقة الجولان والبحيرة كلها منزوعة السلاح. ولن يكون هناك أي وجود عسكري سوري او اسرائيلي في شريط من الاراضي يبلغ عرضه كيلومترات عدة على جانبي الحدود. 5- تتولى الاممالمتحدة، ربما بشكل شرطة مدنية او ضباط ارتباط من دول اوروبية اعضاء في المنظمة الدولية، المسؤولية عن الامن في المنطقة السياحية المشتركة. وتراقب تنفيذ الاتفاقات المبرمة وتشجع اقامة علاقات سلمية طبيعية. 6- تنشئ سورية واسرائيل لجنة مشتركة للمياه تكون مهمتها الاتفاق على نظام مائي للجولان وادارته على نحو يضمن مصالح الدول الواقعة في أعالي النهر وفي اتجاه مجراه. من الواضح ان نجاح مثل هذه الخطة يتطلب قدراً من المرونة من قبل سورية واسرائيل على السواء. ويحمي هذا الاقتراح، حسب اعتقادي، المصالح الحيوية لكلا الطرفين، لكنه يوفر ايضاً اطاراً لتعاون محدود يمكن، اذا ترسّخ السلام، ان يُوسّع في وقت لاحق ليشمل مجالات اخرى. لذا فإنه رمز أمل للمستقبل بدلاً من المواجهة. وسيساعد على اقناع الرأي العام في سورية واسرائيل على السواء بالنيات السلمية لكل طرف حيال الآخر. وعلى المدى القريب المباشر، اذا جرى تبني الاقتراح بشكل او بآخر - وسيتعيّن بالطبع على محامين دوليين ان يضعوا التفاصيل - فإنه يمكن ان يساعد على الخروج من المأزق الذي يحول الآن دون استئناف المفاوضات بين سورية واسرائيل. إضافة الى ذلك، اذا أمكن تسوية القضايا الصعبة المتعلقة بالحدود والمياه بهذه الطريقة، سيكون حل كل النقاط الاخرى في النزاع - الترتيبات الامنية والانذار المبكر ضد هجوم مفاجئ وتطبيع العلاقات والجدول الزمني لتنفيذ الاتفاق - أسهل. ألا تستحق جائزة السلام مثل هذا الجهد؟