في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم العربي - وعلى الارجح في العالم الاسلامي كله - رفض سليم الحص رئيس وزراء لبنان التوقيع على مرسوم بتنفيذ حكم قضائي باعدام شخصين لأن اقتناعه المبدئي ضد عقوبة الاعدام، وقال: "إن الله وحده يهب الحياة، وهو وحده الذي يستردها". يشكل هذا الموقف اكبر دعم معنوي للمدافعين عن حقوق الانسان في العالم العربي المطالبين بإلغاء عقوبة الاعدام، باعتبارها العقوبة الوحيدة التي لا يمكن التراجع فيها او تصحيح اثارها بعد تنفيذها خصوصاً إذا ما ثبت بعد ذلك براءة المتهم المعاقب بها. لم يخضع الرجل اقتناعه للابتزاز السائد في العالم العربي حول قضايا حقوق الانسان، ومصادر الابتزاز اكثر من ان تحمى بالذات بالنسبة الى دولة مثل لبنان. لم يته الرجل في تلافيف التفسيرات البشرية للنص الديني المقدس، بل انطلق رد الحص من صميم ايمانه الديني، ليغرف منه اجابته التي يصعب تحديها وتتطابق في النهاية مع منطلقات الموقف الداعي الى إلغاء عقوبة الإعدام. ثاني أكبر مصدر للابتزاز، هو حديث "الاولويات" الذي ينطلق من قضية مبدئية سليمة، وهي ان الالتزام بعالمية مبادئ حقوق الانسان، لا يتعارض مع - بل يستوجب - استنباط اولويات خاصة بالتطبيق قد تختلف من مجتمع الى آخر وفقاً للمعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الخاصة بكل مجتمع، لكن نقطة الانطلاق السليمة هذه تقود في بعض الاحيان الى اسقاط مبادئ او حقوق معينة، عبر وضعها مرحلياً في موقع متأخر من سلم الأولويات. من هذه القضايا في عالمنا العربي الحرية الدينية، بعض قضايا حقوق المرأة وعقوبة الاعدام. وبالنسبة الى بلد مثل لبنان، فان الابتزاز بحديث الاولويات يستند الى مصادر دعم استثنائية، فما هي القيمة الاستثنائية لحياة شخصين متهمين بالقتل في بلد يتعرض على مدار نحو 20 عاماً للقتل كل يوم، كبنية هيكلية او كمواطنين افراد او جماعات، على يد قوات الاحتلال الاسرائيلي وسلاحه الجوي والبحري؟ وهل حياة هذين المجرمين وغيرهما ممن سنصدر احكاماً باعدامهم اسمى من حياة شهداء مذبحة قانا وغيرها التي عجز لبنان عن ان يصونها؟ ولماذا ينشغل لبنان الذي يقف وحيداً امام اسرائيل في الجبهة الامامية بالنيابة عن كل الدول العربية يحارب معركتهم، بقضية حياة اثنين من المجرمين؟ إن مصادر ابتزاز لبنان بالاولويات وبحديث الدين والعروبة والصراع العربي - الصهيوني أكبر من ان تُحصى، ومن ان يتحملها بلد مثل لبنان، لكن التاريخ ينبئنا بنقيض ذلك تماماً، لا لسبب الا لأن لبنان يضع دائماً سقفاً اعلى لطموحاته، ولدوره ولا يرضى بأن يخضع طموحاته لمقتضيات المساحة وعدد السكان والانشغالات اليومية مهما كانت قسوتها، بينما تتنازل دول كبرى في المنطقة عن الطموح المشروع وترتضي لنفسها دوراً أدنى كثيراً مما توفره لها معطياتها السكانية والجغرافية والثقافية. لهذا السبب بالذات، آن الاوان للدول العربية ان تعيد تأمل الدروس التي يقدمها لبنان الصغير لهم كل يوم، او تعيد دمجها في منهج واحد عنوانه: كيف استطاع هذا "الارابيسك" الصغير المتعدد الاديان والطوائف الدينية والتيارات السياسية والايديولوجية ان يعيد بناء نفسه من جديد على انقاض حروب اهلية ضروس، في أتون مقاومة يومية من الاحتلال، وتحت السقف الضاغط للخطوط الحمراء السورية، ومن دون ان يجد في ذلك اسباباً لقهر التعددية الدينية والسياسية الفريدة التي يتمتع بها، بل يحافظ على اعلى مستوى نسبي من الحريات في العالم العربي، خصوصاً في الصحافة وتكوين المنظمات الاهلية والاحزاب السياسية ونشاطها، وقدرته على ادارة انتخابات عامة نزيهة، واعتماده مبدأ تداول السلطة، فهو البلد العربي الوحيد الذي لا يمكث فيه ملك او رئيس مدى الحياة او الى انقلاب آخر، وهو أيضاً الوحيد الذي اجبر اسرائيل على اتخاذ قرار بالجلاء من اراضيه من دون توقيع اتفاق. ترى هل هناك علاقة بين المقدمات والنهايات؟ وهو اخيراً ورقة التوت الوحيدة الباقية لهم على طاولة التسوية. وباستثناء عبدالرحمن اليوسفي رئيس وزراء المغرب الحالي، فإن لبنان هو أيضاً البلد العربي الوحيد الذي يقدم لنا رئيس وزراء حقيقياً وليس لعبة تحركها من خلف ستار يد ملك او رئيس جمهورية، فقد رفض التوقيع الى جانب توقيع رئيس الجمهورية على المرسوم الخاص بتنفيذ عقوبة الاعدام، ودافع عن قراره، مؤكداً بذلك ان لبنان ربما كان هو أيضاً الدولة العربية الوحيدة التي لا تفتقر الى مؤسسات حقيقية، الامر الذي ادى الى وقف تنفيذ العقوبة على رغم وجود توقيع رئيس الجمهورية فضلاً عن وزير العدل. غير ان الدروس التي يعطيها لبنان لا تقف عند حد، ففي المقابل انصاع رئيس الجمهورية العماد اميل لحود، ولم يسع مثل غيره من الملوك والرؤساء العرب الى الانقلاب على رئيس وزرائه او اطاحته - بعد تبين عدم دستورية توقيع نائب رئيس الوزراء نيابة عنه - بل اكد احترام مبدأ دولة المؤسسات وسيادة القانون. تتناول الاقلام الصحافية هذا الحدث باعتباره ازمة دستورية، غير ان المغزى الاهم هو انه وضع بقوة مبدأ إلغاء عقوبة الاعدام على جدول الاعمال العربي، خصوصاً ان المخارج الثلاثة المقترحة للخروج من هذه الازمة تمنح قوة دفع اضافية الى هذه القضية، فليس امام لبنان سوى تعديل قانون العقوبات بإلغاء هذه العقوبة، او استقالة سليم الحص لتعارض موقفه مع نص القانون اللبناني، او الحل البراغماتي الموقت بتخفيف العقوبة على هذين المتهمين. وفي كل الحالات تكسب الحركة الداعية الى إلغاء عقوبة الاعدام قوة دفع من حيث لم تحتسب. * مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان