كل القرائن تحمل على العزوف عن تناول الحادثة بالكتابة والتعليق: ففي الثامن عشر من آذار مارس العام ألفين لم ينتخب غير 3،39 في المئة، من نحو خمسة عشر مليون ناخب صيني تايواني - والجزيرة، تايوان، لا تعد إلا اثنين وعشرين مليوناً من السكان ليسوا إلا نقطة ضئيلة في بحر البليون مليار ومئتين وخمسين مليوناً من سكان الصين القارية والبرية، ويقيم هؤلاء في نحو ستة وثلاثين ألف كلم مربع قد تصلح حارة متواضعة في المحيط البري الصيني الذي يغطي تسعة ملايين وستمائة ألف كلم مربع مترامية الأطراف - في اليوم الغُفل هذا انتخبت جماعة قليلة من الناس، في جزيرة ضئيلة تطفو بين بحر الصين الشرقي وبحر الصينالجنوبي وتقع على مدار السرطان، بأقل من أربعين في المئة من سكانها رئيساً يسمى تشين شي - بيان. ويحمل السيد تشين علم حزب هو الحزب التقدمي الديموقراطي. وانتصر على خصمين. وجمع الخصم الخاسر، والذي حل ثانياً، نحو 37 في المئة من أصوات المقترعين. والثاني هذا سياسي انشق عن الحزب الحاكم، الكيومينتانغ، الحزب "القومي" الذي أنشأه الجنرال تشانغ كاي - تشيك، خصم ماوتسي - تونغ الخاسر والمنهزم والملتجئ إلى الجزيرة الصغيرة في 1949. وكانت نذر هزيمة الجنرال، وهو صهر صين يات - صين رائد "نهضة" الصين ووريث "حزبه"، لاحت قبل أربعة أعوام. ولما اضطرت اليابان، وهي من دول المحور، إلى الإقرار بهزيمتها أمام الحلفاء، أي الأميركيين في المرتبة الأولى، في 1945، غداة قنبلتي هيروشيما وناكازاكي الذريتين، أخلت جزيرة تايوان، وهي كانت من ممتلكاتها الاستعمارية منذ 1895، ونقلت السيطرة عليها إلى تشانغ كاي - تشيك. واقتصرت "مملكة" هذا، بعدّ هزيمته وجلائه عن مدن الساحل الشرقي، وفي هذه المدن شانغهاي، على المستعمرة اليابانية السابقة. فركب الجنرال وحزبه وقواته المراكب، واعتصموا بالجزيرة عازمين على العودة إلى بر الصين العظيم و"تحريرها" من الحزب الشيوعي، المولود قبل ربع قرن يومها من الكيومينتانغ، حزب البورجوازية الصينية الوطنية، على ما كان يقال يومها ويقيم على القول بعض أصحاب "إعادة التأسيس" العتيدة. وأوكلت هيئة الأممالمتحدة، أي الدول الغربية الثلاث "العظمى" الدائمة في مجلس الأمن، إلى حكومة الجزيرة النيابة عن الصين، "العظمى" كذلك، عضواً دائماً في المجلس نفسه. ودامت الخرافة هذه الى عام 1972، غداة ست سنوات على إعلان الصين القارية تفجير قنبلتها الذرية الأولى، ورفعها علم التعارف بين كبريات دول الأرض، ودخولها نادي هذه الدول ومذ ذاك والصين القارية، الماوية والشيوعية ثم "الاشتراكية السوقية" نلح إلحاحاً شديداً في الانفراد بتمثيل الدولة الصينية الواحدة. ويترتب على إلحاحها هذا قطع علاقاتها الديبلوماسية، والتجارية مشترياتها ومبيعاتها، مع الدول التي يُشبَّه لها أن الصين الشاسعة والعريضة والكثيرة إنسيّ من خمسة صيني ليست، قوماً وسياسة وسفارة، واحدة موحدة. فاختارت مئة وخمس وخمسون دولة من مئة واثنين وثمانين الامتثال لرغبة الصين الواحدة. وأقامت نحو خمس وعشرين دولة على علاقاتها الرسمية بالجزيرة ودولتها المستقلة. وكان الرئيس الجنوبي الافريقي السابق، نلسون مانديلا، اعتذر عن اختياره الدولة الشيوعية قائماً مقام الصين كلها بمصالح جنوب افريقيا التجارية. وبدا منذ "عودة" هونغ كونغ، المدينة المصرفية والتجارية الساحلية، الى "حضن" الوطن الأم، في 1997، ثم منذ "عودة" ماكاو، المرفأ البورتغالي الصغير، قبل أشهر قليلة، بدا أن تايوان لا محالة "عائدة" بدورها الى "الدولة الواحدة"، ولو أقامت على نظامها "الثاني"، الرأسمالي. وهذا كله ينم نماً أم نميمة؟ قاطعاً بأن انتخابات الرئاسة، وقبلها الإنتخابات البلدية، التايوانية، لا تستحق التعليق. فليس في الأمر ما ينتطح لأجله عنزان، ما خلا أن "العنزين" نوويان. ولكن الباعث على تناول الخبرالتايواني ليس الذيول العسكرية المترتبة على علاقات القوة في بحر الصين، على خطورة المسألة من غير ريب. فجمهورية تايوان السيدة والمستقلة، على ما يسعى الاستقلاليون التايوانيون في تسميتها وتكريسها واستدراج الاعتراف بها، قرينة على حال تجافي ما تقر له الآراء العربية، والمشرقية خصوصاً، بالخطورة وبالحظوة، بل بالجواز والإمكان، وهو نشوء الأمم السياسية، غير القومية الإثنية ولا العصبية ولا التاريخية ولا الثقافية ولا السلطانية أو الأمبراطورية. فتايوان، في مرآة انتخاب مواطنيها رئيساً استقلالياً يخلف اليوم رؤساء "قوميين" رعوا من غير انقطاع فكرة صين واحدة يتولون قيادتها، تايوان هذه قد تكون جملة خسائر وهزائم" وهي لا شك ضعف على ضعف، وضآلة على ضآلة، وخلاف على خلاف، وانقسام على انقسام. فصينيو القارة، وهم كانوا الحكام إلى اليوم، ليسوا إلا 15 في المئة من السكان. وهم حملوا معهم من البر الصيني نازعاً قومياً متشدداً ومستبداً. فلم يقصروا مقاليد الحكم ومنافعه على انفسهم وحسب، بل ظنوا الظنون في الأهالي المحليين. ولم يتورعوا، في شتاء 1947، بعد عامين على توليهم حكم الجزيرة، عن معالجة التململ التايواني بالقتل السافر. فكان مندوبو الأمة الصينية العظيمة والواحدة فاتحين متسلطين وقتلة لا يرعون ذمة. وهم مضوا على تسلطهم واستبدادهم واستئثار حزبهم القومي، "واللينيني" المنشأ والمثال، بالحكم والإدارة إلى وقت قريب. فالماريشال، والقائد الحزبي والرئيس، تشان كاي - تشيك، أقام على سنته إلى حين وفاته، في 1975. وخلفه ابنه "الجمهوري"، على مثال صار مألوفاً ولا يبعث على المسألة. وحكم هذا إلى حين وفاته كذلك، بعد اثني عشر عاماً. ولكنه استخلف على رأس الحزب والدولة، والإثنان واحد على ما ينبغي في السياسات الاستبدادية، رجلاً هو لي تينغ - هْوي. ولي هذا ترك في 24 آذار المنصرم، رئاسة الحزب، بعد خسارة حزبه معركة الرئاسة. وكان أول رئيس تايواني يطلب إلى الناخبين الفصل، بواسطة أوراق الإقتراع، في ترئيسه، في 1996. وكان ألغى قانون الطوارئ، في 1986 ويعود إلى 1947، وأقر بكثرة الأحزاب. و"حيّت" الصين الشيوعية بادرة الرجل بما يليق بها، فقصفت المضيق البحري بالصواريخ من غير ذخيرة متفجرة. وكانت القيادة الشيوعية ساكتة عن توارث الرئاسات من طريق الحزب - الدولة، ومقرة بشرعية توارث لا يحتكم إلى إرادة المواطنين الناخبين. ويتهم لي تينغ - هْوي خصومُه بالسعي في إضعاف الحزب، وارخاء قبضته على الدولة والاقتصاد، وبالسعي في تقسيم ممتلكاته البالغة تسعة بليون دولار وتقديم التايوانيين المحليين على صينيي البر. وفوز رئيس تايواني بالرئاسة، بعد أن كان حزبه فاز في 1994 برئاسة بلدية تايبه العاصمة، ينجز برنامج الرئيس السابق والخاسر. وعلى هذا يتوج انتخاب الرئيس التقدمي الديموقراطي، السيادي والاستقلالي، إرادة استواء الجزيرة "أمة" سياسية مستقلة، على رغم الحذر السياسي الذي يخالط الإرادة هذه والعبارة عنها والحذر ليس شائبة إلا في ميزان أصحاب نشوء الأمم العاصف والملحمي المتوهَّم. وكان التايوانيون ردوا على احتفال البر الصيني بضم هونغ كونغ، وعلى الخطابة القومية والوحدوية، القَدَرية والتاريخية، برهن قربهم من الصين القارية والشيوعية بتحولها إلى الديموقراطية وأخذها بها. فكان اشتراطهم سياسياً ومحدثاً، على الضد من المعيار القومي والدهري الذي تمسكت به الصين القارية، وما زالت متمسكة به. فليس التاريخ الماضي والموغل في القِدَم، مهما بلغ من العظمة والقوة - والتاريخ الصيني من أقدم التواريخ وأعظمها - السند الأوحد لنشوء الأمم نشوءاً شرعياً ومقبولاً. والأمم لا تكف عن النشوء، ولا عن الولادة والانفصال عن أجسام "أمم" سابقة، تاريخية، وهي لا تنفك عن الفعل في يومها وحاضرها، مهما كان حاضرها متواضعاً، ولا عن تعريف نفسها في ضوء الحاضر هذا وفي ضوء حوادثه وأفعاله. والأمة التايوانية اليوم هي ثمرة ثلاثة قرون ونصف القرن من التوطن الصيني في الجزيرة، ونحو نصف القرن من السيطرة اليابانية الاستعمارية" وهي مولودة من نصف قرن آخر وأخير من تاريخ سياسي واجتماعي مزج السيطرة القارية بالحماية الأميركية القريبة والاستبداد السياسي بالليبرالية المقيدة، ثم مزج الحرية السياسية بليبرالية اجتماعية واقتصادية من غير قيد. ولعل الإصلاح الزراعي، الذي أشارت به اللجنة الصينية الأميركية للإعمار الريفي في 1948، هو مفتاح الانعطاف التايواني إلى إرساء السيادة على مجتمع يتمتع بسمات خاصة. فهو أقر المزارعين على مِلك أرضهم واستثمارها وتحسينها، وكان ملك الأرض ركن تراكم تقني، ومصدر عائد مستقل، وأفاد الأمران من مخلفات الاستعمار الياباني. وكان هذا رعى الصحة العامة، وأنشأ سكك حديد، ونشر تعليماً لم يقتصر على نخبة ضيقة، وحمل المزارعين على الانخراط في جمعيات وروابط. وغذت المساعدة الأميركية هذه الهيئات المنتشرة في جسم الجزيرة. انتشار العروق والأوردة. فحققت الجزيرة ما كان صين يات - صين ذهب اليه، في أوائل القرن، عندما أسف لبقاء الصين القارية بمنأى من الاستعمار ومنشآته، وتآكلها و"نضوجها" الهرم والشائخ. وأورث قمع القاريين انتفاضة التايوانيين، في 1947، حركة ديموقراطية سبقت الحركة الاستقلالية والسيادية. وألهمت الحركة الديموقراطية برامج المرشحين إلى الانتخابات البلدية، في أول الأمر. وآذن قطع الولاياتالمتحدة الأميركية علاقاتها الديبلوماسية بالجزيرة، في 1979، والخوف تالياً من ضم الصين فورموزا، بانبعاث حركة استقلالية وسيادية استأنفت الحركة الديموقراطية، وأرست عليها، وعلى قواها، مطاليبها وسياستها. ورفدت الكنيسة البروتستانتية والوطنية المحلية، و"لاهوت الأرض" الذي صاغته وبلورته في الأثناء، النهر الديموقراطي والاستقلالي. والحق أن الجناحين، الديموقراطي والاستقلالي، لم ينفكا عن المنازعة، أو عن تغليب الواحد منهما نازعه وشاغله على الحركة كلها. فكانت المنازعة عاملاً من عوامل جلاء الأمة الجديدة وتكوينها على أسس سياسية كذلك. وما يصنعه التايوانيون، وهم ماضون على صنعه، لا يسوغه إلا حملهم إرادتهم على محمل الجد. فهم، على خلاف بعضنا، لا يستقيلون من فعلهم وصنيعهم، ولا ينسبونه إلى "التاريخ" تارة، والى القرابة تارة ثانية، والقدر تارة ثالثة، وهذا قرينة على الرشد. * كاتب لبناني.