ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    استراتيجية الردع الوقائي    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة موسوعة: مقتطفات من سيرة غير ذاتية غير موضوعية لعبدالوهاب المسيري 1 من 5 . "عشت فترة حرب 1967 في أميركا وشهدت هستيريا الأفراح لهزيمة مصر"
نشر في الحياة يوم 29 - 04 - 2000

بعد أن نُشرت موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد 8 مجلدات انهالت عليَّ أسئلة كثيرة عن سبب هذا الاهتمام الشديد بالموضوعين اليهودي والصهيوني الذي يبديه أستاذ مصري تخصص في دراسة الشعر الرومانتيكي. وحان الوقت أن أتعامل مع هذا الموضوع.
العلاقة
تعود بداية علاقتي باليهود واليهودية إلى طفولتي، فقد وُلدت في دمنهور حين كنا نسمع عن مولد "سيدي أبو حصيرة الولي اليهودي" في قرية مجاورة، وكنا نذهب أحياناً لحضور ذلك المولد الذي كان لا يختلف كثيراً عن أي مولد آخر. ولا أذكر من تفاصيله شيئاً وإن كنت لا أتذكر أية مشاكل قد أثيرت آنذاك، وكان يجلس إلى جواري في القمطر التخته موريس داود مالح، وهو يهودي ومن اسمه أعرف الآن أنه سفاردي ومن اليهود المستعربة ولم يختلف عنا في أي شيء، ويعيش وسطنا ولذا لم تكن هناك لديه أية "مسألة يهودية" أو هكذا كنا نتصور. كما أننا كنا أطفالاً ولم نكن ندرك بعد مسألة إسرائيل والمسألة الصهيونية. أصبح موريس صيدلياً بعد ذلك، وفتح صيدلية في مرسى مطروح. ثم ترك مصر عام 1967، ولا أدري هل ذهب إلى إسرائيل أم إلى فرنسا. وكانت هناك شخصيات يهودية أخرى في حياتنا مثل الخواجة داسا صاحب مصنع نسيج صغير في الممنشية اشتراه والدي، أو الخواجة هامبورغر صاحب مصنع الأسد للنسيج الذي اشتراه والدي أيضاً. وظل كل هؤلاء شخصيات هامشية أو عادية لا تطرح أي إشكاليات فهم اذ لم يكونوا سوى خواجات أو أجانب شأنهم في هذا شأن كثير من يهود مصر لا يختلفون عن غيرهم من الرأسماليين الأجانب المقيمين في مصر، الذين رحلوا عنها بوصول جمال عبدالناصر إلى الحكم وسياسة التمصير الاقتصادية والسياسية التي اتبعها.
والشيء نفسه ينطبق على "مسيو كوهين" أحد المهندسين العاملين في مصنع كابو وكان صديقاً لوالدي وللعائلة، فكان يدعونا لقضاء بعض الوقت في فيلا أنيقة يمتلكها في قرية المعدية بجوار رشيد. وكان ينوي الاشتراك مع والدي في بناء مصنع في دمنهور، ولكنه بعد قيام ثورة 1952 عرف أنه لا مستقبل له في مصر، خصوصاً بعد أن وقعت حادثة التخريب التي أصبحت تُعرف باسم حادثة لافون. وقد بكى الخواجة كوهين طويلاً في تلك الليلة، لأنه كان متأكداً من براءتهم فلم يكن يتصور أن الدولة اليهودية ستلعب بمصائر اليهود بهذه الطريقة.
أثبتت الأحداث بعد ذلك أنهم كانوا أبعد ما يكونون عن البراءة. المهم في الموضوع أن الخواجة كوهين لم يهاجر إلى إسرائيل وإنما إلى أستراليا حيث لا يزال يعيش هناك، حسب آخر ما وصلنا من أخبار عنه! وظلت دموع الخواجة كوهين مجرد علامات استفهام في مخيلتي تبحث عن إجابة.
علاقتي بالصهيونية
يمكن القون بأن علاقتي الحقيقية بالصهيونية بدأت عام 1963 حينما ذهبت إلى جامعة كولومبيا في نيويورك للحصول على الماجستير في الأدب الإنكليزي والمقارن. كانت عندي مجموعة من القناعات الراسخة من بينها أن إسرائيل التي لم يكن من المسموح الإشارة إليها إلا بإضافة كلمة "المزعومة" هي بلد تقطنه عصابات صهيونية يمكن للقوات العربية القضاء عليها في أية لحظة تقرر فيها ذلك. ولهذا، قررت أن أتجاهل الموضوع برمته لأنه إذا كانت المسألة تافهة إلى هذا الحد، فلماذا أشغل بالي بها؟ لِمَ نوقف التاريخ العربي بسبب شيء مزعوم غير حقيقي يمكننا اقتلاعه تماماً والقضاء عليه حينما نقرر ذلك؟ وكانت القضية الفلسطينية تُقدَّم باعتبارها قضية لاجئين طُردوا من ديارهم ولا بد من إنصافهم. ولذلك كان الحل ببساطة هو إعادة بعضهم لديارهم خصوصاً وأن إسرائيل كانت ساعتها تعلن أنها لا تمانع في ذلك وتوطين البعض الآخر في الوطن العربي. ثم يتحالف العمال والفلاحون الفلسطينيون مع العمال والفلاحين الإسرائيليين لمكافحة الاسعغلال الطبقي وللإطاحة بكل النظم المستغلة في المنطقة لا نفرق في هذا بين النظم العربية والنظام الصهيوني ونؤسس مجتمعاً لا مكان فيه للطبقات أو الاستغلال. فاعتراضي على إسرائيل كان اعتراضاً أخلاقياً باعتبار أنها الدولة التي اغتصبت أرض الفلسطينيين وطردتهم من ديارهم لتحل محلهم كتلة بشرية وافدة ولتؤسس جيباً استيطانياً يشكل قاعدة للإمبريالية الغربية.
وهكذا كانت الأوضاع هادئة ومستقرة تماماً على الجبهة الصهيونية، بل على كل الجبهات الأخرى في حياتي، إلى أن شربت الشاي في ظهر يوم ثلثاء في شهر تشرين الاول أكتوبر 1963 في حفلة الشاي الأسبوعية التي كان يعقدها قسم اللغة الإنكليزية لطلبة الدراسات العليا، وكانت تحضرها زوجة أحد الأساتذة، وتقوم بصب الشاي لنا، وذلك في مبنى فيلوسوفي هول philosophy Hall صالة الفلسفة التي كان يجلس أمامها تمثال رودين "المفكر". كنا نحن الطلبة نجلس على المقاعد الوثيرة أو نقف أو نتجول في الحديقة الصغيرة أمام المبنى نتحدث عن كل شيء أو أي شيء أو لا شيء، وكان معظم الطلبة من الأرستقراطيين، فأبواب جامعات مثل كولومبيا لم تكن فتحت أبوابها بعد لأعضاء الأقليات.
وكنت منزوياً في ركن قصي وحيداً لا أتحدث مع أحد فلم أكن بعد قد تملكت ناصية فن البقاء في حفلات الشاي والكوكتيل، وهو فن صعب ودقيق حين جاءتني إحدى الزميلات. ويبدو أنها هي الأخرى مثلي، لم تكن تعرف كيف تسلك في هذا الوسط الأرستقراطي الذي عرفت في ما بعد أنه WASPISH نسبة إلى WASP وهي اختصار لعبارة WHITE ANGLO-SAXON PROTESTANT وايت أنغلو ساكسون بروتستانت، أي أميركي بروتستانتي من أصل أنغلو ساكسوني، أي إنكليزي أو ألماني أو نروجي... إلخ. ومن هؤلاء "الواسب" كان يأتي كل رؤساء الجمهورية الأميركيين كان كنيدي - أول رئيس كاثوليكي - هو الاستثناء الوحيد، ومعظم مالكي الصناعات الثقيلة ومديري الشركات الكبرى، أي أعضاء النخبة الحاكمة والمالكة.
بادرتني هذه الزميلة الحديث وأخبرتني أننا غير قادرين على التحرك ببساطة داخل هذا الوسط، ولذلك لمَ لا نتحدث معاً. فوافقتها على رأيها، ثم بادرتني بالسؤال - كما هي الحال عادةً في مثل هذه المناسبات والمواقف - عن اسمي وجنسيتي. فأخبرتها أنني فلان ابن فلان وأنني مصري. ثم سألتها بدوري عن اسمها وجنسيتها فقالت: ثلما شنكل وأضافت أنها يهودية. فأعدت السؤال عليها، وقلت: لم أسألك عن ديانتك وإنما سألتك عن جنسيتك؟ فأصرت على أن جنسيتها "يهودية". وحيث أنني كنت تعلمت من كتب السياسة أنهم يفصلون الدين عن الدولة في العالم الغربي، أحسست أن ثمة خللاً ما في المصطلح، وثمة قصوراً في الرؤية إما عندي أو عندها. والقضايا الفكرية تصبح دائماً بالنسبة لي قضايا وجودية شخصية. فكان لا بد من العثور على إجابة أو تفسير، ولذلك بدأت أقرأ بشراهة عن الصهيونية واليهودية واليهود والإسرائيليين، وبدأت تظهر لي رؤية مختلفة تماماً عما نعرف. عرفت على سبيل المثال أن إسرائيل المزعومة، وأن الولايات المتحدة بل العالم الغربي بأسره يقف وراءها بشراسة غير عادية، ويعتبروها خير ممثل للحضارة الغربية. وعرفت عن المساعدات التي تصب في الكيان الصهيوني "المزعوم"، وعن برامج التدريب العسكرية والاجتماعية.
الهستيريا الصهيونية
عشت في الولايات المتحدة بين 1963 - 1969، أي عاصرت فترة حرب 1967 ورأيت الهستيريا الاميركية أقول الأميركية لا اليهودية بعد هزيمة مصر في حربها ضد أسرائيل. وأقيمت الأفراح في كل مكان بطريقة تبيِّن مدى واحدية العقل الغربي وضيقه حينما يكون الأمر متعلقاً بأسرائيل. وأذكر أنني كنت أسير بجوار المركز الإسلامي في نيويورك شارع 82 في مانهاتن على ما أتذكر ووقفت أمام أحد المطاعم فوجدت في الفاترينة شيئاً لا يُصدق: بطاقة تحقيق شخصية لأحد الجنود المصريين الذين سقطوا شهداء في الحرب، تحمل صورته، وإلى جوارها ملابسه المضرجة بدمائه هل كان من المفروض أن يراها رواد المطعم فتزداد شهيتهم؟. في تلك الآونة حضرت محاضرة كان يلقيها جنرال في الجيش الاسرائيلي أحد "أبطال" 1967 فوجئ الجنرال بحماس الجمهور الأميركي البالغ بالانتصار الإسرائيلي والتنكيل بالعرب وإراقة دمائهم كما لو كانت المسألة لعبة من لعب الأطفال. فاستشاط غاضباً وقال: "يجب أن تتذكروا أننا نتحدث هنا عن بشر وعن دماء بشرية". فوجم الحاضرون إذ اكتشفوا أنهم كانوا يقومون بشعائر بشعة: وثنية بدائية.
عملت بعض الوقت في مكتب الجامعة العربية في الستينات حينما كنت طالباً، وفي السبعينات حينما أصبحت عضواً في وفد جامعة الدول العربية لهيئة الأمم المتحدة. كان الإعلام الغربي والصهيوني يستند إلى مجموعة من الأساطير التافهة، التي أصبحت قناعات أساسية في العالم الغربي. وكانت الصهيونية آنذاك تطرح نفسها على أنها حركة إنسانية لا تهدف إلى الاستيلاء على فلسطين لا سمح الله وإنما أرادت أن توجد وطناً لليهود يلجأون إليه عند الحاجة، وفي الوقت نفسه أن تأخذ بيد العرب. وكان الصهاينة يدَّعون أن المستوطنين لم يغتصبوا الأرض الفلسطينية، وإنما اشتروها بحر مالهم، وأن الفلسطينيين هم الذين تركوا أرضهم لا بسبب الإرهاب الصهيوني، وإنما لأن القادة العرب هم الذين طلبوا منهم ترك أرضهم لحين تطهير فلسطين من اليهود وخنق الوليد الغض الديموقراطي إسرائيل: الدولة الصغيرة التي تعيش مهددة دائماً من جيرانها.
وكان الخط الرسمي للدعاية الصهيونية آنذاك إنكار مسؤولية الصهاينة عن المذابح التي ارتكبت ضد العرب، ولذلك كانوا يؤكدون أن مذبحة دير ياسين هي الاستثناء وأن الهاغاناه "المعتدلة" استنكرت بكل قوة هذه العملية التي قام بها أعضاء الإرغون "المتطرفون"، وكان تيودور هرتزل - مؤسس الحركة الصهيونية - يوصف بأنه كان كاتباً ليبرالياً يحاول ألا يؤذي أحداً وأن حديثه عن طرد العرب ينتمي للأيام الأولى الرومانسية من حياته قبل أن ينضج فلسفياً.
كنت أعرف زيف هذه الادعاءات لا من الكتب وحسب وإنما من تجربتي الخاصة. كنت أعرف أن الفلاح لا يبيع أرضه ولا يتركها إلا تحت ظروف غير إنسانية. وكنت أعرف كذلك عن الخطاب الذي أرسله عالم الاجتماع اليهودي النمسوي لودفيغ غومبلوفيتش LUDWIG GUMPLOWICZ إلى هرتزل يتهمه فيه بالسذاجة لتصوره أنه سيؤسس دولته الصهيونية من دون اللجوء للعنف والغدر. وحين كنت في الولايات المتحدة قابلت فلسطينياً من ضحايا دير ياسين. كانت المرارة تأكله وهو يقص عليّ ما حدث له حينما كان طفلاً، وكيف أُرغم على الفرار مع أمه، وكيف كانت طلقات الرصاص الصهيونية تصيب أقدامهم حتى يفروا بعيداً عن ديارهم ليتركوها للمستوطنين الإحلاليين الصهاينة، وكانت الأكاذيب الصهيونية التي يرددها الإعلام الغربي تزيد من ألمه ومرارته.
عدت إلى مصر أحمل في عقلي هذا الإدراك لوثنية الصهونية وبدائيتها وأحاديتها الهستيرية وانتمائها إلى التقاليد الحضارية الغربية.
ولكن إلى جانب الهستيريا والوثنية سنحت ليّ أيضاً فرصة أن أعرف الوحش الصهيوني الكاسر من الداخل ومن هناك على عكس معظم المفكرين العرب الذين خبروا الصهيونية من الخارج وهنا على أرض المعركة، أي من خلال الصراع العربي - الإسرائيلي وحسب، من ثم كانت بداية معرفتي بالصهيونية مختلفة إلى حدٍّ ما عن تجربة معظم المثقفين العرب، ولذلك تشكل النموذج التحليلي الذي طورته للظواهر اليهودية والصهيونية بشكل أعتقد أنه مركَّب إلى حدٍّ كبير، ولا يسقط قي الاختزالية.
عصر النهضة اليهودي
توثقت العلاقة بيني وبين ثلما شنكل زميلتي في جامعة كولومبيا التي أخبرتني أنها يهودية لا أميركية وقدمتني وزوجتي لأسرتهاأبويها واخوتها في حي فورت لي في نيو جرسي. فوجئنا بأن ثلما اليهودية كانت دائمة السخرية من اليهود ومن أبويها بسبب عاداتهما اليهودية ولكنتهما اليديشية، بل كانت تسخر من أثاث منزلها وتراه في غاية السوقية لا يختلف كثيراً عن أثاث منازل الطبقة المتوسطة المصرية حديثة الثراء وكانت تشير له بأنه طراز "رنيسانس جوزف" أي "عصر النهضة اليهودي". ونشأت علاقة حميمة بيني وبين الأم التي كانت تعيش في إحدى المدن البولندية الصغيرة قبل هجرتها إلى الولايات المتحدة، ويبدو أنها لم تكن سمعت عن الصراع العربي - الإسرائيلي. لهذا كانت تطلب مني وزوجتي أن نبحث لابنتها عن عريس شاب يهودي طيب يتزوجها فكنا نبتسم ونعدها خيراً. وبينما كان الجيل القديم يبذل قصارى جهده كيما يحافظ على بقايا حضارته السلافية الشرق اوروبية التي كانوا يسمونها "يهودية"، كان الجيل الجديد يحاول قصارى جهده أيضاً أن يتخلص منها بكل ما أوتي من قوة، وفي أسرع وقت ممكن، وفي أول فرصة تسنح له. كانت الأسرة مندمجة تماماً في المجتمع الأميركي، أحلامها أميركية، أثاثها أميركي، لغتها أميركية. وعلى كلٍّ، كان المجتمع الأميركي يجعل عملية الاندماج أمراً سهلاً الى أقصى حد.
ثم أخبرتني ثلما عن تجربتها في إسرائيل، وصارحتني أنها تكن للدولة الصهيونية كرهاً عميقاً. ذهبت مرة إلى هناك للعمل في إحدى الكيبوتسات هي وأختها ساندرا وبعد نصف يوم شعرت بالإعياء والإرهاق، فتساقط المثل الصهيوني تماماً وقررت بدلاً من المساهمة في بناء المستوطنة الصهيونية أن تتحول إلى سائحة تتمتع بالطبيعة والآثار وصحبة شباب الكيبوتس. ثم اكتشفت أن معظم شباب الكيبوتس مولع بها هي وأختها لا بسبب حسنهما وإنما لأنهم يودون مغادرة "أرض الميعاد" الصهيونية في أول فرصة إلى "أرض الميعاد" الأميركية. ثم اعترفت أنها حينما أخبرتني أنها "يهودية" بهذه العدوانية إنما كانت تغطي إحساسها بالذنب بسبب شعورها بالاشمئزاز من صهيون.
أما أختها ساندرا فكانت أكثر وضوحاً فقد اعترفت أنها ذهبت إلى إسرائيل بحثاً عن عريس! نجحت ساندرا في نهاية الأمر في العثور على عريس في نيوجيرسي" كان شاباً طويلاً عريضاً أشقر من الواسب، غير يهودي. بكت أمها يوم الزفاف، ولكنها قبلت بالأمر الواقع وكثيراً ما كانت تريني حفيدها وهي تحمله بشغف شديد. وبعد الزواج، أصبحت ساندرا غير مكترثة تماماً بالدولة الصهيونية، ولكنها كانت تدفع بسخاء لصندوق الجباية اليهودية الذي كان يؤكد لها ولغيرها من اليهود الأميركيين أن النقود تصرف على الولايا واليتامى وعلى المتاحف والفنون لا على المستوصفات والقذائف، وكانت تدفع ما تدفع لأنها توقفت تماماً عن ممارسة أي شعائر دينية يهودية بما في ذلك شعائر الطعام. ولم تَعُد تذهب إلى المعبد اليهودي إلا مرة في كل عام في عيد الغفران، ولذلك فإن المبالغ التي كانت تدفعها هي كل ما تبقى من يهوديتها ويُسمَّى هذا النوع من اليهودية "يهودية دفتر الشيكات". وتُنشئ ساندرا أولادها بطريقة أميركية تعددية، مفرطة في التعددية، فأعضاء الأسرة يحتفلون بالكريسماس مع أسرة زوجها على الجذور الإثنية. وهم لا يعرفون شيئاً عن الشعائر اليهودية، وحينما يعرفونها يجدونها غريبة بل وشاقة ومستحيلة فالإنسان الاستهلاكي الحديث يفضل ما هو سهل وبسيط على ما هو جميل ومركب. وأعضاء أسرة ساندرا لا يمكن وصفهم بأنهم مسيحيون أو يهود. كما نجد أن موقفهم من الدين لا يتسم بالعداء، فهو في جوهره عدم اكتراث، وإن كان هناك اهتمام به فهو اهتمام بشيء مثير غريب، وكأنه رحلة سفاري في كينيا.
التلمود والصليب
أما ثلما فلم يتآكل إيمانها الديني لأنها كانت تجاوزته ورفضته بشكل واع منذ سنوات. ولكنها أخبرتني بشيء طريف وهو أنها لم تقرأ العهد القديم قط، أما التلمود فقد سمعت عنه ولكنها لا تعرف عنه شيئاً، بل لم تر نسخة منه طوال حياتها. وحينما أخبرتها أنه مكتوب بالآرامية وأنه مكون من 17 جزءاً في ترجمته الإنكليزية، ضحكت وقالت - على الطريقة الأميركية البراغماتية - إن من كتبه أضاع وقته وكان بوسعه أن يقضي وقته بطريقة أفضل وأكثر إمتاعاًَ. من الحقائق التي لا يعرفها الكثيرون أن معظم اليهود المعاصرين لا يعرفون شيئاً عن التلمود، وأن مارتن بوبر، أهم فلاسفة اليهود في القرن العشرين، تلقى هدية في عيد ميلاده الستين كانت عبارة عن نسخة من التلمود، وكانت هذه هي أول مرة تقع عيناه عليه. ومع هذا، حينما تقرأ الدراسات العربية، تتصور أن شغل اليهود الشاغل هو قراءة التلمود والتفقه فيه وتنفيذ ما جاء فيه من "تعاليم ومؤامرات".
وثلما واختها يذكرانني بفتاة يهودية أخرى أخبرتني أن درجة الاندماج في منزلها كانت عالية الى درجة أنها لم تعرف أنها يهودية إلا في سن الثانية عشرة حين مات عصفورها وقررت دفنه فصنعت له تابوتاً صغيراً من الخشب ورسمت عليه صليباً. فاضطر أبواها إلى إخبارها أنها يهودية. وعلى رغم أنهما قالا لها ذلك إلا أن وجدانها كان تشكل ولذلك تزوجت من مسيحي. وحينما سألتها عن موقف أسرة زوجها منها، ابتسمت وقالت: "كانوا يتصورون أن شجرة الكريسماس وبعض العادات الأميركية المسيحية الأخرى قد تسبب لي بعض الضيق، ولكنهم فوجئوا بأن أسرتي كانت هي الأخرى تضع شجرة كريسماس"!
ثم تعرفت على طالب عراقي يهودي كريم ناداف. وحينما سألته عن جنسيته، قال بعدوانية شديدة وعصبية واضحة أنه "اسرائيلي". ومع هذا توطدت العلاقة بيننا لأننا كنا ندرس المقرر نفسه. ولأنه كان يتحدث العربية مثلي. واعترف بعد أن توطدت عرى الصداقة بيننا أنه هاجر إلى إسرائيل من العراق مضطراً، وأنه لم يمكث فيها سوى عامين هاجر بعدهما منها إلى الولايات المتحدة، فحياته في صهيون كانت لا تطاق، لأنه شَعَر أنه مجرد مادة استيطانية اقتصادية وقتالية. كان كثيراً ما يأتي لمنزلنا فتطهو له زوجتي الأكل العربي الذي يعشقه، كما كان يطلب أن يسمع الموسيقى العربية التي يعرفها ويحبها. وفي لحظات الصفاء، كان يعترف لنا أنه لا يجد نفسه إلا في منزلنا. كم كان يسعده أن يحمل ابنتنا نور. وذات يوم، اعترف لي بأن معظم اليهود الشرقيين يشعرون أنهم غُرر بهم وبأنهم يحسون أن اليهود الإشكناز الغربيين يحتفظون بعلاقاتهم بأقاربهم في العالم الغربي حتى يمكنهم الفرار حينما تسقط الدولة الصهيونية! وكانت هذه هي أول مرة في حياتي اسمع فيها شخصاً يتحدث عن سقوط الدولة الصهيونية باعتباره أمراً مطروحاً ومتتالية تستحق النقاش. كان عليّ أن أنتظر حوالى عشرة أعوام أخرى لأسمع عن نهاية إسرائيل من مصدر آخر، وذلك عندما حضر الجنرال بوفر قائد القوات الفرنسية التي حاولت غزو مصر عام 1955، ليحاضرنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام عن الدروس المستفادة من حرب 1973. وحكى لنا القصة الآتية: بعد حرب 1967 بعدة أيام ذهب بوفر ليقابل رابين وكانت القوات الإسرائيلية لا تزال في طريق العودة إلى قواعدها. وكان الجنرال الفرنسي مع الجنرال الإسرائيلي يحلقان بالطائرة. فانتهز بوفر الفرصة وهنأ رابين على انتصاره ولكن رابين فاجأه بقوله: "ولكن ماذا سيبقى من كل هذا؟" وفي الولايات المتحدة أيضاً، في عام 1965، كنا نعقد مؤتمر الطلبة العربي في كمبردج، ماساشوستس. وفوجئنا يوماً بوصول طالب إسرائيلي وزوجته فكانا من جيل الصابرا، أي من من مواليد فلسطين المحتلة وطلب أن يقابل أحد المسؤولين عن المؤتمر. ولأن اسمي بدأ يرتبط بالدراسات الصهيونية، طلبت المنظمة مني أن أتحدث معه بشكل غير رسمي باعتبار أن اللقاء مع الإسرائيليين والحوار معهم أمر مرفوض.
وبعد أن بدأت الحديث معه بدقائق كدت أُصعق تماماً إذ ظهر أن ناثان وهذا هو اسمه عضو في جماعة "الماتزبن" وهي جماعة تروتسكية معادية للصهيونية تطالب بفك الدولة الصهيونية وإنشاء دولة اشتراكية - علمانية تضم كل المواطنين.
غداً: الصهيونية وأنواعها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.