لا يختلف ناقدان في أن أحمد شوقي شاعر كبير وإذا شئت أن أضرب مثلاً ضربته بمالئ الدنيا وشاغل الناس أبي الطيب المتنبي لترى أن من المألوف أن تكون له خوالد مثل المقصورة، و"عيد بأية حال"، و"صحب الناسُ قبلنا ذا الزمانا" وعشرات سواها، وأن يكون له بعد ذلك أشياء أخرى لا ترتفع فنياً. وما يقال عن المتنبي يمكن أن يقال عن بشّار، وأبي نواس، والجواهري، والسيّاب، وعشرات سواهم. ومردّ هذا التفاوت في رأيي هو تقدير الشاعر تقديراً غير سليم في أن تجربته في ما يريد أن يقول قد نضجت، وحانت صياغتها، فما هو إلاّ أن تصاغ فيكتشف النقّاد أنّ الشاعر، وبعد فوات الأوان، استعجل قطف ثمار التجربة فجاءت فجّة، أو أنه تأخّر عن قطفها كثيراً فجاءت قصيدتُه باردة. وسبب آخر هو أنّ الشعراء الكبار الذين يحترفون قول الشعر يبلغون مرحلة يظنّون فيها أنهم قد راضوا القول، وبلغوا من المِران والدّربة فيه بحيث يستطعيون أن يقولوا الشعر متى شاؤوا، وفي أيّ موضوع يريدون، فيقعون في ما وقعوا فيه. وأحمد شوقي من هؤلاء، ولكنه يختلف عنهم قليلاً في أنه يحلِّق في سماوات الشعر حتى لا تكاد تبصره، ويُسِفّ في وديانه حتى لا تكاد تبصره شاعراً أيضاً" فتكاد تراه في هذا شخصيتين في شعره لا شخصية واحدة. يضاف في تفاوت شعر شوقي الى السببين اللذين ذكرتهما في تفاوت مستوى شعر الشعراء الكبار روح التقليد، فكثيراً ما رأينا شوقي يلجأ الى ذاكرته لا الى خياله فيعيد صياغة المعنى الذي حفظه. ولا أريد أن أطيل في سرد ما أخذه شوقي من الشعراء السابقين له" لأن ذلك يكاد يكون ديدن الشعراء العرب الكلاسيكيين جميعاً، وإنّما أريد أن أقف عند شوقي حين يتأثر خطى المتنبي. وإذ انطبع المتنبي في أذهان العرب شاعراً حكيماً لا تكاد تمر به تجربة حيوية إلا استخرج منها قانوناً عاماً من قوانين الحياة، انطبع على الصورة نفسها في ذهن شوقي فقرّر - كما يبدو - أن يقلده، فما الذي حدث؟ الذي حدث هو أنّ ما كان عند المتنبي تجربة تضج بالحياة، والحرارة فتُجمَل في بيت واحد له سياقه العضوي في القصيدة استحال عند أحمد شوقي الى نظم بارد، وبديهيات عاميّة. فما معنى حكمة شوقي لولا التقليد، ولولا القصور في تجويد هذا التقليد؟ الذي بقي هو مجاراة المتنبي الذي لا يُجارى. ويبلغ شوقي الغاية من الركاكة حين تزين له نفسه أنه يستطيع أن يعارض المتنبي وهو يرثي جدته في قصيدته الخالدة التي مطلعها: ألا لا أُري الأيام مدحاً ولا ذمّا فما بطشُها جهلاً، ولا حلمها عِلما يبلغ شوقي هذه الركاكة حين يرثي أمه فيقول: الى الله أشكو من عوادي النوى سهما أصاب سويداء الفؤاد وما أصمى من الهاتكات القلب أوّل وهلة وما دخلت لحماً، ولا لامست عظما وإذ زيّنت له نفسه ودُربته على قول الشعر أن يعارض المتنبي في رثاء جدّته اضطر الى السطو - في بعض القصيدة - على معانيه سطواً بائساً" فقال: لك الله من مطعونة بقنا النوى شهيدة حرب لم تقارف لها إثما وفي قول شوقي سطو بائس على قول المتنبّي: لك الله من مفجوعة بحبيبها شهيدة شوق غير ملحقها وصما وللقارئ أن يلاحظ الضعف في صياغة شوقي التي زجت أمه في حرب لم يؤلف أن يخضنها النسوة، إذ هنَّ كما قال فيهن جميل بثينة: كُتب القتل والقتال علينا وعلى المحصنات جر الذيول وله أن يلاحظ أيضاً نُبل معنى المتنبي في أن تكون جدته ماتت شهيدة عشق هو ليس مما يكون بين الرجال والنساء من عشق، وانما هو مما يكون بين الأم وولدها، والأب وابنه، والجدّ وسبطه، والجدّة وحفيدها، وهو عشق أسمى كثيراً من عشق غايته رغبة عابرة. وللقارئ أن يلاحظ في هذه القصيدة وفي الديوان من هذه الأشياء أشياء أخرى فيحكم بما يحكم.