تزداد في أوساط الفلسطينيين. في تجمعات اللجوء والشتات، التساؤلات والتكهنات عن مستقبل وجودهم من النواحي السياسية والاجتماعية والقانونية، ومصير قضيتهم التي تعتبر مع قضية اغتصاب الأرض جوهر القضية الفلسطينية. وتتغذى هذه التساؤلات، المشروعة، من المخاوف التي تنتاب اللاجئين جراء الاجحاف الذي لحق بقضيتهم بعد اتفاقات أوسلو، في ظل الفراغ السياسي الذي باتوا يشعرون به إثر تآكل مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، وبعدما صار الكيان الفلسطيني الناشىء الشغل الشاغل لمختلف الأطراف. يضاف الى ذلك ضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني والعربي في هذا الموضوع المصيري بعد أن أزفت استحقاقات المفاوضات على قضايا الحل النهائي. ويسود اعتقاد مشروع لدى اللاجئين الفلسطينيين، في ضوء مختلف المعطيات الراهنة، بأنهم سيدفعون مجدداً ثمن التسوية الهشة التي يجري فرضها في المنطقة، بعدما دفعوا ثمن قيام اسرائيل، التي سلبتهم أرضهم وحرمتهم وطنهم، وبعدما عانوا الأمرين في مخيمات اللجوء. وهم دفعوا من جهدهم وعرقهم ودماء أبنائهم ثمن النهوض الفلسطيني طوال العقود الخمسة الماضية. ومعلوم أنه، ومنذ النكبة 1948، ظل هاجس العودة يشد فلسطينيي اللجوء والشتات الى أرضهم ووطنهم. وتشكلت معظم الفصائل الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية بعد هذا الزلزال الكبير، أي قبيل عدوان حزيران 1967 من أجل تجسيد هدف التحرير الذي تماهى مضمونه مع حق العودة، كما أكد "الميثاق الوطني الفلسطيني". ومكن التفاف الشعب الفلسطيني والدعم العربي والتعاطف الدولي، منظمة التحرير الفلسطينية، من انتزاع شرعية وجودها وشرعية تمثيلها لهذا الشعب. وهو مكنها من ابراز قضيته ووضعها على رأس جدول الأعمال باعتبارها قضية تحرر وطني وحق تقرير للمصير. ولكن تعثر عملية الصراع ضد اسرائيل، على المستوى العربي، في أواسط السبعينات لأسباب لا مجال لذكرها هنا حرم الشعب الفلسطيني من أسباب القوة والإسناد اللازمين له في المواجهة. وأسهمت الشروط السياسية المحيطة بالقضية الفلسطينية الى حد كبير في مراجعة المنظمة لبرنامج التحرير وإقامة "دولة ديموقراطية علمانية" في فلسطين، لصالح تبني البرنامج السياسي المرحلي منذ الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني وأهدافه العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، باعتبارها الأهداف الواقعية الممكنة في هذه الظروف والمعطيات. وحاولت المنظمة، من خلال هذا البرنامج، أن تعوض الخلل في موازين القوى، والتراجع السياسي العربي، بالتماثل مع الشروط العربية والإرادة الدولية في مجال القضية الفلسطينية. وجاء قيام الانتفاضة الفلسطينية أواخر 1987 ليضع الأساس الموضوعي لتقديم هدفي الحرية والاستقلال على هدف العودة. وحقيقة الأمر، فإن تحول الثقل الوطني الفلسطيني من الخارج الى الداخل، متمثلاً بالانتفاضة، قدم، في حينه، قوة الدفع الذاتية المطلوبة للبرنامج المرحلي الفلسطيني، المتضمن إقامة الدولة الفلسطينية. فقد أنشأت الانتفاضة وضعاً من التمييز، على الصعيد النظري، بين مستويين من مستويات القضية الفلسطينية، فبرزت في المستوى الأول عملية دحر الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية، لتوافر الأساس الذاتي والإسناد الموضوعي ممثلاً بالشرعية الدولية والعربية. أما المستوى الثاني فتبرز فيه قضية حق العودة، ومتابعة عملية تقويض المرتكزات الصهيونية للدولة العبرية في المنطقة. فالتمايز النظري الظاهر يعكس في جوهر الأمر ارتباطاً متكاملاً بين جانبي العملية الوطنية الفلسطينية. وبعد ذلك، ونتيجة للمناخات السائدة مع تفكّك الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية، باتت الظروف مهيأة للولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها القطب المهيمن على الصعيد الدولي، لإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة. فجاءت الدعوة لعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط أواخر العام 1991، وغيبت قضية اللاجئين، وحصرت قضية الصراع مع اسرائيل بالتنازع على الأراضي المحتلة عام 1967. وفي تطور بارز، آخر، تم الاتفاق على اعلان المبادئ الفلسطينية - الإسرائيلية أيلول / سبتمبر 1993 يشأن قيام حكم ذاتي انتقالي في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. فجرى الاتفاق بين الطرفين المعنيين الإسرائيلي والفلسطيني على تأجيل التفاوض على قضية اللاجئين، ضمن قضايا أخرى تشمل القدس والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات، بضغط من اسرائيل وبدعم من الولاياتالمتحدة الأميركية. ومع ذلك فشلت اسرائيل في طي هذه المشكلة في المفاوضات الثنائية والمتعددة، على رغم أنها نجحت في تأجيلها وحرفها عن مسارها الحقيقي. ونجح الطرف الفلسطيني في تثبيتها من دون أن ينجح في فرض تصوراته على اسرائيل. وعليه فإن طرح قضية اللاجئين وحق العودة في ظل الظروف الصعبة والمعطيات الراهنة خارج اطار عملية "التحرير" وخارج اطار عملية مصالحة تاريخية طبيعية، وبعد مرور خمسين عاماً على ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، تجبهه تعقيدات هائلة، قانونية وديموغرافية وسياسية. فمن الناحية القانونية، تفتقر العملية التفاوضية الجارية الى أي مرجعية شرعية، ذلك ان المرجعية الوحيدة هي طاولة المفاوضات التي تستند الى موازين القوى المختلة لصالح الطرف الإسرائيلي، والى ارادة الولاياتالمتحدة الأميركية، ومساعي الأطراف الدوليين الآخرين. وثمة قضية قانونية بالغة الأهمية، فحق العودة هو، أيضاً حق فردي من حقوق الإنسان، وليس حقاً جماعياً فحسب كما يقول د. سلمان أبو ستة. وهذا يعني أنه حق لا تملك جهة أو مجموعة حرية التصرف به. الى جانب المسائل القانونية تبرز المسألة الديموغرافية الناجمة عن الطابع الإجلائي - الاحتلالي للاستيطان الإسرائيلي في فلسطين. فقد أجبر على مغادرة فلسطين المغتصبة، عام 1948، ما يقارب المليون فلسطيني، أصبح عددهم الآن يزيد عن الأربعة ملايين نسمة، في مخيمات الضفة والقطاع وسورية ولبنان، وغيرها من البلدان العربية والأجنبية. ومقابل هؤلاء أصبح في فلسطين/اسرائيل نحو أربعة ملايين ونصف المليون يهودي، 60 في المئة منهم من مواليدها، ونحو 20 في المئة منهم لآباء ولدوا فيها. وهذا الواقع من الصعب تجاوزه في اطار أي حل مقترح سواء لتسوية الصراع العربي - الإسرائيلي، أو لتسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين. مع العلم أن نحو 50 في المئة من يهود اسرائيل هم من يهود البلدان العربية، وخصوصاً من المغرب والعراق واليمن. وتبرز التعقيدات السياسية، وهي الأساس في هذا الموضوع. ومن الواضح أن الإطار المطروح لحل هذه القضية يتردد بين مستويين اثنين: إما اعتماد القرار 194، المتضمن "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين إضافة الى القرارات الأخرى ذات الصلة، وهذا مرفوض اسرائيلياً - وإما اعتماد المفاوضات حول هذا الموضوع، بما يعني عدم حل المشكلة حلاً عادلاً متوازناً. والحل الآخر، أي الحل المتداول الذي يقوم على أساس من الواقع الراهن ومعطياته وموازين القوى السائدة في هذه المرحلة، يفاقم من مشكلة اللاجئين من مختلف جوانبها، يُبقي عناصر التوتر وعدم الاستقرار في كل الترتيبات القائمة في عملية التسوية في شكلها الراهن. فطالما أن متطلبات هذه التحولات غير متوافرة، في هذه المرحلة، دولياً وعربياً وحتى اسرائيلياً، فإن من مصلحة الطرف الفلسطيني الإصرار على أن أي حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يستند الى حق العودة والى القرار 194، باعتباره الحل الوسط الممكن، في هذه الظروف والمعطيات، والحذر من أي محاولات لمقايضة هذا الحق بحلول أو مكتسبات في قضايا أخرى. وإذا كان الحل المذكور غير مرغوب أو غير ممكن في الإطارات الحالية، فإن أي حل للقضية الفلسطينية ومنها قضية اللاجئين، يجب أن يمهد لهذا الحل، وان يتقاطع معه مستقبلاً. * كاتب فلسطيني.