في تلك الفترة، كان جوسبان يحلّق في استطلاعات الرأي العام، وكان على يقين تام بأن حقبة ميتران قد ولّت تماما. فجوسبان هو الذي أعاد بناء الحزب الاشتراكي على الركام الذي خلفه ميتران، وهو الذي يترأس الحكومة الفرنسية الآن، وهو الذي يعد نفسه بعناية لتولي الرئاسة سنة 2002. في غضون ذلك، كان كل من الرموز الميترانية المستبعدة من قبل جوسبان قابعاً في زاويته: فوزير الخارجية السابق رولان دوما غارق في دوامة الملاحقات القضائية التي تستهدفه، ورئيس الوزراء السابق لوران فابيوس مكتف برئاسة الجمعية الوطنية التي يتولاها منذ 1997، فيما وزير الثقافة السابق جاك لانغ يمهد، وإنما بصعوبة، لكسب تأييد الاشتراكيين لترشيحه لرئاسة بلدية باريس. الا ان الأمور سرعان ما تدهورت في وجه جوسبان: ففي غضون اسبوعين، وبعد ان كان في موقع احد رؤساء الحكومات الاكثر شعبية في فرنسا، بدأ ينزلق وبدأت شعبيته تتقلّص فيما عمّت البلاد تحركات الاحتجاج المناهضة له. هكذا رأيناه يقدم على خطوة اعتيادية في ظاهرها، تمثلت بتعديله حكومته والتضحية بأربعة وزراء اعتبروا سببا في التحركات المناهضة له، مع اضافة ثمانية وزراء جدد الى الحكومة. لكن مصدر المفاجأة كان اختياره خمسة من هؤلاء الوزراء من بين المقربين من ميتران، ومنهم خصوصاً فابيوس الذي اسند اليه وزارة الاقتصاد والمالية، ولانغ الذي تولى وزارة التربية الوطنية. وبنتيجة هذا الخيار، بدا ان لدى جوسبان شعورا بالخطر لم يجد في محيطه الخاص من يحميه منه، فاضطر الى اعتماد الصفح من الميترانية، والاستعانة بمخزونها من خلال شخصيات على غرار لانغ وفابيوس. وهذا ما حمل البعض على التكهّن بسقوط "الجوسبينية" وبعودة "الميترانية" الى الحياة، فيما اعتبر آخرون ان جوسبان فهم اخيرا ان عليه التخلّي عن تعاليه واعادة احلال الالفة بين مختلف العناصر والمكونات الاشتراكية، حتى لو كانت الكلفة المترتبة على ذلك قبوله بفابيوس الذي وُصف على الفور بأنه الرئيس الثاني للحكومة. وعلى صعيد آخر، فبعد الصدمة التي أصابت جوسبان، صار السؤال المطروح هو ما اذا كان سيواصل بالفعل ما سبق ان أكدّه من سياسة اصلاح القطاع العام، ام انه سيكتفي بتسيير الامور متجنبا تعريض شعبيته للمزيد من التآكل في إنتظار الانتخابات الرئاسية سنة 2002؟ فما من رئيس حكومة فرنسية، يمينيا كان ام يساريا، الا لمس الضرورة الملحّة لمثل هذه الاصلاحات. وما من رئيس حكومة الا اصطدم بجدار المقاومة والرفض الذي يواجهه أي مسعى اصلاحي وتحديثي. فالمساعي المختلفة التي قام بها رؤساء وزراء مختلفون منهم ميشال روكار ثم بيار بيريغوفوا، ولاحقاً ادوار بالادور، وبعده آلان جوبيه، وُضعت في أحسن الاحوال جانباً، او انتهت في اسوئها الى سقوط رئيس الحكومة. ولم يكن من مفر امام جوسبان ان يختبر بدوره هذا الواقع، رغم انه اعتبر ان المكاسب التي أمّنها للفرنسيين على مدى السنتين ونصف السنة من حكم خفض البطالة، والانتعاش الاقتصادي، وخفض عدد ساعات العمل وغير ذلك تشكّل عاملا مساعدا على تقبلهم لاصلاحاته. لكن تبين ان الوئام والانسجام اللذين سادا بينه وبين الرأي العام الفرنسي تحوّلا الى مواجهات مُرّة بمجرّد طرح وزرائه خططهم الاصلاحية. فأساتذة التعليم العام انتفضوا احتجاجا على خطة وزيرهم الهادفة الى تجديد الاساليب المعتمدة في المدارس الخاصة، وموظفو قطاع الضرائب نزلوا الى الشارع احتجاجا على خطة وزير المالية تحديث دوائر لجباية الضريبية، كما هدّد موظفو القطاع العام مسبقا بالتحرك والاحتجاج فور الحديث عن خطة جديدة سيتم طرحها لتعديل نظم التقاعد. ووجد جوسبان نفسه تماما في نفس الموقف الذي عاشه اسلافه من رؤساء الحكومات، والناجم عن الميل المطلق الى الجمود لدى العاملين في القطاع العام، واعتبارهم ان أي مسعى بهدف التحديث والتطوير ينطوي بالضرورة على تهديد لهم. وتغذّي النقابات ذات الوجود الراسخ في فرنسا، هذا الميل، كما تنظّم حركة الرفض التي نجحت منذ سنوات، وحتى الآن، في افشال كل عملية اصلاحية. ومن هذا المنطلق قد لا يكون جوسبان اوفر حظّا ممن سبقه، خصوصا ان طموحه الاصلاحي يتوقف عند حدود طموحه الرئاسي، وامامه تجربة رئيس الوزراء السابق آلان جوبيه الذي دفع ثمن تمسكه بالاصلاح على مدى عامين، فانهارت حكومته وانهارت شعبية حزب "التجمع من اجل الجمهورية" الذي ينتمي اليه.