بدأ الرئيس الاشتراكي الفرنسي فرانسوا هولاند عهده بنموذج عمل إرادة مختلف جداً عن سلفه نيكولا ساركوزي. وظهر ذلك في قيادته الديبلوماسية الفرنسية وإعطاء وزيره الخارجية لوران فابيوس دوراً أساسياً في الكلام وفي الظهور الإعلامي وفي تعيين السفراء. فابيوس كان رئيس حكومة سابقاً للرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران ولم تكن علاقته جيدة بهولاند عندما كان الأخير أمين عام الحزب الاشتراكي، فكان فابيوس ينعت هولاند بصفات غير مشرفة للرئيس الحالي واصفاً إياه بالساذج (fraise des bois). إلا أن هولاند لدى وصوله للرئاسة عينه وأعطاه دوراً كبيراً في قيادة الديبلوماسية. وها هو فابيوس يكشف تارة عن حذر فرنسا من وقوع سلاح الغرب في ايدي المجاهدين المتطرفين في سورية ثم تارة أخرى يتكلم عن رفع الحظر الأوروبي عن إدخال الأسلحة الى سورية او يعلن تأكيد فرنسا العثور على أدلة بأن النظام السوري استخدم غاز السارين في حربه على الشعب السوري. في قضية سورية الساخنة دائماً في الإعلام الفرنسي يحضر فابيوس. وحتى خلال الزيارات التي واكبت «الحياة» فيها هولاند الى لبنان والخليج كان هولاند في الطائرة يراعي وزيره «لوران» ويطلب منه بلطف إعطاء رأيه بقضية خارجية معينة أمام الصحافيين المرافقين له. في فرنسا رئيس الجمهورية هو المسؤول الأول عن السياسيتين الخارجية والدفاعية. وأظهر هولاند ذلك في التدخل العسكري في مالي الذي كان المسؤول الأول عنه. أما في قضية سورية والصعوبات والتعقيدات التي تظهر فشل الغرب في التعامل معها ففابيوس دائماً في الطليعة، وهو يتميز عن باقي أعضاء الحكومة بأناقة الباريسيين الأثرياء، فهو من عائلة ثرية ويهتم بالفن ويهوى تجميع اللوحات الثمينة. ويحيط بفابيوس فريق عمل ناجح: الناطق الرسمي في الخارجية فيليب لاليو (ديبلوماسي عمل سابقاً قنصلاً عاماً لفرنسا في نيويورك) ومدير مكتب لامع هو السفير السابق في لبنان ديني بييتون (من افضل مستشرقي الديبلوماسية الفرنسية سبق ان عمل قنصلاً عاماً في القدس ومستشاراً في سفارة فرنسا في واشنطن وهو متزوج من لبنانية). كما عمل سابقاً في مكتب وزير الخارجية الاشتراكي السابق هوبير فيدرين البارع. والجدير بالذكر ان إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الفرنسية يقودها جان فرانسوا جيرو الذي عمل مستشاراً للرئيس السابق جاك شيراك وسفيراً في كل من دمشق وبغداد مع نائبه المستشرق السفير السابق في عمان (مسقط) مارك باريتي، وهي هيئة ماهرة في فهم قضايا المنطقة. ويعمل الفريق تحت مظلة الأمين العام للخارجية الرجل الثاني في الوزارة الديبلوماسي العريق بيار سلال المعني بالحوار مع دولة الإمارات العربية، إضافة الى كريستيان نخلة العربي الأصل مستشار فابيوس الذي قليلاً ما يستشير. فابيوس كثيراً ما يقرر ويعمل وحده رغم تمتعه بفريق مهم. وقد اعتمد في القضية السورية على سفيره السابق في دمشق ايريك شوفالييه. فابيوس وزير قوي من ناحية نفوذه لدى هولاند الذي لديه مستشار ديبلوماسي مستشرق شاب ايمانييل بون، من خيرة المستشرقين في الخارجية، سبق ان عمل في السعودية ولبنان وسورية، وهو فاعل جداً في الملفات العربية المختلفة من سورية ولبنان والقضية الفلسطينية الى الخليج ودول المغرب، ويتعاون بقرب وثقة مع فريق عمل فابيوس بتوجيهات من رئيسه. وضع خاص لفابيوس وهولاند يعرف الملفات ويفهمها ويدرسها بعمق، ولكنه شديد الحرص على علاقته الجيدة بفابيوس الذي كثيراً ما يعطي الانطباع انه يهتم بشكل عابر بالقضايا وأنه قليل التعمق بالملفات وأنه غير محتاج لنصائح فريق عمله في قراره. كأنه يقوم بدور وزير خارجية كوظيفة لها رونق تناسب كبرياءه، لكن قناعته العميقة انه اجدر بأن يكون رئيساً للجمهورية لولا ظروفه السابقة التي حالت دون ذلك. وكان احد السفراء الفرنسيين الناجحين الراحل دانييل برنار راهن باستمرار ان فابيوس سيصبح يوماً رئيساً للجمهورية لكنه اخطأ. فابيوس شخصية سياسية ذكية لعبت دوراً كبيراً في الحزب الاشتراكي الفرنسي لكن شعبيته في الحزب ليست بالمستوى الذي يبرر نفوذه الكبير لدى الرئيس. ولكن، رغم نفوذه ينقصه عزم من يعمل بطموح الى نجاح اكبر وإلى عمل فيه شراكة اكبر مع فريق عمله. ولا شك في أن ظهوره مع نظيره الأميركي جون كيري او الروسي سيرغي لافروف يعطي زخماً لموقعه في الحكومة الفرنسية لكن نجاحه الأكبر عموماً هو اكثر على الصعيد الإعلامي لأنه ذكي وأنيق ويحسن الكلام ولكن عمله لا يبدو خارقاً. أما هولاند فهو يدرس الملفات الخارجية بعمق ويتابعها بشكل دقيق ويهتم بالرأي العام المحلي والخارجي ويشرك فريق مستشاريه الذي يرأسه الديبلوماسي بول جان اورتيز المختص بشؤون الشرق الأقصى (الصين واليابان). الرئيس ترك لفابيوس مجالاً واسعاً في التحرك والقرار، في حين ان في عهد ساركوزي خلال وزارة برنار كوشنير كانت الرئاسة الفرنسية مهيمنة على السياسة الخارجية، فكانت قيود ديبلوماسية كوشنير يضعها ساركوزي والأمين العام السابق للرئاسة كلود غيان وفريق عمل ساركوزي السفير جان دافيد ليفيت، وكان مجال تحرك كوشنير محدوداً جداً حتى في تسمية مدير مكتبه او سفير له في نيويورك، وساركوزي تخلص من سفير فرنسي عينه كوشنير في نيو يورك وكان دائماً يعاني من تدخل غيان في التعاطي مع فريق النظام السوري. لكن الأمور تغيرت خلال وزارة خارجية ألان جوبيه فكان دوره مهماً لأهمية شخصيته في حزب ساركوزي وبراعته ولكن ذلك لم يستمر اكثر من سنة حتى انتخابات الرئاسة التي أطاحت ساركوزي. يبدو أن الأزمة الاقتصادية في فرنسا والوضع المتدهور في ماليتها وضعا قيوداً كبرى على ديبلوماسيتها ودورها في الملفات الساخنة مثل سورية. فوزيرا خارجية الولاياتالمتحدة وروسيا اجتمعا أخيراً في جنيف من دون دعوة فرنسا أو بريطانيا للمشاركة. وعلى رغم ان مواقف هولاند من الأزمة السورية جيدة فلا يمكنه التحرك وحده من دون الولاياتالمتحدة التي سلمت سورية لروسيا.