مهما قيل عن مبادرات السلام ومحاولات «التجميل» و «الترقيع» لتأمين إخراج ما لاستئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أميركية تنقذ ماء الوجه للرئيس باراك أوباما فإن الواقع يكشف زيف المواقف الإسرائيلية. فمناورات التمييع والتضليل مستمرة لكسب الوقت والمضي في عمليات التهويد وقضم الأراضي العربية المحتلة وإقامة مستعمرات استيطانية جديدة وتوسيع القائمة ولا سيما في القدس الشريف، وأخيراً لا آخراً إصدار قرار ضم الحرم الإبراهيمي الشريف الى قائمة ما يسمى بالتراث اليهودي. وهنا بيت القصيد فالمكتوب يقرأ من عنوانه والموقف الإسرائيلي واضح وصريح ووقح لأنه يعتبر قضية القدس منتهية ومحسومة ويجاهر بقرار الضم الكامل والتهويد العشوائي الإجرامي الذي حوّل أجمل مدينة فلسطينية ومهوى أفئدة العرب والمسلمين الى مدينة موحشة بشعة تخنق أنفاسها مربعات الإسمنت المرعبة وتشوه صورتها المقدسة وطبيعتها الروحانية الرحبة. فإسرائيل عبر العهود المتوالية والحكومات المتعاقبة بين يمين ويسار وليكود وعمل أمعنت في استخدام معاول الهدم وتمادت في مؤامرة التهويد مستخدمة جميع أسلحة «الدمار القاتل» ووسائل الترهيب والترغيب والحصار والتنكيل والمصادرة والتهجير من أجل تحقيق هدف واحد وهو إحكام قبضتها الوحشية على القدس. فمنذ عام 1967، وفور سقوط القدس في التاسع من حزيران (يونيو) عهدت الى وضع خطة متكاملة لتهويدها ونزع الطابع الإسلامي - المسيحي عنها بانتهاك المقدسات وتهجير المسيحيين وسحب أوراق القوة لدى الأكثرية العربية وبناء سلسلة مستعمرات تحيط بزهرة المدائن من كل حدب وصوب، ثم أكملت الخطة الجهنمية بمصادرة الممتلكات والأراضي العربية والبناء عليها داخل المدينة القديمة التي لم يبق منها سوى أحياء صغيرة محاصرة ومهددة في مصيرها وأساساتها. في المقابل وضعت إسرائيل خطة أخرى لتهديد المقدسات المسيحية والإسلامية مع التركيز على المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، بدأت بالسيطرة على حائط البراق الشريف بعد مصادرته وإطلاق اسم «حائط المبكى» عليه لحسم أمره باعتباره معلماً مقدساً لليهود لا مجال للتنازل عنه أو التفاوض على مصيره. أما الخطوة التالية فتختلف في التعرض للمسجد الأقصى المبارك بعمليات الاقتحام المتوالية أو بتهديد أساساته ومحاولة الصلاة في حرمه ثم في الحفريات المتواصلة التي تهدف الى تعريضه لخطر الهدم بزعم البحث عن أساسات ما يسمى بالهيكل. وكانت قمة الاعتداءات قد حدثت في 21 آب (أغسطس) 1969 عندما أقدم الصهاينة على إشعال حريق في المسجد المبارك لجس نبض العرب والمسلمين والعالم، ثم إخماده بعد ثورة الغضب التي اشتعلت وألصقت التهمة بشخص قيل، كالعادة، أنه مختل عقلياً سرعان ما تم الإفراج عنه. في إطار هذه الصورة الواضحة عمدت إسرائيل الى تأكيد رفض أي بحث يتعلق بالقدس بعد إصدار قانون الضم ولجأت للمناورة في المفاوضات السابقة واللاحقة لاتفاقات أوسلو الى التمسك بعدم طرح ما يسمى بقضايا الحل النهائي وفي مقدمها القدس وتركها للمرحلة الأخيرة، فيما هي تواصل عمليات التهويد والاستيطان وتهديد الأقصى والتمهيد لإقامة الهيكل المزعوم مع إثبات واقعة ثابتة ومقلقة لليهود وهي عدم العثور على أي معلم أو أثر تحت المسجد للهيكل أو لأي بناء يهودي قديم. واليوم عندما يعود الحديث عن استئناف المفاوضات أو تجميدها تواصل إسرائيل مناوراتها مع التمسك بموقفها الرافض لإعادة القدس الى أصحابها الشرعيين، وهذا ما عبر عنه بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي عندما حاول بمكره المفضوح أن يلتف على القضية بالقول أنه مستعد للبحث في كل المواضيع بما فيها القدس لكنه لن يقدم تنازلات عما أسماه «مواقف إسرائيل المبدئية». وهذا يعني بالطبع أن الوضع سيبقى على حاله وسيجد الفلسطينيون، والعرب في الإجمال، أنفسهم أمام طريق مسدود في أية مبادرة كما جرى مع الشهيد الرئيس ياسر عرفات عندما وصلت مفاوضات كامب ديفيد برعاية الرئيس الأسبق بيل كلينتون الى نقطة الحسم وبقي موضوع القدس والسيادة على المقدسات، فإذا برئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك يقدم اقتراحات ملغومة من بينها إدارة السلطة الفلسطينية للأقصى واحتفاظ إسرائيل بالسيادة عليه، ثم عمد الى طرح موضوع السيادة فوق الأرض وتحت الأرض، ومصير الأحياء العربية مما دعا عرفات الى الانتفاض ورفض أي صفقة لا تعيد القدس عاصمة لفلسطين المستقلة وقال كلمته الشهيرة: أقطع يدي ولا أوقع على وثيقة تنازل عن القدس الشريف، وجابه الضغوط الأميركية بالإصرار على أن القدس ليست قضية فلسطينية فحسب بل هي قضية عربية - إسلامية لا يملك أحد في الدنيا حق التصرف بها. فكان ما كان ودفع «الختيار» الثمن غالياً بتشديد الحصار عليه ثم تسميمه. ولكن السؤال الذي يدمي القلوب اليوم، إذا كانت القدس قضية عربية - إسلامية فأين العرب والمسلمون منها ولماذا لا ينتفضون دفاعاً عنها وحفاظاً عليها وصوناً لمقدساتهم، وأين لجنة القدس؟ وأين صندوق القدس الإسلامي؟ وهل أعطت القمة العربية الأخيرة في سرت براءة ذمة للعرب عندما توصلت الى قرار تخصيص 500 مليون دولار للقدس؟ كان الملك الراحل الحسن الثاني عاهل المغرب يترأس لجنة القدس ويشرف على الصندوق طوال حياته. صحيح أنها لم تحقق إنجازات كثيرة ولكنها كانت تحمل بذور دعم دائم وتذكير متواصل بالمقدسات وتجمع العرب والمسلمين على موقف موحد بعد القرار التي اتخذته القمة الإسلامية التي عقدت في الرباط بعد حريق المسجد الأقصى. وبعد موت الحسن الثاني تلاشت أخبار اللجنة ولم نعد نسمع بها أو بانعقاد اجتماعاتها السنوية. ويعرف الجميع أن خليفة الحسن الثاني، الملك محمد السادس، قد ركز جهوده على الوضع الداخلي المغربي وحقق إنجازات مشكورة لكنه لا يملك حق التخلي عن تراث والده ولا عن حق مقدس يتعلق بالقدس، ولا يملك سوى خيار مواصلة المسيرة أو تسليم الراية الى زعيم مسلم آخر لكي يترأس اللجنة ويحيي الآمال بتحرير القدس. فقد كان الملك الحسن على رغم واقعيته وجنوحه للسلام متمسكاً بورقتين مهمتين: البعد العربي باستضافة معظم القمم التاريخية وانتقالها من مدينة الى أخرى لتحمل اسمها، والبعد الإسلامي بالدفاع عن القدس والتمسك بتحرير المسجد الأقصى المبارك. ومن منطلق واقعيته قال مرة خلال مقابلة أجريتها معه: أن الحل سهل إذا توافرت النوايا الحسنة فالمشكلة الحقيقية تتركز على مساحة لا تتعدى الميل المربع الواحد الذي يضم المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والمقدسات الأخرى إضافة الى الأحياء العربية والحي الأرمني، فإذا تم التوصل الى حل في شأنها يطلق عليها اسم «القدس الشريف» وتكون عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة ويحل السلام، وأي حل لا يتضمن ذلك يبقى بالتأكيد تأشيرة لحروب مدمرة لا نهاية لها. هذه هي الخلاصة التي تعيد طرح السؤال المصيري، وهو: الى متى يصبر العرب على الضيم ولماذا لا يتحركون جدياً للتركيز على القدس وإفهام العالم كله بحزم وحسم أن أي حل لا يتضمن التحرير ينسف كل جهود السلام ويؤدي الى فشل أي مبادرة؟ حتى الفاتيكان أرسل وفداً من القساوسة الى القدس وعاد لينتقد إسرائيل على انتهاكاتها الدائمة وليعلن بعد زيارة المعالم المسيحية في الأراضي المحتلة «إن العنف وانعدام الأمن ومسار الجدار الإسرائيلي العازل في الضفة الغربية وهدم المنازل والإجراءات الأخرى تقوض فرص السلام وتهدد الوجود المسيحي المتناقص في الأراضي المقدسة». وهذا واضح وجلي، ولكن ماذا يفعل المسلمون؟ وأين العرب؟ إن الخطوة الأولى المطلوبة هي الالتفاف حول شعار مطلوب وملح وهو «القدس أولاً» وإبلاغ العالم بأسره بأن أي حل لا يتضمن استعادة القدس وتحرير المسجد الأقصى المبارك لا مبرر له ولا مجال لتمريره أو نجاحه وأي سلام من دون القدس سيبقى منقوصاً لا جدوى منه حتى ولو استمر الصراع قروناً وهدد الأمن العالمي والمصالح الغربية. «القدس أولاً» شعار للعمل لا للخطابات رداً على الخطة المنهجية الإسرائيلية الدامية لتيئيس العرب والفلسطينيين وإفهامهم أن إسرائيل لن تتراجع عن قرارها ولن توقف الهدم والقضم والتهويد. وعلينا أن نرد على الحملات بأن لا نيأس وبإحياء الآمال بتحرير القدس. ولنا في الناصر صلاح الدين القدوة عندما حررها بعد احتلال دام 200 سنة من الحروب الصليبية. الأمل مقابل اليأس للعودة الى عنوان كتابي عن القدس الشريف: «القدس إيمان وجهاد» فالتحرير لا يكتمل إلا بجمعهما في عمل موحد. * كاتب عربي