يعلن هشام الدجاني في صفحة "أفكار" 21/3/2000 وصفته "الباردة عقلياً وسياسياً" للنسيان، ويقدم منظوره للسلام العادل والشامل عبر محو الذاكرة! وأظن أنه لو قدم هذه الوصفة لباراك، لاتهمه بالعداء للسامية. ولو سمع يوسي ساريد "المتفهم للسلام" بطريقته عن محو الذاكرة لاتهمه باليمينية الحاخامية. تعالوا نقف قليلاً على ضفة الدجاني وأمام هذا الحامل الثقافي - السياسي ونتساءل: هل تقبل وصفته هذه بقومية هايدر!؟ وهل تغفر للبابا أنه لم يعتذر عن المحرقة!؟ وهل تقبل أن نعلم أولادنا أن القدس عاصمة أبدية وانسانية لجميع الأديان!؟ وصفة الدجاني للنسيان ومحوه الذاكرة سيفهمها الإسرائيليون موقفاً ضد المحرقة كذكرى. وضد الذاكرة التي "تتوهم" ملكية فلسطين لليهود منذ أكثر من 2000 عام وتزرعها الصهيونية في عقول أبنائها وعقول الغرب تاريخاً وهمياً لا يوجد في الواقع الملموس المشخّص، ما يؤيده وتريد أن تفرضه للسيطرة على الواقع والمستقبل. الجانب الإسرائيلي يكرر كل يوم ويؤكد "اننا لن ننسى ولن نسمح لأحد بأن ينسى". فالإسرائيليون لم يرضوا عن شيراك إلا بعدما سمح بإقامة معرض يهودي في باريس. وفي وسط نيويورك تقوم ذكرى المحرقة كذكرى باقية. والبابا مطلوب منه أن يعتذر بوضوح. والأستاذ الدجاني يطالبنا بأن ننسى وبألا ننقل الى ذاكرة أبنائنا سلسلة المجازر وحمامات الدم "في دير ياسين وكفر قاسم الى قصف أطفال مدرسة بحر البقر الى مدرسة داعل ودفن الأسرى المصريين أحياء في الرمال الى مذبحة صبرا وشاتيلا ومجزرة قانا الى حكاية قرية عين طورة، وغيرها وغيرها". وأن نطلب من الآخرين؟ أن ينسوا ليتم السلام كما يريده مدججاً بمصلحة الأميركيين. يبدو أن سلالة جديدة من المفاهيم المدسوسة تتحرك في اتجاه الثقافة والوجدان العربيين، تقوم على ضرورة نسيان الجذور من جهتنا، وتغذية الجذور والأحقاد من جهتهم. وهذه وصفته بالحرف الأحقاد سوف تتراجع مع الزمن فابنك ليس في مثل حماستك. فهو لم يشهد النكبة ولا هزيمة حزيران يونيو وحفيدك سيكون أقل حماسة من كليكما. كيف يوفق الأستاذ الدجاني ما بين رؤيته لموقفي المعارض للسلام العادل والشامل، بل ولعملية المفاوضات برمتها على حد تعبيره، وقوله اني أدافع عن "الموقف الرسمي" بلغة "سلطوية وفوقية" على حد زعمه، ما دام يرى "أن سورية واسرائيل تتفاوضان من أجل اتفاق سلام على طريقة المعاهدة المصرية - الإسرائيلية، أو المعاهدة الأردنية - الإسرائيلية. وليس من أجل اتفاق انهاء حال الحرب!؟". ومن جهة ثانية، ألا يرى تناقضاً فاضحاً ما بين التعبير عن اعجابه بصلابة الموقف التفاوضي السوري ولإدارته البارعة للمفاوضات وحرصه على مرجعية مدريد وقرارات الشرعية الدولية، واقتناعه بأن المفاوضات ستتم على طريقة المعاهدتين المصرية - الإسرائيلية والأردنية - الإسرائيلية!؟ الذاكرة البديلة عند الدجاني هي ما يسميه بالواقعية السياسية "والبراغماتية". وهذه الذاكرة وتلك العقلانية هما اللتان أوصلتاه الى هذا الاقتناع. هنا أود أن أوجه السؤال التالي الى الأستاذ الدجاني: كيف يكون الموقف السوري صلباً ومدافعاً عن السلام العادل والشامل إذا حذا حذو الاتفاقات التي أشرت اليها، ووافق مثلاً على الخروج من النظام العربي أو تأجير بعض الأراضي للإسرائيليين أو أقام تعاوناً أمنياً مع الموساد!؟ ألا يلمس الأستاذ الدجاني هنا تناقضاته ومفارقاته العجيبة!؟ أوَلا يجد ضرورة حتى لاحترام قواعد المنطق الصوري في عدم التناقض!؟ لم يكن الأستاذ الدجاني موفقاً في المرتين: مرة في فهم موقفي لأنني لم أكن أدافع عن الموقف الرسمي بمقدار ما كنت أدافع عن الثوابت الوطنية وعن الذاكرة الجمعية والحس الوطني الذي يتماهى هنا مع الموقف الرسمي حيال القضايا المثارة. والتلويح بالفوقية والسلطوية هدفه هنا واضح وهو شطر الموقف الرسمي عن وعي الجماعة. وكأن الموقف الرسمي يجب أن يكون مناقضاً ومغايراً لرأي الجماعة ويجب أن يذهب بعيداً ليعبر عن جماعة أخرى تعيش على غير الأرض السورية. والمرة الثانية في فهم موقف المفاوض السوري للعملية التفاوضية. فقد تعاطى بطريقة لا تخلو من القصور مع ما قلته في ردي السابق عليه عندما أشرت الى أن سورية تتعاطى مع التسوية كمن يتجرع كأساً من السمّ، وأن سقف ما يمكن أن تقدمه هو انهاء حال الحرب وعدم المساس بمفهوم السيادة وانجاز اتفاق سلام بأقل الخسائر الممكنة في اطار "العلاقات الاعتيادية بين الدول". وأود هنا أن ألفت الدجاني الى أنني أعرف تماماً أن المفاوضات تدور على حدود الجولان، لا حدود نيكاراغوا، وعلى مياه الجولان لا مياه الأطلسي، ولأنني أعرف ذلك جيداً عبرت عن حرصي على حقوقنا الوطنية وتمسكي بها، وأظن أن من الأجدر أن يعرف هو هذه الحقائق، ويكف عن الدعوة الى تقديم تنازلات في شأنها. يذكرنا موقف الأستاذ الدجاني من قضية المفاوضات بحكاية "السلحفاة والأرنب". فالحل في نظره هو في أن تتحول "السلحفاة البطيئة" أرنباً أحمق، كأن سورية هي التي ترفض استعادة الجولان لا اسرائيل!؟ عندما يقول: "لا خيار إلا السلام بين سورية واسرائيل". وطريقة الأرنب عند الدجاني تتجلى أكثر ما تتجلى في أنه يلوم "السلحفاة" على بطئها، ويدعو حتى الى ما سمّاه حرفياً ب"السلام غير المتكافىء" بقوله "إذا كان هذا كما يحلو لبعضهم أن يسميه يوقف هذا الإذلال اليومي للعرب ويوقف العربدة الإسرائيلية..." فهذا يكفي...! وبدلاً من أن يدعو الدجاني، ما دام يؤكد نياته الوطنية الطيبة، الى أن يستفيد العرب من طريقة باراك في المفاوضات، وألا يتخلوا أبداًَ عن تحصين أنفسهم وتعزيز قوتهم واعادة بنائها، فيما هم مضطرون الى خوض المفاوضات، بدلاً من أن ينصحهم بطريقة "الأرنب والسلحفاة" أن يقبلوا بسلام "غير متكافىء". المثقف الحقيقي هو الوطني الذي لا يقف مع مطلق سلام، كما فعلت أنت، ولا يرفض مطلق سلام تحت ذرائع المنظور التاريخي للصراع. يقف مع السلام الذي يعيد الأرض العربية المحتلة ويعترف بحقوق العرب وحق الفلسطينيين في العودة واقامة الدولة الوطنية، وثمة فرق كبير بين السلام الذي يتحول انجازاً وطنياً، والسلام الذي يفضي الى الكارثة القومية. ما يريده الدجاني هو تحويل الضرورة ارادةً ذاتية، ولكن على طريقة الأرنب الأحمق. انها ضرورة، لكنها ليست ارادة خالصة. فهذه الإرادة هي ارادة السلام العادل والشامل! لا تريده اسرائيل، ولا تسعى اليه وتربطه بانتهاك السيادة وباختراق البنى السياسية واحتوائها ودمجها. والإسرائيليون يؤكدون ذلك، كل يوم، ويقولون صراحة من دون لبس "نحن نريد سلاماً يقوّي اسرائيل". ينبغي أن نعرف هذه الحقائق ونريد لسورية، إذا تمكنت من انجاز التسوية مع اسرائيل، أن تكون في اطار العلاقات الاعتيادية بين الدول وزن تتخذ المواجهة مع اسرائيل أشكالاً جديدة. ولن تتحق نبوءة الأستاذ الدجاني في أن الأحقاد ستتراجع مع الزمن، ما لم يتغير العقل الإسرائيلي ويقتنع الإسرائيليون هم أولاً بضرورة السلام ومكوناته ومقوماته ومفهومه الإنساني. المقارنة التي يشير اليها الأستاذ الدجاني بين الصراع العربي الإسرائيلي والصراعات السابقة لكل من المانيا وفرنسا واليابان، ليس لها مكان هنا. وهي غير موضوعية وغير عادلة، إذ لم يُقتلَع هناك شعب من جذوره ليحل محله شعب آخر، ولم يدّع أي منهم ملكيته أراضي الغير واحتلالها أراضيه بالقوة والاحتفاظ بها، ولكن يبدو لي أن الزمن جعل كاتبنا ينسى هذه الحقائق، هو ابن يافا. تروي الحكاية أن أحد الجنود الإسرائيليين كان يعود، كل مساء، وهو يزف انجازه الجديد لأمه بقتل مواطن عربي جديد، فتحتضنه الأم وقد غمرها فرح واضح، الى أن جاءها ذات مساء وهو مثخن الجراح، فراحت تبكي وهي تسأله: من فعل بك هذا؟ قال: واحد من العرب قد أصابني، فأجابت بدهشة واضحة: لماذا فعل بك ذلك، ماذا فعلت له؟ لا أظن أن عاقلاً يوافق كاتبنا على قوله "في الظروف الراهنة لا يمكن أن يتم السلام إلا تحت المظلة الأميركية، فالولايات المتحدة القوة القادرة على اقناع اسرائيل بأن المصالح الأميركية والإسرائيلية نفسها تقتضي استكمال عملية السلام. هل المسألة يا سيد دجاني هي في هذا الإقناع؟ في درس تعليمي ينبه ويوضح لإسرائيل مصلحتها؟ وهل ما يهمنا هو البحث عن المصالح الأميركية والإسرائيلية أم البحث عن مصالحنا!؟ أنت تقول إن شعارات العقود القديمة ومرجعياتها، سقطت. سقط شعار "صراع الوجود لا الحدود"، وسقط شعار التوازن الاستراتيجي، وسقط منطق الستينات. ولم يبق من مرجعية سوى مرجعية مدريد. وهنا أودّ أن أسألك ما الذي فعله الإسرائيليون بهذه المرجعية؟! ما الذي فعلوه سوى الالتفاف والمواربة، وادارة الظهر لقرارات الأممالمتحدة - منذ قرار التقسيم - والعبث بها؟! وزرع المستوطنات والاعتداءات اليومية على جنوب لبنان؟ ما الذي فعلوه في مفاوضات شيبردزتاون؟! لماذا لم يحضروا اجتماعات لجنتي ترسيم الحدود والمياه؟! من الذي يعرقل ويدمر عملية السلام ويحاول أن يفرض على العرب تسوية الأمر الواقع وتوقيع صك الهزيمة؟ لِمَ تتحدث عن قيم الستينات ومثلها وأحلامها بهذا المقدار من الاستنكار والارتداد؟! ألا تعلمنا الحياة، كل يوم، أن لا مستقبل للعرب إلا بوحدتهم أو وحدة موقفهم على الأقل، وأن لا سلام عادلاً وشاملاً من خارج النظام العربي؟ ان احلام تلك المرحلة لم تفقد مشروعيتها، وما أحوج العرب الى استردادها اليوم. واذا كان الإسرائيليون تمكنوا من اختراق البنية العسكرية العربية وإلحاق الهزيمة بها، وإذا كان الوضع الراهن، كما وصفته في مقالك "لا يمكن أن نحارب من يتفوقون علينا دائماً"، فهل يعني ذلك أن نفرط بمحض إرادتنا بخطوط الدفاعات الثقافية والسياسية والاقتصادية؟! الأستاذ الدجاني يعوّم نفسه ويسوق أفكاره في البورصة السياسية الجديدة. ويكرر الأسطوانة الجديدة لهذه البورصة في وصف أولئك الذين يريدون سلاماً متكافئاً وعادلاً وشاملاً بالاسم والفعل، بأنهم غير واقعيين وغير عقلانيين ويعبرون عن خطاب أكل الدهر عليه وشرب، وانهم يتحركون بالعواطف التي تناسب الشعراء لا السياسيين. وهذه الاسطوانة مستهلكة، وليس الدجاني أول من استخدمها. فهي اسطوانة الذي غيروا اصطفافهم الثقافي والسياسي واجتاحتهم موجة التهوّد الثقافي وارتضوا مفرداته ومعاييره والتحقوا بموجة الليبرالية الجديدة المصدرة الى بلدان العالم الثالث في اطار ايديولوجيا العولمة، وترتبط هنا كما في كل مكان بالانحلال الوطني ومزاعم أفول عصر القوميات وتقاوم الدولة القومية العتيقة. بعد كل هذا، هل الدجاني متأكد أنه يفكر في كل ذلك في ضوء "نبض الشارع السوري" الذي يدعي معرفته؟ وهل يعرف هذا النبض حقاً؟ فالدجاني يربط ما بين "السلام خيارنا الاستراتيجي" والانفتاح الاقتصادي والسياسي والإعلامي. إنه يفكر في الانفتاح والإصلاحات الإدارية والاقتصادية على أنها ثمرة من ثمرات السلام بدلاً من أن يحاول طرحها من منظور آخر، وهو منظور اعادة تأهيل أنفسنا لمواجهة ذلك الاستحقاق وتعزيز الموقف التفاوضي للتوصل الى سلام متكافىء بالفعل، لا بالاسم. كان من الأجدر ألا يتكىء الدجاني على نبض الشارع السوري ليمرر تلك الأفكار، لأن ما يزعمه ويدعيه لا يتصل، بقريب أو بعيد، بالمزاج السوري، وان تلك المزاعم ليست سوى بيت من زجاج. * كاتب سوري.