كم من السهل إحياء الآمال، وكم من السهل ايضاً هدمها. المجتمعون ضمن مهرجان السينما العربية الاول في البحرين تواقون، مثل المهرجان، الى بداية جديدة، متطلعون صوب الفرص التي يمكن ان يتيحها المهرجان او يدفع اليها، راغبون في المساهمة في ايجاد حل اقتصادي لواحدة من اكثر المعضلات العربية إلحاحاً: السينما. لكن الخوف دائماً، ومنذ البداية، ان ينتهي المهرجان الى صياغة الآمال دون النتائج، او الى شحذ الهمم بين فريق وبقاء الفريق الآخر - الذي يمكن ان يتدخل في القطاعين الخاص والعام لانقاذ السينما - غائباً. ومع ذلك، فان صياغة الآمال امر محمود بصرف النظر عن النتائج. بل ان هناك من يؤكد ان غاية المهرجان هي الدفع الى تأكيد اهمية السينما والرغبة فيها - وهي غاية نبيلة بحد ذاتها - لكن المهرجان ليس مسؤولاً عن تحقيق نتائجها. والحقيقة ان البحرينيين، مسؤولين ومواطنين، لم يبخلوا على مهرجانهم السينمائي الاول. ورعاية رئيسه الشرفي، وزير شؤون مجلس الوزراء والاعلام السيد محمد ابراهيم المطوع، لم تتوقف عند حدود الرعاية بل شملت متابعته على نحو يومي للتأكد من سيره على النحو المقرر له. على رغم ذلك وخارج نطاق المسؤولية، فان اللقاء الذي تم طوال ثمانية ايام - وهو ليس الاول من نوعه من حيث الرغبة في جمع سينمائيي العالم العربي - لم ينطوِ على جديد يضاف الى محاولات السينمائيين العرب الاجتماع وعرض الافلام وطرح المواضيع وتجاذب الآراء ثم انصراف كل منهم الى عالمه الذي جاء منه. لكن هذا لا يعني انه لم يكن لقاء مهماً، بل ومهماً جداً، او انه لم يكن مختلفاً عن لقاءات الماضي. مهرجان السينما العربية انطلق السعي اليه منذ بضع سنوات عندما لاحظ اكثر من سينمائي وناقد ان العالم العربي، الذي لا يزال ينتج بطريقة او باخرى من 22 الى 25 فيلماً في العام الواحد، يحتوي على مهرجانات عدة صغيرة وكبيرة ليس من بينها ما هو عربي صرف. مهرجان القاهرة، الذي حضر عنه رئيسه حسين فهمي، دولي. وقرطاجة افريقي - عربي. ودمشق آسيوي - لاتيني. وهناك مهرجانات دولية اخرى او شرق اوسطية او داخلية. كل مهرجان يتعاطى مع سينمات من خارج الحدود يتضمن افلاماً عربية، بل ويتنافس عليها. انما ليس هناك مهرجان عربي للسينما العربية… وفي بلد عربي. مهرجان باريس للسينما العربية هو اللقاء الاسبق لهذه السينما، لكنه ليس عربي الاقامة. والمسألة قد لا تكون مهمة على صعيد الجغرافيا، لكنها مهمة على صعيد التاريخ. مهرجان البحرين يدخل الى موقع شاغر ويحاول تغطيته. ونتيجة الدورة الاولى تشير الى انه فعل ذلك بفضل تنظيم جيد وطموحات رافقت مديره العام المخرج البحريني بسام الذاودي الذي ادرك ان سبيل النجاح يكمن في ازالة المعوقات ولو فعل ذلك بنفسه كما يقول: "بل هذه هي الطريقة الوحيدة التي كانت امامي، فعل كل شيء بنفسي وعدم الاتكال على احد في الامور التي تتطلب فعلاً. وانا اتحدى من يأتي لي بورقة واحدة من اوراق المهرجان لم اكتبها بيدي". فيلم الافتتاح من الطبيعي، طالما ان الافلام العربية الصالحة لأي مسابقة محدودة، ان يكون عدد الافلام التي سبق ان عُرضت في مهرجانات عربية او اجنبية تتعامل مع السينما العربية كثيراً فالنسيا او مونبيلييه لسينما البحر المتوسط طاغياً. لكن ذلك لم يمنع من ملاحظة ان استخدام الافلام العربية كجزء من المظلة التي يلتقي تحتها السينمائيون العرب لم يتأثر بهذه الحقيقة. السينمات التي تعبّر عنها الافلام المشتركة في المسابقة، او تلك التي اندرجت تحت سقف البانوراما، تتوزع حسب النسب المعتادة: نصف مصري مع ارتفاع عدد اعضاء الوفد المصري عن عدد اعضاء اي وفد آخر ونصف قادم من باقي الدول العربية التي انتجت افلاماً في العامين الماضيين. وهذا طبيعي لأن 50 الى 60 في المئة من الافلام الجادة التي تصلح لعروض المهرجانات في اي مكان لا تزال تأتي من مصر. وعلى رغم الازمة الشديدة التي تعيشها السينما المصرية على صعيد الانتاج وحركة التصنيع فان احداً في هذا العالم العربي لا يحقق 15 - 18 فيلماً في العام سواها. فيلم الافتتاح "اولى ثانوي" للمخرج محمد ابو سيف، نجل المخرج الكبير الراحل صلاح ابو سيف. نور الشريف في دور رجل يعمل في المتحف ويعيش في فيللا ورثها عن جده. يلتقي يوماً بالمرأة التي يمكن ان يحبها ميرفت امين. في الوقت ذاته يتبنى، ولو لعطلة الصيف، ثلاثة فتيان في اول الشباب. والقصة ذات خطين: الاول بين الشخصيتين الراشدتين والثاني بين الاولاد الثلاثة. الخطوط تتشابك وتصبح موحدة. وفي توليفاتها تلك يكمن جانب اساسي من قيم الفيلم، اذ قلما نشاهد فيلماً يتيح متنفساً لممثلين وشخصيات في ذلك السن المبكر. لكن ابو سيف بدا كما لو انه غير واثق من احتمالات الموضوع وآفاقه. فمعظم ما نشاهده في الفيلم هو عزوف المخرج عن الاستفادة من تلك الاحتمالات. فبدءاً من عنوانه الذي لا يعني شيئاً والذي يشبه افلام الستينات ذات العناوين المدرسية مثل "احنا التلامذة" وصولاً الى نهاياته، يمر الفيلم من دون حدة او الحاح. وكما لو ان المخرج مصرّ على تعميم المفاصل الجادة قدر الامكان، نراه يميل الى تلك الاستراحات الكوميدية القصيرة. "قفشات" يرميها على الطريق بين الحين والآخر لعله يصطاد بها بضعة زبائن جدد. وما يبدو مؤثراً هو ان ابو سيف لا يحاول - عن قصد او ربما نتيجة العقل الباطن - تحقيق ما هو اكثر من سرد الحكاية. وفي هذا الاطار فان نجاح الفيلم يتوقف ليس على الاحداث وتنفيذها بل على نور الشريف الذي يحمل الفيلم على عاتقه. قصة آدم والمهرجان كان مناسبة لي لمشاهدة الفيلم المصري الذي فاتني في مهرجان القاهرة، وهو "ارض الخوف" لداوود عبدالسيد ما يؤكد ان لتكرار انتقال الافلام العربية من مدينة الى اخرى فائدة جمّة. دراما مشبعة يقودها احمد زكي بقوة، منذ اللحظات الاولى يأتي صوته متهدجاً كما لو ان المذكرات التي يتولى قراءتها علينا تحمل نصاً خطيراً للغاية ويتم كشفه للمرة الاولى. والأمر هو كذلك فعلاً: انه محقق في الشرطة اسمه آدم، يطلبه ذات يوم احد مسؤوليه ليخبره بأنه اختير لكي يُمنح شخصية جديدة لينضم الى السوق التحتية المسماة أرض الخوف تلك التي تشغلها عصابات المخدرات وذلك لمساعدة البلاد في تجاوز محنتها مع هذه العصابات التي عليه ان ينقل نشاطاتها بتقارير سرية، وعليه ان ينسى ما هو عليه الآن، وان يتبنى شخصية شريرة جديدة ذات طبيعة انتهازية لا تتورع عن القبائح. والمهمة، كما قيل له، لا نهاية لها، وان لم تكن ابدية فهي شبه ابدية. كان ذلك في العام 1968، وفي العام 1981 كان لا يزال في تلك المهمة بعدما ارتقى الى رئاسة عصابته الخاصة. لكن ذلك العمل انتج ازدواجية الهوية لديه: الضابط الذي تخفّى اكثر من اللزوم في رداء "المعلم" وجرع من كأس الشر اكثر مما يجب. الامور تبدأ بفقد علاماتها المميزة، او كما يقول في احد المشاهد، كان مثل من يقف وراء زجاج ناصع ثم يصيب ذلك الزجاج غبار، ثم يتكثف الغبار بحيث لم يعد يرى منه شيئاً. النصف الاول من الفيلم يفاجئنا بقوته، باجوائه وسلاسة سرده وعمق القراءة، مع التمثيل الرائع لكل ممثل فيه، وكذلك اختيار عبدالسيد لموضوعه ولوسيلة سرده بدءاً من قراره الصائب باستخدام صوت المعلق/ بطل الفيلم باسلوب الادلاء بالشهادة... كلها أمور جعلت النصف الأول على الأقل أفضل نتيجة فنية حصل عليها عبدالسيد في حياته المهنية. المشكلة هي في النصف الثاني عندما يكف الفيلم عن الاتيان بالجديد لفترة ليست بالقصيرة. فيتحول الى استطراد والى ما هو أكثر: الى احدى محاولات مارتن سكورسيزي تقديم المافيا النيويوركية على أساس اجتماعي وليس بوليسياً. عبدالسيد يتحدث في هذا الجزء عن "المافيا المصرية" ويصورها على شاطئ البحر: معلمو الصنف أي الحشيشة الذين قاوموا الاندماج مع المتغيرات والتجارة بالكوكايين يعقدون لقاء استجمامياً على شاطئ البحر، وزوجاتهم وأولادهم على مقربة. يضحكون ويثرثرون ويناقشون امور العمل من دون ضغط. صورة لم تعمد اليها السينما المصرية في حديثها عن أمثال هؤلاء، وهي بالتأكيد تذكر بفيلم "صحبة طيبة" لسكورسيزي من حيث أن المخرج الأميركي لا ينظر الى هؤلاء "المعلمين" على أنهم أشرار بالكامل بل شخصيات مثيرة للفضول وتعيش حياتها العائلية كما يعيشها أي انسان آخر. لكن شيئاً آخر واقع هنا: الأحداث ذاتها تصبح رصداً تشويقياً، بعدما كانت رصداً للشخصية الأساسية. والمشهد المشار اليه ينتهي بعملية هجوم تدبرها القوى التي تريد دفع المعلمين للتجارة بالكوكايين. معركة ليست جيدة التنفيذ تقع بين الطرفين تلحقها بضع عمليات أخرى تكاد تحول الفيلم عن منصته الدراسية للشخصية والقراءة الذاتية. ومع ذلك، فان الفيلم ككل يترك انطباعاً قوياً على مشاهديه. نهايته المفتوحة نوعاً ما مناسبة ولو أنها تكمن في الجزء الأضعف من العمل كسياق واحد. السينما السورية تقدمت بفيلميها اللذين ينتقلان من مهرجان الى آخر: "نسيم الروح" لعبداللطيف عبدالحميد و"تراب الغرباء" لسمير ذكرى. والمغرب ارسل "كيد النساء" وهو فيلم جديد لفريدة بليازيد و"نساء... نساء" لسعد الشرايبي. ولبنان كان لديه فيلمان ايضاً "اشباح بيروت" لغسان سلهب و"بيروت الغربية" لزياد الدويري. ولوحظ غياب عدد من السينمائيين الذين وُجهت الدعوات اليهم ومن بينهم رندة الشهال صباغ صاحبة "متحضرات" وهي احد اعضاء لجنة التحكيم وزياد الدويري الذي اعلن موافقته على الحضور لكنه عزف لاحقاً، ومحمد خان المنشغل بتصوير فيلمه الجديد "ايام السادات". واحتفى المهرجان بالمخرج الجزائري احمد راشدي على نحو لم يشهده احتفاء مهرجان عربي ما بأي سينمائي آخر. في مجمله، كان المهرجان بأسره استعراضاً لما تستطيع المهرجانات الناجحة تقليده... وبقي ان تأتي الافلام.