تبدو معالجة قضية القرصنة الفنية في لبنان شائكة وصعبة، نظراً الى تداخل الاعتبارات القانونية والتجارية والسياسية وتشابكها. وعلى الرغم من نشر قانون "حماية الملكية الأدبية والفنية" رسمياً في الجريدة الرسمية في 13/4/1999، والضجة الإعلامية التي واكبته، فإنه لا يزال حبراً على ورق، وما زال "القراصنة" منتشرين على مختلف الأراضي اللبنانية، ينسخون ويوزّعون ويتاجرون. وبعد التقصّي عن الدوافع والتجاوزات، تبرز علامات استفهام عدة: كيف يمكن تطبيق هذا القانون، إذا كانت "جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان" - المولجة أساساً بحماية هذه الحقوق - عاجزة عن ضبط الفلتان نظراً الى ضآلة ميزانيتها وافتقارها الى العناصر البشرية الكافية؟ أضف إلى ذلك أن القانون الجديد لا يجيز لموظفيها تنظيم جولات تفتيش على نقيض ما يحصل في "الساسيم" الفرنسية والأوروبية. ومن يعوّض على المنتجين خسائرهم، علماً أنهم مرغمون على رفع الدعاوى وتكبد تكاليفها وانتظار الأحكام التي تطول وتطول حتى يكون "من ضرب قد ضرب ومن هرب قد هرب"؟ ولمَ لم تقفل بعد محترفات النسخ والقرصنة المرتبطة بشبكات داخلية وخارجية على رغم علم المراجع المختصة بها؟ وإلى متى سيدفع أصحاب الحقوق الثمن المادي ويدفع المستمع ثمناً باهظاً لأعمال مزوّرة ورديئة النوعية؟ قبل الحرب وبعدها في أعوام الحرب، عمّ الفلتان القطاع الموسيقي مع غياب أي وازع يردع المخالفين، وبعد انتهائها، استمر الوضع على حاله الى حين أصغت الدولة اللبنانية الى مطالبات دولية، فصدر القانون رقم 75 المختص بحماية الملكية الأدبية والفنية، لكن المخالفات و"القرصنة" في أنواعها المختلفة، من تسريب الشركة المنتجة الأعمال الفنية قبل إصدارها، إلى نسخ أو ترويج الأعمال الفنية وتزويرها. أما المتهمون، فأشخاص يملكون شركات ومعامل تزوّر المنتجات الأصلية ضاربة عرض الحائط بالنوعية الجيدة، وغير آبهة بالخسائر التي تلحقها بالمنتجين وأصحاب الحقوق، وبالذائقة الفنية وهمّها الرئيسي الربح التجاري فقط. أما الأمثلة فعديدة. بعدما لاقى الديو الغنائي المطرب الكبير وديع الصافي والمغني الغجري الإسباني خوسيه فرنانديز نجاحاً باهراً وعرضت إحدى الحفلات على شاشة التلفزيون، سارع "القراصنة" الى نسخها وتسجيلها على أشرطة وأسطوانات مدمجة ذات نوعية رديئة، وبيعت بأسعار الأشرطة والأسطوانات الأصلية مما سبب خسائر فادحة لشركة ألفتريادس للإنتاج، وكانت الشركة قدّمت طلباً رسمياً إلى "الساسيم" بغية الحصول على ترخيص يتيح لها طباعة عدد معين من الأشرطة والأسطوانات المدمجة C.D.، نظراً الى وجود ناشر أول للألحان والكلمات. وفي انتظار الموافقة كانت الأسواق اللبنانية قد امتلأت بتسجيلات الحفلة، بينما لم تصدر الشركة الأصلية الشريط بعد. ولم يسلم شريط السيدة فيروز الأخير "مش كاين هيك تكون"، الصادر عن شركة "ريلاكس إن" من القرصنة. ويقدّر مدير الشركة أحمد موسى الخسائر التي تكبدها ب150 ألف دولار. وكانت "ريلاكس إن" قد أنتجت 40 ألف شريط فيما باع القراصنة زهاء 200 ألف شريط مزوّر، وقد بيع الشريط أحياناً بدولار واحد بينما كلفته فارغاً دولار ونصف. ويقدر خالد آغا من شركة "روتانا للإنتاج الفني" الخسائر السنوية بزهاء 40 في المئة بسبب التزوير في المنتجات الفنية من دون استثناء، وفي يوم واحد، ضبطت الشركة بالتعاون مع الجمارك 10 آلاف نسخة مزوّرة من شريط "روح روحي" للمطربة نجوى كرم، وإذا كانت قرصنة المنتجات الفنية اللبنانية منتشرة في بعض البلدان الاغترابية حيث تتوزع الجاليات العربية كما في البرازيل والأرجنتين وأوستراليا، نظراً الى عدم وجود فروع للشركات المنتجة فيها، فإنها تبقى الأوسع انتشاراً في لبنان علماً أن ثمة بلداناً مثل سورية والأردن لا حماية فيها لحقوق المؤلفين والمنتجين. ويقارب عدد "المعامل" غير الشرعية العاملة في القرصنة حسب محامي "الساسيم" سمير تابت اليوم 8 منتشرة في أغلبيتها في طرابلس وسوق الروشة وبعلبك والشياح وفرن الشباك. ولكن لمَ يبقى أصحاب تلك المعامل بعيداً عن الملاحقة القانونية؟ معروف تاريخياً أن العام 1710 شهد ولادة أول قانون يحمي حقوق المؤلفين وأعمالهم في إنكلترا. ثم شهدت فرنسا قانوناً مماثلاً في العام 1777، وقد جعلت الثورة الفرنسية حق الكاتب والمؤلف الأكثر قدسية بين جميع الملكيات. وكان ينبغي انتظار القرن التاسع عشر، حين بادر الكاتب آرنست بورجيه الى تأسيس "الوكالة المركزية للحفاظ على حقوق الكتّاب والمؤلفين الموسيقيين"، وذلك في 18 آذار عام 1850. وبعد عام تحولت الى "جمعية الكتّاب والناشرين الموسيقيين" ساسيم. أما في لبنان وبحكم وجود الانتداب الفرنسي، فقد صدر القانون الأول لحماية الملكية الفكرية عام 1924. وفي بداية الأربعينات، كان لبنان يحافظ رسمياً من خلال "الساسيم" على حقوق المؤلفين والشعراء والموسيقيين اللبنانيين وعددهم 700، فضلاً عن 1400 موسيقي وشاعر ومؤلف مصري، وإلى عدد من المؤلفين والشعراء من الدول العربية المختلفة. وعلى الرغم من تحديد صلاحيات "الساسيم" ب"حماية حقوق المؤلفين وإدارتها وجبايتها"، فإن هذه الحماية غير مجدية لأسباب واقعية وقانونية. ويرد تابت أسباب القرصنة بعد صدور القانون الى "وجود غرباء على الأراضي اللبنانية يتعاطون القرصنة، بينما تكاليف ملاحقاتهم باهظة، كما أن قيام المحاكم والنيابات العامة بضبطهم يتطلب جهداً كبيراً. من هنا وجوب إناطة هذا الموضوع بوزارة الاقتصاد". ويشير الى أن "تنسيق "الساسيم" مع الوزارة قائم، وكذلك مع الأمن العام إذ يتم ضبط المنتجات الآتية من طريق المرافق البرية والبحرية، إذ يطلب الأمن العام المستندات الثبوتية لشرعية "البضاعة" ولكن، من الصعب ضبط عملية النسخ التي تجرى تحت الأرض وفي الملاجئ". ويشير تابت الى ثغرة خطيرة في القانون الجديد لدى سؤاله عن عدد مفتشي "الساسيم" واختصاصاتهم، فيكشف أن "لا صلاحية للساسيم بالتفتيش، وأي شخص يمكنه منعها من الدخول الى محله أو مصنعه، على عكس ما يحدث في فرنسا وأوروبا حيث موظفو "الساسيم" محلّفون كخبراء تعيِّنهم المحاكم. هذا الواقع، ينيط واجب التفتيش بوزارة الاقتصاد بناء على طلب يرفعه المتضرر إليها أو إلى "الساسيم" التي ترفعه بدورها الى الوزارة فتتحرك أجهزتها المعنية". وينبه تابت الى ضرورة "طلب الممكن لأن الأجهزة البشرية في الوزارة ضئيلة، وهي بالكاد تتمكن من القيام بواجبها في مراقبة المخالفات في المواد الغذائية. من هنا ضرورة تعديل القانون من ثغراته، واعتبار الموظف في "شركة المؤلفين" بمثابة خبير له الحق في التفتيش ووضع تقرير كما يحصل في الخارج". ويشير المحامي عبده أبي نجم في هذا السياق أنه بإمكان "الساسيم" في الوقت الحاضر التعاون مع النيابة العامة وأفراد الضابطة العدلية للقيام بالتفتيش الاحترازي". وأضاف أنه "بإمكان "الساسيم" تقديم شكوى على المخالفين في صورة تلقائية، لكن ضآلة ميزانيتها وعدد المخالفات الذي لا يحصى يمنعانها من ذلك مما يجعل أمر الملاحقة القانونية منوطاً بأصحاب الحقوق الذين تعرضت أعمالهم للسرقة". ولكن كيف تسترد حقوق هؤلاء وخسائرهم التي قد تبلغ الملايين؟ وماذا إذا طالت مدة صدور الأحكام؟ يقول أبي نجم إن "القانون الجديد أعطى الصلاحية بالإضافة الى النيابة العامة ورئيس محكمة البداية الى قاضي الأمور المستعجلة الذي يبت الأمر في سرعة". أما العقوبة فتتفاوت بين شهر و3 أعوام، والغرامة المالية بين 5 و50 مليون ليرة لبنانية بحسب نوع الجرم. ولكن، من يعوّض خسائر المتضررين؟ يوضح المحامي تابت أنّ "المحاكم عندها تقوم بتحديد الخسائر وتعمد على ضوئها الى إصدار الحكم الملائم". ومن جهة أخرى يشير تابت الى نوع آخر وغير معروف من القرصنة تقوم به بعض شركات الإنتاج الشرعية حين لا تصرّح عن العدد الحقيقي لما تطبعه وتبيعه، ونبّه الى أن "الساسيم" ستعمد في حال الشك الى الطلب من المحكمة ضبط حسابات تلك الشركات وأعمالها وتحديد إنتاجها دورياً". في الواقع، إن القرصنة في لبنان وما تكبّده من خسائر بالملايين للمنتجين أمر خطير وذو انعكاسات سلبية على نوعية المنتجات الفنية وتشويه التراث الغنائي، وهو يدفع أصحاب الشركات الفنية الشرعية الى الهروب من البلد. وقد عمدت شركة "ريلاكس إن" هذه السنة الى تجميد أي إنتاج لها. "سأتوقف عن أي إنتاج جديد - يقول أحمد موسى - وسأراقب إن كانت الدولة ستوقف المزوّرين وإلا سوف نترك البلاد ونهاجر". تقول الطرفة التاريخية، إن تأسيس ال"ساسيم" يعود الى حادثة وقعت في 9 آذار عام 1847، فقد قصد ثلاثة مؤلفين فرنسيين هم الكسندر بورجيه وفيكتور باريزو وبول هنريون حانة، حيث كانت تعزف مقطوعات من موسيقاهم على المسرح. وعندما طلب إليهم صاحب الصالة دفع ثمن مشروباتهم، رفضوا متذرّعين بأن الصالة تربح المال بفضل موسيقاهم، وبالتالي لا يتوجب عليهم دفع أي شيء. فرفع مدير الصالة دعوى ضدهم، وكان يوم صدور الحكم عيداً لجميع الكتّاب والموسيقيين، الذين لم يكتف أصدقاؤهم بربح الدعوى بل نالوا تعويضاً مادياً أيضاً. فمتى سيحيي المؤلفون والملحنون والمنتجون الموسيقيون "عيد" تطبيق القانون والولادة الجديدة ل"ساسيم" لبنانية قادرة وفاعلة؟