تحب أن أصف لك يوماً من أيام حياتي الماضية كرئيس للوزراء؟ وهو كذلك. غير أني أريد أن ابدأ بمقدمة. مقدمة عن رجل كان يسكن حينا وانا بعد طفل في السادسة أو السابعة أو قل، كنا نراه يجول ويجول في شوارع حيّنا من دون أن يتبين لنا هدف من تجواله هذا، كنا نسميه "ابو شاكوش" لأنه كان يحمل دائماً شاكوشاً في يُمناه، أما يُسراه فترفع عصا طويلة نحيلة علق في آخرها طاقيته، فإن كان اليوم يوم اجازة ولم يكن لدينا ما نصنعه، اجتمع بعض صبية الحي منا في انتظار وصوله، فنمشي خلفه ضاحكين هاتفين: "أبو شاكوش! أبو شاكوش!" فلا ينهرنا ولا يلتفت إلينا، وانما يمضي قدماً في بزته المهلهلة التي رشق في عروة ياقة سترتها وردة حمراء ويدور في الطرقات يأمر الجزار بان ينش الذباب عن اللحم المعلق أمام دكانه، أو الفاكهي بان يزحزح الى الداخل اقفاصه التي تشغل ثلاثة ارباع عرض الرصيف، أو يأمر متشاجرين بفض النزاع بينهم والتفرق، أو صاحب المقهى بأن يخفف من ضوضاء مذياعه، او النسوة بالاحتشام في ملبسهن، فكان الجميع يستقبل أوامره بالقهقهات، او بسؤاله: "إزيك النهارده يا ابو شاكوش يا جميل يا سكر؟" وقد يناوله الفاكهي إصبع موز، أو تمعن امرأة لعوب في هز أردها لتغيظه، من دون أن يُلقي أحد منهم بالاً الى أوامره، وكان يُقال لنا إنه يتوجه مرتين في اليوم الواحد الى محطة السكة الحديد، فيفحص حال حقائب المسافرين، ويوجه التعليمات الى الحمالين ثم يقصد القطارات الواقفة فيدق بشاكوشه على عجلاتها، حتى اذا ما سمع الصفارة التي تخطر سائق القطار بالتحرك، لوّح هو للسائق بالعصا التي تحمل طاقيته، فيتحرك القطار، ويظن هو أنه لم يتحرك إلا استجابة لتلويحه. وتدور الأيام فأنسى بدورانها قصة "ابو شاكوش" وتغيض كلية في ذاكرتي، حتى اذا ما مر شهر أو شهران على تعييني رئيساً للوزراء، إذا هي تقفز فجأة من مكمنها الى خاطري، فأرى بكل وضوح كيف ان حالي صارت شبيهة بحاله، كيف اني بت اتوهم ان عجلة الأمور انما تبدأ في الدوران حين اعطيها إشارة البدء، في حين انها تتحرك من تلقاء نفسها في حضرتي او في غيابي، وسواء لوّحت لها بطاقيتي أم لم ألوّح. حياتي اليومية؟ مجرد كرم أخلاق منك أن تسميها حياة: ركوب سيارة، نزول من سيارة، رفع اليد بالتحية لأفراد متسكعين اجتمعوا على الرصيف المقابل، سير على بساط طويل أحمر بين صفين من الجنود المتصلبين رافعي الرؤوس، تناول مقص، قص شريط، ابتسامة لعدسة كاميرا التلفزيون، توديع الرئيس في المطار، استقبال الرئيس في المطار، طبع قبلة باردة على جبين طفلة اختاروها لتقديم الزهور، الدخول الى المستشفى أو المتحف أو المعرض او المدرسة وورائي لفيف من المسؤولين تركوا مواقعهم وأعمالهم للاشتراك في المهزلة، كل منهم يدفع جاره بكتفه حتى يكون على مقربة مني اثناء التصوير، صعود الى المنصة لإلقاء كلمة وحولي رجال حراسة بالسمّاعات في آذانهم، واجهزة الووكي توكي في أيديهم، يتلفتون يمنة ويسرة خشية اقتراب ارهابي، ثم هز الرأس مرتين عند التصفيق من قبيل التعبير عن الشكر. ما من شيء حقيقي، ما من شيء تلقائي أو صادر من القلب، ما من شيء له جذور في الواقع، مجرد سلسلة من اللحظات المتتابعة المفعمة بالنفاق والرياء والتكلف والتمثيل، والملل القاتل، وقد أتطلع الى الطريق من وراء زجاج نافذة سيارتي المصفحة، وحولي رجال الحراسة على درجاتهم النارية، فألمح شاباً أحاط خصر صديقته بذراعه، أو تلميذاً يركل طوبة أمامه في طريقه الى المدرسة، او مجرد بائع خبز على دراجته وعلى رأسه قفص الخبز، فأشعر بالحسد، الشديد يخامرني إذ أراهم "يعيشون"، إذ أراهم "طبيعيين"، في حين أني لا أنقطع لحظة من وقت خروجي في الصباح من منزلي الى وقت ان آوى ليلاً الى فراشي، عن التمثيل، ومع ذلك فرجال الامن يُبعدون هؤلاء المارة "الطبيعيين" في عنف وغلظة وجدّية بالغة حتى لا يعطلوا ولو لثانية واحدة مسيرة موكبي "المهيب" الى مهامي "بالغة الأهمية" فما هي هذه المهام؟ هي كما سبق ان ذكرتُ لك: التلويح بطاقيتي حتى تنطلق القطارات. اينما حللت ثمة جو من الاحتفال يحوّل الحياة اليومية العادية الى قصيدة شعر، والبشر العاديين الى شخصيات في قصص الأطفال "الممرات" كُنست ورُشت وزُين جانباها بصفة موقتة بأصائص النباتات، أراضي الحجرات مُسحت وفُرشت موقتاً بالأبسطة أو السجاجيد. زجاج النوافذ غُسل بعناية، الجدران عُلقت عليها صور الرئيس وصوري. المرضى خلعوا عنهم ملابسهم القذرة، وعن أسرتهم ملاءاتها القذرة، وألبسوهم موقتاً ملابس نظيفة، وفرشوا اسرّتهم بملاءات نظيفة، تلاميذ المدارس صدر إليهم التنبيه منذ أيام عدة بارتداء خير ما عندهم في يوم زيارتي "المفاجئة" وتمرّنوا مراراً على الاجابات المعدة سلفاً من الاسئلة - المعدة سلفاً. الفلاحون بادروا بطلاء أكواخهم، وإزالة القاذورات من عدد منها، اختاروا لي ان أدخلها من دون غيرها في تفتيش "مفاجىء" بل حتى أطفال الشوارع يبدون وكأنما تحوّلوا بقدرة قادر الى ملائكة صغار، صُفف لهم شعرهم، وأضفي نوع من النظام على فوضى هلاهيلهم. كل شيء يلمع. كل شيء يبرق، والابتسامات تعلو وجوه كل من أحادثهم أو أصافحهم وكأنما هي دائماً هناك، حتى لو لم أكن هناك. اينما توجهتُ يتبدد الجو الطبيعي للمكان ويحل محله جوّ من التكلف والتصنع والرياء والبُعد عن الحقيقة والواقع. جوّ موقت لن يستمر طويلاً بعد رحيلي. منمق كواجهة المحلات، اتوا إليه على عجل بالزهور والستائر والسجاجيد وأنوار الزينة، ثم يرفعونها حالما رأوني أدرتُ ظهري لهم، مجرد ورق مقوى، على الجميع وعليّ أنا أيضاً ان نتظاهر بأننا نرأه خشباً صلباً، أو كما يقول شوقي في وصف الحياة: لها ضحك القيان الى غبي ولي ضحك اللئيم إذا تغابى! نعم، عليّ أن أرسي الحجر الأساسي لمبنى مؤسسة جديدة، أو أقصّ الشريط الأحمر الغبيّ المعلّق بعرض فتحة الباب الرئيسي للمستشفى أو المكتبة أو المسرح أو المتحف أو ما شئت. أخطو فوق رمل أصفر نظيف رشوه على أرضية الفناء في اليوم السابق. أمدّ يدي الى رجل بجواري أحنى ظهره احتراماً من دون ان التفت إليه بوجهي، فأتناول منه الشاكوش الصغير أي والله الشاكوش! أدق به ثلاث دقات بطيئة على كتلة من الحجر الرملي، أو المقص من فوق مخدة من القطيفة الحمراء لأقص به الشريط إيذاناً بالافتتاح. فما انتهي من هذه المهمة السهلة حتى يصفق لي جمهور الحاضرين وكأنما قمتُ بعمل فذّ، ثم ابتسم للكاميرات التلفزيونية والصحف والمجلات والشاكوش أو المقص لا يزال في يدي. ثم أدخل في حديث مسموع مع مدير المؤسسة، أو المهندس المعماري للمبنى، أو إحدى الممرضات او العاملات، أو أمين عام المتحف، أو المسؤول عن إعارة الكتب في المكتبة، كل منهم لبس أفضل ثيابه استعداداً لهذا اللقاء معي وللظهور على شاشة التلفزيون. كل منهم على وجهه ابتسامة عريضة وتعبير الاحترام العميق لما أقوم به. ويدور الحديث مع كل منهم لدقائق عدة، "ها، إن شالله تكون مبسوط. دي فيها كام كتاب؟ بقى لك كم سنة ممرضة؟ عندكم سراير كفاية للمرضى؟ دا صناعة محلية ولا مستورد؟ إيه اللي خلاّكم تختاروا الموقع ده؟" وعليّ أن أتظاهر بأني أفهم طبيعة عمل الجميع، وكل ما حولي من آلات، وما يدور من عمليات، وما يفرزونه من منتجات، والمتوقع لحجم المبيعات. وكل ذلك يستدعي أن يزودني المساعدون في الرئاسة في اليوم السابق للزيارة بمعلومات متخصصة أعيها، وبمجموعة من الاسئلة أوجّهها، وبأرقام واحصاءات أحفظها عن ظهر قلب حتى أبدو كالخبير العالم بكل شيء، ثم أمحوها من ذاكرتي فور نطقي بها. قد أسأل العامل سؤالاً فما يشرع في الاجابة حتى يتحول اهتمامي من الاستماع الى اجابته التي لا أعبأ بها على أي الأحوال، الى محاولة تذكر السؤال التالي الذي سأوجهه اليه حتى اذا ما فرغت جعبتي من الاسئلة والتعليقات والبيانات، بدرت مني حركة مدروسة سلفاً، يفهمها الجميع، فيتقدم الحرس لإفساح الطريق أمامي، وقد يدفعون العمال في غلظة وفظاظة كي يتراجعوا الى الوراء، بعد أن كنتُ في حديثي اليهم متلطفاً مبتسماً مداعباً، من دون أن انظر نظرة واحدة الى الكاميرات التي أعرف جيداً انها تصوّرنا طول الوقت، وتنتهي الزيارة بالهتاف، او بأغنية ينشدها الطلبة إن كنتُ في زيارة لمدرسة، يدعون لي فيه أو فيها بدوام التوفيق. وقد يوفدني رئيس الجمهورية كي أنوب عنه في حفلة لتوزيع جوائز، أو افتتاح المعرض الدولي للكتاب ولقاء المفكرين والأدباء، أو تسليم الكأس لفريق رياضي بعد فوزه في مباراة مهمة، الى آخر المهام التي تُلقى على كاهلي مهمة ثقيلة رذيلة، هي التظاهر باهتمامات ليست عندي ولن تكون عندي في يوم ما، والاضطرار الى حفظ الاسئلة والتواريخ والبيانات المتخصصة في ميادين شتى، فيظن الجمهور عند سماعها أني كرستُ حياتي كلها لدراسة هذا الميدان بالذات. فها أنا مثلاً لم يحدث في حياتي قط - قبل ان أتولى رئاسة الوزراء -ان شهدتُ مباراة لكرة القدم ولا أية كرة على الاطلاق، لا على الطبيعة ولا على شاشة التلفزيون، ولم ابالي أفاز فريق الزمالك، أو فريق الاهلي، أو فريق العفاريت الزّرق. غير ان هذا الموقف غير مقبول مني في موقعي الحالي، وعليّ طوال المباراة أن اكتم التثاؤب. وأركز البصر، وأوسّع حدقة العين، والتفت يمنة ويسرة أتابع مسار الكرة. حتى اذا ما دخلت الكرة البلهاء بين عمودين أبلهين من الخشب، دوت يداي بالتصفيق، والتفت الى الجالس الى يميني أو يساري معبراً عن اعجابي بهزتين أو ثلاث هزات من الرأس. فوالله لو سألتني وقتها وأنا أسلم الكأس مهنئاً الى رئيس الفريق الفائز أي فريق من الاثنين فاز، لما أمكنني في معظم الأحيان أن أجيبك!. وقد أحضر مباراة في الرماية في نادي الصيد في حي الدقي، فيصر رئيس الفريق على ان يناولني بندقية لم أحملها في حياتي قط، ولا دراية لي بطريقة استخدامها ويطلب مني في أدب جم لا أملك إزاءه ان ارفض له طلباً أن افتتح الحفلة بإطلاق طلقة منها على طبق طائر. حتى اذا ما اطلقتها ضج الحاضرون بالتصفيق، من دون أن أرى ومن دون أن تذكر الصحف في اليوم التالي ما اذا كانت طلقتي أصابت الهدف أم اخطأته، وتنتهي الحفلة بأن أتبادل بعض الملاحظات مع مدير النادي عن ضرورة تشجيع رياضة الرماية، وأهمية إصابة الاطباق الطائرة في حياة المجتمع، وهي ملاحظات يكون همس بها في أذني أحدُ المساعدين في اللحظات الأخيرة ثم أتمنى للنادي حظاً سعيداً، وتوفيقاً مطرداً، ويشيعني الجميع الى سيارتي وسط مظاهر الامتنان والاعجاب والتقدير. أو ها أنا ذا افتتح المعرض الصناعي الزراعي في مدينة نصر، فيستقبلني عند الباب حشد من المسؤولين على رأسهم مدير هيئة المعارض. وفي قاعة السراي الرقم واحد قبل الطواف بالمعروضات، يُلقي هذا المدير خطاباً طويلاً مملاً عما باتت تنعم به الصناعة والزراعة في ظل حكومتي من ازدهار، وما تلقيانه مني شخصياً من رعاية، وما أحبوهما به من عناية. وإذ ينتهي من حديثه، اقوم فأجيبه بخطاب معدّ سلفاً، فضلتُ حفظه على قراءته من الورق حتى يبدو عفوياً ارتجالياً. وهو خطاب وإن كان لا يقل عن خطابه إملالاً للسامعين، يستقبل الحاضرون بالتصفيق الحاد، وبالهتاف العالي تحياتي، فيهب وزير الزراعة مذعوراً من نومه الذي راح فيه بعد ثوان من اتخاذه مقعده في الصالة، واشير في كلمتي هذه الى أهمية النهوض بالصناعة والزراعة في حياتنا الاقتصادية، بعبارات مقاربة لتلك التي استخدمتها في الصباح بشأن أهمية رياضة الرماية في حياة المجتمع. غير أني أعرّج الى الحديث تفصيلاً عن أوضاع مصر الاقتصادية، ذاكراً حشداً من الارقام والبيانات والاحصاءات التي زودوني بها في اليوم السابق، وحفظتها حفظاً كما يحفظ التلميذ قصيدة الفرزدق في هجاء جرير، حتى أبدو وكأنما كل المعلومات ماثلة في ذهني بأدق تفاصيلها. كما لا أغفل في الخطاب ذكر قلقي من ارتفاع أسعار بعض السلع، معلناً عزم حكومتي على معالجة هذا الوضع، فيدوي التصفيق لمجرد ذكري العزم على معالجة الوضع، وكأنما لا يُطلب من الحكومة غير التعبير عن احاطتها بالأمر. ونخرج من القاعة فينتهز المدير الفرصة ليعرفني بمجموعة من معاونيه، يتقدمون اليّ في حركات كفيلة بإثارة ضحكي لو لم أتمالك نفسي، فأصافح بعضهم، وأوميء برأسي محيياً البعض الآخر. ثم أشرع في الطواف بالمعروضات، تسبقنا كاميرات التلفزيون ومصورو الصحف، والى يساري من عُيّن لكي يشرح لي ماهية المعروضات حتى لو لم أحتج الى شرح، وحولي الحرس يتلفتون يمنة ويسرة، وورائي حشد من أناس لا أعرفهم يشرئبون بأعناقهم فوق أكتاف من أمامهم كي يظهروا في التلفزيون، وأمضي فأتفحص هذا أو ذاك، وألمس بيدي هذه الآلة الكبيرة الغامضة أو تلك، سائلاً الواقف الى جوارها عن وظيفتها من دون أن ألقي سمعاً الى اجابته، متحسساً بأصابعي قطعة من النسيج أسأل الواقف وراءها عن المادة المصنوعة منها، من دون أن أعبأ بما اذا كانت من الحرير او من الخيش، وقد أوجه اليه سؤالي المعتاد: "ها، إن شالله تكون مبسوط؟" فيجيبني بأنه مبسوط بوجودي في هذا الافتتاح. وأُنهي جولتي بالتعبير عن رضائي عن كل ما شاهدت، وشكري لكل من ساهم في تنظيم هذا المعرض الذي هو فخر للزراعة والصناعة المصريين اللتين باتتا تنافسان نظيرتهما في أرقى دول العالم، إلى آخر مثل هذا الكلام. ثم ألوّح بذراعي محيياً الحاضرين، وأنصرف في تؤدة قاصداً سيارتي، يسبقني رجال الأمن يدفعون من طريقي في غلظة أفراد الحشد الذي اجتمع للتفرج عليّ. وقد يكون عليّ أن أزور في اليوم نفسه موقعاً منكوباً، كمدينة في الدلتا أو الصعيد شبّ بها حريق هائل، أو قرية اصابتها سيول دمّرت مساكنها وشرّدت أهلها، فأرسم على وجهي اثناء طوافي بمكان الحريق أو السيل تعبير الأسف والاشفاق، وأعبّر لمن استقبله من الاهالي عن عميق تعاطفي معهم، واعداً إياهم ان تبذل حكومتي قصاري جهدها من أجل تخفيف وقع الكارثة عليهم، مصدراً تعليماتي الى الوزير عن يميني بإمدادهم بكل ما يحتاجون اليه من خيم وبطاطين ومؤن غذائية، والى الوزير عن يساري بالشروع فوراً مكرراً كلمة "فوراً" من بناء مساكن جديدة لهم. ثم أطوف لمصافحة البعض منهم، موجهاً اليهم اسئلة في طبيعة الاسئلة نفسها التي وجهتها الى المشاركين في مباراة الرماية في نادي الصيد، أو الواقفين الى جوار آلات المعرض الصناعي الزراعي، واثقاً من أن وجود رئيس الوزراء بينهم يحادثهم في بساطة وتواضع سيكون له أثره في تبديد حزنهم على ما أصابهم. وقد ينتهز البعض الفرصة فيقدّم اليّ عريضة بشكواه من أمر من الأمور، أو بطلب شخصي له، حامداً الله ان أفلح في تقديم العريضة الى رئيس الوزراء نفسه لا الى رئيس المدينة أو الحي، أو حتى للمحافظ الذي لا شك في أنه كان سيُلقي بالطلب في سلة المهملات، من دون أن يُدرك المسكين أني - رغم وعدي بالنظر فيها بنفسي - سأحولها من دون أن أقرأها الى رئيس الحيّ او المدينة، فتجد العريضة المصير نفسه الى سلة المهملات، ولكن من طريق آخر، ثم يتراجع الرجل بعد لقائه معي وعلى وجهه ابتسامة الرضا، ناسياً شكواه او مطلبه، متسامياً عن رغباته الشخصية المحضة الواردة في عريضته لمجرد أنه صافح رئيس الوزراء. أو تحسبه أمراً سهلاً أن أواجه في معرض الكتاب الدولي حشداً مخيفاً من المفكرين والأدباء، يغمزونني باسئلة من نوع اسئلة محمد سيد أحمد المعقدة، ذات الجمل الاعتراضية العديدة، والألفاظ الصعبة التي أسمعها للمرة الاولى في حياتي، والتي يتولى مدير المعرض شرحها لي هامساً بمعناها في أذني؟ صحيح أن المعارضة مستبعدة دائماً من مثل هذه اللقاءات، وان الاسئلة تقدم سلفاً ومكتوبة الى وزير الاعلام الذي يستبعد منها الاسئلة المحرجة او التي يعلم يقيناً اني لن استطيع فهمها أو الرد عليها، فلا يُبقي على غير الخفيف السهل. غير أن هذا الذي ظنه خفيفاً سهلاً ليس دائماً الخفيف السهل. ومن الفضيحة ان أتلجلج في الاجابة وعدسات التلفزيون تحملق في وجهي، فتعرف الملايين من المشاهدين أني لم أفهم السؤال. ولعلمك أنا أرسلتُ مراراً من يرجو محمد سيد أحمد ان يبسط من اسئلته في معرض الكتاب، وأن يتجنب التعابير الصعبة والمصطلحات العويصة، ولكن من دون جدوى. هذا بالاضافة إلى أني رجل درس الزراعة، ولم يكن لي في أي وقت من الأوقات صلة بالأدب والشعر والفلسفة والسفسطة، ولا أعرف من وجوه الأدباء غير وجهين أو ثلاثة، أو من انتاجهم غير عناوين محدودة، فيضطر مدير المعرض كلما قام أحدهم يطلب الكلمة، الى أن يهمس في أذني باسمه، وبعنوان او عنوانين من عناوين كتبه، واضطر أنا عند الاجابة الى التظاهر بالدراية التامة بمؤلفاته وأفكاره، وكأنما لم أفعل شيئاً في حياتي غير دراستها، مع أني لو كنتُ درستها لما تهيأ لي ان اصبح رئيساً للوزراء. قد تسألني الآن: وماذا عن اجتماعات مجلس الوزراء؟ ماذا عن إدارتي لشؤون الدولة؟ حسناً، إن كنت تحسب أن فائض طاقة يتبقى لي بعد كل هذه وغيرها من الشكليات والرسميات، بعد توديع واستقبال رئيس الجمهورية والضيوف الاجانب في المطار عند قدومهم وسفرهم، بعد أداء صلوات العيدين وليلة القدر ونصف شعبان وذكرى المولد النبوي في المساجد. وهي صلوات اعترف لك بأني غالباً ما أفكر اثناءها في أمور دنيوية هي أبعد ما تكون عن المناسبة المحتفل بها، مع حرص شديد في الوقت نفسه وكلما أحسست بكاميرات التلفزيون موجهة صوبي، على أن أرسم على وجهي علائم التقوى والورع والانغماس في العبادة ثم بعد حضور جلسات مجلس الشعب التي تُلقى خلالها الكلمات الطويلة التي لا تنتهي فأغمض خلالها عينيّ متظاهراً بتركيز انتباهي على معانيها، واصنع صُنع وزير الزراعة فأروح في سبات عميق انا في أمسّ الحاجة اليه، بعد أن ادعو الله ألا يصدر مني شخير يظهر في التلفزيون صوته، وبعد إلقاء خطب عن افتتاحي المدارس تتحدّث عن أهمية التعليم في حياة الأمم ونهضتها، وأخرى عند افتتاحي معارض الرسم والنحت والكتب عن ضرورة الثقافة والفنون في حياة الأمم ونهضتها، وعند افتتاحي المصانع عن عظم شأن التصنيع في حياة الأمم ونهضتها، إن كنت تتخيل أنني بعد كل هذا استطيع أن أكرّس وقتاً أو جهداً ذهنياً لإصلاح حال الدولة المائل، ولانقاذ الاقتصاد المصري من كبوته، وإقالة الحياة السياسية عندنا من عثرتها، وعلاج مشكلات الارهاب والتطرف الديني، أو أن أركز ذهني على ما يقوله هذا الوزير أو ذاك في اجتماع لمجلس الوزراء، او ما يقوله ممثل صندوق النقد الدولي خلال ما اعقده معه من محادثات، مع علمي بأنه حتى هذه الاجتماعات والمحادثات ليست إلا مراسم وشكليات، وان القرارات التي تنجم عنها متخذة سلفاً، ومخطط لها من مدة طويلة، وأنه ما عليّ إلا أن أرفع طاقيتي على طرف عصاي، لأعطي سائق القطار اشارة البدء بالتحرك،... إن ظننت كلّ هذا هيناً يا صاح فأنت واهم، وإن حسبت إني اختلف في قليل أو كثر عن المدعو أبو شاكوش الذي حدثتك عنه، فقد وقعت في خطأ جسيم ثم اعود الى داري بعد هذا كله عند منتصف الليل، فأجدني عند نزولي من السيارة منهكاً متعباً خائر القوى أكثر من أي عامل من عمّال المحاجر قضى نهاره بأسره في قطع الحجارة بفأسه، ناهيك عن إحساسي بإفلاس روحي هو مما لن يشعر بمثله عمال المحاجر، وألمح عند باب مسكني أربعين أو خمسين من الحراس المدججين بالمدافع الرشاشة. فلا استطيع حتى أن أرفع ذراعي للردّ على تحيتهم، ثم أدلف إلى المسكن فأحيي زوجتي وابنائي بكلمتين مقتضبتين لا أنبث بهما إلا بشق الأنفس. وأغيّر ملابسي وأدخل الفراش، فإذا أحلامي كلها كوابيس مفزعة، رغم أن كل عناصرها مستقى من أحداث اليوم التافهة البلهاء، كأن أرى نفسي في المنام وأنا أحمل بندقية في نادي الصيد، وبدلاً من أن أصوبها الى الطبق الطائر اصوبها تجاه محمد سيد أحمد الذي ألمحه واقفاً عن بُعد، ثم أُطلق نارها فيخرّ لتوّه صريعاً قبل أن يتمكن من التفوّه بتعليق. * كاتب مصري