إنني اكتب في شروط لا إنسانية، وأُلاَحق، على المودّات، في ظروف لا إنسانية أيضاً، رافضاً، منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، دعوات المراكز الثقافية لالقاء محاضرة هنا، أو اجراء حوار مع الجمهور هناك، أو حتى المشاركة، في وليمة القصيدة أو القصة أو الرواية، دون معرفة السبب الذي يحول بيني وبين تلك المباهج، التي يفرح بها، أو يطرب لها، الأدباء والفنانون عادة، ويرون اليها كواجب تقتضيه المناسبة. في شبابي، عندما كنت حلاقاً في اللاذقية، كانت هذه المناسبات احدى هواياتي، أترك دكان الحلاقة لأجلها، مسرعاً اليها، مهما يكن الدرب بعيداً، والاحتفال متواضعاً، ما دام هناك شعر، وخطابة، وكلام يقال، في أي موضوع من المواضيع! لا ارغب ان يفهم، من كلامي هذا، انني، مع التقدم في العمر، اياسر إلى العزلة، أو اشيح بوجهي عن التمتع بمفاتن الطبيعة، أو الايناس بلقاء الأحبة، أو التواصل مع القراء الأعزاء، فهذا كله بعيد عن شرفي كروائي، عليه ان يعيش البيئة، ومن فيها من اخلاط البشر، ومن المغامرة في الوصول إلى قاع المدن، ورؤية الاشياء، عياناً، وتقليب احجار التجارب، لرؤية ما فوقها وتحتها وعلى جوانبها، وقد قلت، ولا ازال، انني على موعد دائم مع المغامرة، بكل أبعادها، غير أن المشاغل تغتال أفضل نواياي، وتفرض عليّ الانتقال من مكان إلى آخر، كي اجد الوقت اللازم للكتابة. ان الاحباء من أهل الصقيلبية، دعوني مرة، ومرة، فلم أتمكن من تلبية الدعوة، وفي احد الأيام جاءني، بريدياً، مغلف كبير، عجبت له، وازداد عجبي، وخجلي، لأن المغلف كان ينطوي على عريضة، موقعة من كل أهالي الصقيلبية، والمعنى واضح: "إذا كنت لا تأتي بالدعوات، فشرّف وتعال بالعرائض!" ومع هذا لم يكن لدي متّسع من الوقت، لأستجيب إلى العريضة، ويبدو ان اصحاب العريضة من ذوي الصبر الطويل، لأنهم جددوا الدعوة هذا العام أيضاً، وأبلغوني ان اجراس الكنائس ستقرع عند وصولي، وانهم حصلوا على الموافقة اللازمة لالقاء محاضرة "عندما اضعت البحر.. مرة اخرى" أي ذات المحاضرة التي القيتها، بعد خمسين عاماً من الانتظار، في القاعة الكبرى لكنيسة الصليب في دمشق، وحضرها حشد يزيد على ألف مستمع، ظل بعضهم وقوفاً!. شكراً للجميع، واعتذاراً من الجميع، على هذه الحفاوة، التي لا استحقها، لأنها جاءت متأخرة نصف قرن، غير اني، في اليوم التالي ذهبت إلى معلولا، لأسكن فندقها الذي يديره، إدارة جيدة، الصديق عبدو كوكب، ويسهر كل من في الفندق من عاملين على راحتي، وتوفير التفرغ لي كي اكتب، وفعلاً كتبت رواية، خلال شهرين، عنوانها "النار بين أصابع امرأة" ولي مع هذه الرواية حكاية ليس هذا المقال مجالها!. المهم انني، في العام التالي، لم استمع للنصائح، فقد غامرت وذهبت إلى فندق معلولا، الذي صرت معروفاً فيه، ولم استطع الكتابة، لأن الكرام من قرائي تقاطروا عليّ، وفي المقدمة احباء من مشتى الحلو، جاءوا ليأخذوني معهم، فاعتذرت، لكنهم ألحوا في الطلب، فوعدتهم خيراً، ولم أف بوعدي، بل هربت من فندق معلولا، إلى نادي الرماية في السويداء، حيث قامت الصديقة العزيزة سناء، التي اعرفها من سنوات، بالسهر عليّ، والعناية بأمري، عناية كاملة، مثل ايقاظي في الساعة السابعة صباحاً، كي أشرب القهوة، وأفطر، واكتب قبل حلول الظهر، حيث يبدأ الطبل والزمر تحت نافذتي، وتقوم القيامة من حولي!. قال لي الأصدقاء المرموقون في السويداء، ان فصل الخريف هو فصل الاعراس في نادي الرماية، فكل مغترب يجمع بعض المال، يأتي ليتزوج في هذا الفصل، والزواج له تقاليد الأعراس، التي لا تتم إذا لم يكن هناك طبل وزمر ، وعليّ أن اتحمل، ففي كل يوم هناك عرسان، احدهما تحت نافذتي، والآخر تحت الشرفة من الناحية الثانية، ولا مفر من تقبل الواقع، ولا فائدة من التنكر باسم عمر، أو التخفي عن الذين يعرفونني، ويكفي ان اكتب حتى الظهر، وبعده أتفرغ للزوار، وفي الليل هناك المرابع الجميلة، من المغارة إلى الفيصل إلى السوآدا، حيث يغني ابن المرحوم الفنان فهد بلان، نفس أغاني ابيه، وبصوت جميل تحسبه صوت ابيه تماماً، وكان هذا القول صحيحاً، واصغيت إلى الابن وأنا اترحم على والده. في البدء اصررت على التخفي، ذهبت بالشحاطة، مع أصدقاء اعزاء، إلى المغارة، البعيدة نسبياً، والجميلة جمالاً خلاباً، لانها مغارة فعلا، قاعها يزدان بنوافير الماء، واحواض الخضرة والزهر، وجوانبها، وفي استدارة المغارة تماماً، هناك الاضواء الملونة والعرائش الخضر، والزينات بكل أنواعها وأشكالها، والتماع الماء، الذي يقطر، أو هذا ما خيل إلي، قطرات تلتمع بانعكاس الانوار عليها. جلسنا إلى طاولة مرتفعة، في الأرض الترابية، وشرع، مع الموسيقى، رجل نَصَق، يغني تارة ويخطب تارة اخرى، وكان هذا الرجل الفارع القوام، المكتنز البدن، ظريفاً، خفيف الدم، ينشد الشعر العامي بصوت مليح، فيلقي، مثلاً، خطاباً وطنياً، نارياً، وبعده، مع الموسيقى، يغني "عالعصفورية" لصباح، ثم يشوبش باسم فلان أو علان، حسب النقود التي تصله، إلى ان فاجأ الحضور، ونحن منهم، بالقول ان الروائي - أي أنا - الذي هو "فلتة زمانه" موجود معنا، صفقوا، يا اعزائي، تحية له، تصفيقاً قوياً! صفّق الحاضرون من كل جوانب المغارة، وهجم عليّ جمهور غفير، من الشباب والشابات، والرجال والنساء، وجرّوني، وهم يقبلونني، من المرتفع الترابي، إلى المنحدر الترابي، وأنا مرتبك لأنهم اكتشفوني، وخائف على الشحاطة ان تضيع من قدميّ، وأنا أستمع إلى الرجل الظريف، وهو يغني، في المكرفون، بصوت جهوري، أغنية وديع الصافي: "عندك بحرية ياريس" والكل يردد معه. شوبشت، كغيري، بألف ليرة سورية، فأمسك بها، رفعها بيسراه، وأمطرني بخطاب، والمكرفون بيمناه، من "العيار الثقيل" فيه هذه القفلة: "يا جامع الشمل تجمعني بهم ليلاه"، ثم جاء إليّ فقبلني، وشرب جرعة طيبة من الكحول، وعاد ليواصل الخطابة والشوبشة، وكلما نشف ريقه، جاء وشرب جرعة اخرى طيبة. هكذا انكشف امري، وبحث بعض الشباب، عن فردة الشحاطة بين التراب، واعادوها إليّ، وعدت إلى غرفتي، في نادي الرماية، في الثالثة صباحاً، وفي الساعة السابعة رن جرس الهاتف، وجاءت سناء إلي بالقهوة والفطور، وقالت بصوت آمر: اكتب قبل ان يبدأ الطبل والزمر!" لم استطع الكتابة، حاولت مع قلّة نومي، ان أنام، ففشلت، وحين بدأ الطبل والزمر تحت نافذتي، اصغيت دون تأفف، ثم لبست ثيابي ونزلت إلى العرس، دون معرفة عرس مَن يكون، وشوبشت بألف ليرة، ثم بألف للطبال والزمار، وقلت: "رقصني عالوحدة ونص!" وأصحاب العرس يتساءلون، وأنا ارقص: "مَن هذا؟ ومن أين جاء؟ وما هي رقصة الوحدة ونص؟ فلما علموا بي، تعالى التصفيق، ودوّى الطبل، واشتد الزمر، وقلت في نفسي: "إلى جهنم بالكتابة والكتب، فأنا منذ خمسين عاماً، لم اسمع طبلاً وزمراً، ولم ارقص رقصتي المفضلة، "عالوحدة ونص!" ولم آكل من طبيخ العرس، وأضحى التخفّي ضرباً من الجنون!. في الساعة الثانية جاء شادي، سائق التكسي الذي يعمل معي إلى منتصف الليل، وقال وهو يضحك: @ ماذا فعلت؟ - رقصت! @ هل تتغدى؟ - أكلت من طبيخ العرس! @ وهل تعرف عرس مَن هذا؟ - لا! وقالت سناء التي جاءت مسرعة: @ رأيتك وانت ترقص، عجوز ويرقص هذا الرقص.. فكيف كنت ترقص اذن وانت شاب؟ - في شبابي، يا سناء العزيزة، لم أكن ارقص، كنت اشتغل في السياسة! @ وماذا نابك من السياسة؟ - السجن وأشياء اخرى! @ انت مجنون! - هذا صحيح.. ولي قول معروف: ولدت كريماً وزكرتاً، وسأموت كريماً وزكرتاً، هيا.. ضبّي اغراضي في الحقيبة.. فأنا عائد إلى دمشق! @ بهذه السرعة؟ أنا لا أفهمك!. - ومن الصعب أن تفهميني، يا سنائي الرائعة!