مدينة فيتربو - الأربعاء 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2005: بعد ظهر هذا اليوم أخذنا السيارة خارج المدينة... زرنا حديقة بومارثو التي تقع على بعد كيلومترات من فيتربو. حديقة شاسعة ملك إقطاعي تعود إلى عصر النهضة زرعها كلها بتماثيل تروي طرفاً من الأساطير اليونانية والرومانية... آلهة وحيوانات أسطورية. تنين القديس جرجس وثمة فيل كبير لعله فيل هنيبعل الذي حمله من قرطاجة إلى روما عبر مضيق أعمدة هرقل جبل طارق اليوم... عرائس أو حوريات الميثولوجيا الرومانية... معابد وكتابات قديمة على الحجر بيد أني أحسست وأنا وسط هذا الحقل الأخضر الذي تتخلله الجداول والينابيع والمياه المتساقطة في شلالات صغيرة و كأني في آسيا لا أدري لماذا استعدت اليابان وحدائقها الحجرية الألفية لعل طبيعة الحجارة شبه الغرانيطية هي التي أوحت بذلك ووفرة الأشجار والخضرة والمياه والصمت الذي يلف هذا المكان وأيضاً دينامية المشهد بسطوحه المرتفعة والمنخفضة. إيطاليا- مدينة فيتربو - الخميس 13 أكتوبر 2005: ها أنا أعود هنا إلى كتابة هذه اليوميات التي كثيراً ما أتجنبها لأن في كتابة اليوميات العود إلى الذات إلى قراءة الداخل وسبر الأعماق عبر تأمل تفاصيل الحياة اليومية. إنه العمل الذي لا ينتهي لأن الداخل سحيق ولاعقلاني ولا نهائي ولأنه في الحقيقة مخيف أما الواقع فهو ليس سوى احتمال لأن الواقع هو رؤيتنا للواقع. هنا في هدوء فيتربو في بيت أنجيليكا عدت لكتابة هذه اليوميات التي ظللت أدونها منذ السادسة عشرة كشكل تنفس كوسيلة للتفريغ من دون طبعاً أن أعي حينها ذلك. لم اكن سمعت بالكاترسيس الأفلاطوني ولا بالاعتراف الفرويدي. وأنجيليكا شاعرة وصديقة رقيقة ومتفانية... احياناً تتمثل لي صورتها كائناً خفيفاً كملاك... فيها شيء من مزاج راهبات القرون الوسطى فللشعوب هي الأخرى ميراثها النفسي. نحن نرث أيضًا شيئاً من أمزجة آبائنا كما أن هناك هوية نفسية للثقافات تطبع المنتمين إليها... أتذكر القديسة أفيلا وجهامة مسيحية القرون الوسطى وذاك العذاب الذي مني به كيركغارد نفسه ولكن أنجيليكا ذات الجينز الممزق من الركب ليست القديسة أفيلا ولا هي تعيش مكابداتها ولا آلام كيركغارد ليس لديها ذاك الحب المازوشي المعذب الذي افتقده الغرب اليوم. كان سورين كيركغارد آخر المكابدين لذاك الحب المازوشي والمعبرين عنه ولكن ورغم البنطلون الجينز المثقوب الذي يشدها للموضة تحس بخلفيتها الكاثوليكية. تلمس ذلك في عنايتها وتطوعها للخدمة. في نبرة صوتها ذاك الازدواج والتمزق الخفي بين كاثوليكيتها والجينز الموديرن. في الليل عندما تخلو إلى مشاغلها أجلس في الشرفة وحيدًا أتأمل خفق ضوء النجوم قطرات الماء الأزرق الفاتح أحب الليل... الليل بظلمته الكثيفة التي تكاد تلمس باليد الليل الذي اختفى من عالمنا اليوم... بيد أني كنت في الحقيقة أغوص عبر الظلمة وأسرارها في أعماقي باحثاً عن ذاك الخيط الذهبي الذي بدأت أضيعه في السنين الأخيرة. الخيط الذي يقودنا داخل متاهة وجودنا ليس بالشكل الكامل فذاك مستحيل بل عقيم ولكن يمنحنا الإحساس العميق بأن وجودنا شيء حقيقي ندركه حدساً ولا نحيط به لأننا في الأخير نسبح داخل أقيانوس المجهول داخل أقيانوس الليل. ... في صباح اليوم الأول أخذتني أنجيليكا لزيارة المدينة زيارة أحيائها القديمة المبلطة بالحجارة اللاتينية الصفراء... الحجارة الشعرية حجارة دانتي وبيترارك تلك الصروح اللاتينية التي عبرت عن الروح الغربي روح حضارة الرومان... طافت بي في تلك الأزقة الضيقة التي ذكرتني باليونان بالبيوت الملونة وأصص الزهر في أبواب البيوت وسيارة الفيات البيضاء موديل 8 صنعها الإيطاليون ليجولوا بها في هذه الأزقة الضيقة المتعرجة في المدن القديمة... كان يومها أحد أعياد المدينة وجاءت الخيول إلى الساحة خيول توسكانيا السوداء الضخمة لم تعد في خدمة الإنسان كما ظلت آلاف السنين جاؤوا بها من مرابضها كانت الخيول تبدو متعبة من شدّة خمولها كانت تبدو كأنما تسير نائمة والرجال الذين يمسكون بأعنّتها ليس لديهم أي سمت أو ملمح فروسي سوى الجزم الجلدية والقبعات السوداء على رؤوسهم. *** مضت الأيام الأولى في قراءات في كتاب هنري ميللر les livres de ma vie، «كتب حياتي» الذي ويا للمفارقة الجميلة والخصبة ينصح القارئ بأن يقرأ أقل ما يمكن قراءته وليس كل ما أمكن قراءته لأن الدخول في القراءة لدى ميللر الرمبوي مثل الدخول في الحياة شيء مرعب ورائع في الآن وهذا لا يتم في كل الأوقات. الدخول في القراءة لا بد من أن يكون بمحبة بشغف أن يتوله الإنسان بالكتاب وكأنه هو بصدد كتابته لأن القراءة الحقيقية هي إعادة خلق وفيها تلك الحمى الجميلة التي تلازم العملية الإبداعية ليس حشوًا للدماغ بأي شيء... لأن أغلب الناس قراء سلبيون لا يشاركون في إعادة خلق النص. «كتب حياتي» وكتاب «في الثناء على ما يبقى» كتابان ظلا لشهور على الطاولة وضعتهما على عجل في حقيبة السفر وأنا أغادر تونس في حالة من الارهاق الكبير... «في الثناء على ما يبقى» نصوص مزيج من السيرة الذاتية الروحية والتحليل الذاتي وهو أصعب عمل يقوم به الإنسان لأنك لا تستطيع ان تكون الذات والموضوع في آن أو كما يقول هنري برغسون أنت لا تستطيع أن تكون واقفًا في النافذة وترى في الآن نفسك وأنت تعبر الشارع. فصول الكتاب شهادات تروي تجارب مجموعة من الكتاب الأميركيين مع النصوص التي عرفوها مبكراً وكان لها فعل في وجودهم وكتاباتهم وشكلت لديهم طقس تحوّل طقس عبور إذا ما استعرنا لغة الإنثربولوجيا وكانت في آن حاجزاً نفسياً قوياً يمنعهم من اكتشاف أصواتهم الحقيقية. هي معركة يخوضها الكاتب شبيهة بذاك الصراع الذي يخوضه الإنسان ضد الأب في الأدبيات الفرويدية... مكابدات الإنسان تلك بين تثبيت الأب وإعدامه رمزياً بطبيعة الحال رمزيًا... إنه الحاجز الذي يشكل دراما حياة الناس وأغلبهم على غير وعي بهذا الصراع والذي تترتب عن غيابه أشياء خطيرة في وجودنا. غياب هذا الصراع في أساس هذه الطفولة الفكرية التي تستمر لدى الإنسان في مراحل عمره اللاحقة وتلك النرجسية المقيتة المستشرية لدى كثير من المثقفين وذاك الإحساس الكاذب بالعظمة المتلازم مع الحذر من الآخرين وربما هذا ما يفسر بعضاً من الصراعات التي لا تنتهي في أوساط المثقفين... بل عرفت مثقفين عربًا يعيشون ما قبل هذا الصراع مثقفين مستمرين في التماهي الطفولي مع صورة الأب. الأب شاعر شعبي والابن شاعر شعبي. الأم كاتبة قصة والبنت كاتبة قصة... قالت لي جوزيان بعد عودتي من غزّة ما زالوا مثبتين في مرحلة Idéalisation du père رفع الأب إلى مقام المثال الأعلى. ولا أتحدث عن علاقاتهم بأمهاتهم اللواتي يتماثلن في وعيهم بالإنسان الكامل المبرأ من الشروط الإنسانية أمهاتهم اللواتي لا مثيل لهن. الأم هي أيضًا الجرح وهو إذا ما أراد ان يؤذي رجلاً آخر شتم أمه لأنه يدري حدساً أنها الجرح الحقيقي. وهذه العلاقة المرضية مع الأم هي التي تمنع كثيرًا من الذكور العرب من الدخول في علاقة سليمة مع المرأة... تذكرت عبد الكبير الخطيبي الذي كتب في هذا السياق أن الذكر العربي كثيرًا ما يكون معاقاً غرامياً وعاجزاً عن بناء علاقة خارج علاقته الأمومية. وحتى عندما يتزوج يقوم بعملية تحويل سرية نحو الزوجة التي تحل محل الأم وأنت كثيراً ما تسمع رجالاً ينادون زوجاتهم مامي بمعنى أمي سمعت هذا في تونس وفي مصر وفي البروفانس الفرنسية... كان محمود المسعدي أول إنسان اسمعه ينادي زوجته في البيت مامي... ميلانو- الخميس 20 أكتوبر 2005: قضيت مساء البارحة مع الشاعرة الإيطالية دونا... ذهبنا إلى بيت صديقتها اليهودية الإيطالية من أصل نمسوي... امرأة مختصة بدانتي أليغيري... لها صالون أدبي يعقد اسبوعياً لقراءة مقاطع من «الكوميديا الإلهية». كانت جلسة البارحة مخصصة لقراءة ومناقشة فصل من «المطهر» ... كنّ جمعاً من النساء المشتغلات بالثقافة. بعد القراءة اجتمعنا حول طاولة العشاء في ثرثرة حرة مفتوحة هي في رأيي أهم من الحوارات المنتظمة. قرأت قصائد بالعربية وقرأت دونا ترجمة إيطالية كانت قد وضعتها قبل سنوات. أحببت هذا المجمع هذا الصالون الذي هو في رأيي تنويع على الأكاديميا اليونانية القديمة من أجمل الأشياء في الغرب. أناس يجتمعون في الليل ليطرحوا أسئلتهم. إنها صورة وتعبير عن ذاك القلق الإنساني الأساسي على رغم سطوة ثقافة التلفزيون اليوم. ثمة دائماً أقلية تستضيء بنور الله... لقد عرفت الإنسانية هذه الحلقات... لعل إخوان الصفاء أقوى وأجمل وآخر صورة لهذه الحلقات. أيضاً لا بد من ذكر الجماعات القديمة مثل جماعة فيثاغورس التي هربت إلى هنا الى إيطاليا... تذكرت أيضا القديس اغسطينوس الذي جاء إلى ميلانو وهنا أخذ العلم عن القديس أمبرواز هنا وقع له التحول الكبير من المانوية إلى المسيحية فكانت الكاثوليكية التي ابتعثها والتي زجّت اوروبا الرومانية الإغريقية في خضم العصور الوسطى. لقد بدأت العصور الوسطى مع استتباب الأمر للكثلكة في أوروبا الغربية. قلت لدونا كانت هناك صالونات نسائية في الشرق العربي صالون الأميرة نازلي وصالون مي زيادة... نازلي فاضل التي كان لها أيضًا صالون في تونس أوائل القرن العشرين عندما تزوجت بالوزير التونسي خليل بوحاجب.