لم تغب قضية سعر البترول عن المسرح السياسي والاقتصادي العالمي منذ استقلال صناعة البترول في الشرق الأوسط في العقد السادس من القرن العشرين عن سيطرة الشركات البترولية الغربية ومن ورائها حكوماتها وانتقال القرار المتعلق بالانتاج والسعر الى الحكومات المالكة للثروة النفطية. أنشأت الدول المالكة للنفط عام 1960 منظمة أسمتها منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك لتنسيق سياساتها النفطية تجاه الشركات البترولية التي اتخذت موقفاً عدائياً ومضاداً لقيام مثل هذا التنظيم. وقد نجحت المنظمة في اثبات وجودها واختراق تجمع الشركات ضدها في مناسبات عديدة، أهمها ما حدث بين ليببا وشركات البترول من صدامات خرجت منها ليبيا منتصرة1970. واتفاقية طهران التي اضطرت فيها الشركات للاذعان لمطالب ايران ومن ورائها دول أوبك 1971، ومن بعدها توالت انتصارات أوبك على شركات البترول العالمية التي أخذت وحدتها تتفكك وسيطرتها على الأسعار والانتاج تتراجع. وفي عام 1973م أصبحت سيادة أوبك على سوق البترول سعراً وانتاجاً بدون منازع. والدول الغربية الصناعية، بعد أن فقدت شركاتها البترولية العالمية سيطرتها على انتاج النفط وتسعيره لصالح الدول المالكة للنفط، أصابها خوف وعدم اطمئنان الى استمرار تدفق النفط اليها دون انقطاع، والى بقاء سعره متدنياً، كما كان الحال وهي تنعم به لأكثر من ربع قرن. لذا بدأت هذه الدول تحركاً سياسياً قوياً عام 1973 بزعامة الولاياتالمتحدة الأميركية وقيادة وزير خارجيتها هنري كيسنجر لانشاء منظمة التعاون في مجال الطاقة بين الدول الصناعية الغربية المستهلكة للنفط، وبالفعل، سرعان ما تم التوقيع على اتفاقية انشاء وكالة الطاقة الدولية في شهر تشرين الثاني نوفمبر من عام 1974 في العاصمة الأميركية، واشنطن، واتخذت هذه الوكالة العاصمة الفرنسية باريس مقراً لها. وهكذا انطلق الصراع بين منظمتين عالميتين، الأولى خاصة بالمنتجين الكبار أوبك، والأخرى خاصة بالمستهلكين الغربيين الكبار وكالة الطاقة الدولية، ومنذ ذلك الحين والصراع قائم بين المجموعتين مسرحه سوق النفط العالمي وهدفه التأثير في العرض والطلب والسعر كل حسب قدراته وكل حسب سياساته واستراتيجياته. اذن سعر البترول، هذا الرقم المهم لمستهلكي النفط الكبار، وجلهم من دول الغرب الصناعي، ولمنتجي النفط الكبار وجلهم من منطقة الخليج العربي، لم يغب عن المسرح الاقتصادي والسياسي الدولي طوال الأربعين عاماً الماضية، يطل حينا ويهدأ حيناً آخر، ليعاود الاطلالة مرة أخرى. هذا السعر يحدد مستواه تفاعل قوتين: العرض والطلب، أو ما يسمى في الأدبيات الاقتصادية بقوى السوق، في جانب العرض يقف منتجون عدة أكثرهم قوة وانتاجاً، المنتجون من الخليج العربي، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية التي تملك أكبر احتياطي من خام البترول وأكبر طاقة انتاجية للتصدير، أما في جانب الطلب فيقف مستهلكون عدة أكثرهم قوة واستهلاكاً دول الغرب الصناعي، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، أكبر المستهلكين في العالم. النفط سلعة متوفرة اليوم، ولكنها غير قابلة للانتاج غداً أو بعد غداً أو بعد ألف عام، انها سلعة ناضبة غير قابلة لاعادة الانتاج، النفط للغرب الصناعي المستهلك سلعة استراتيجية مهمة للاستخدامات الاقتصادية والصناعية والعسكرية، والنفط لدول الأوبك المنتجة شريان الحياة الأكبر والمصدر الأساسي للتمويل. والنفط سلعة يستهلك معظم انتاجها قلة من الدول، وينتج معظم صادراتها قلة أخرى من الدول. سلعة هذه صفاتها وهذا حال منتجيها وحال مستهلكيها، لا يمكن في العرف الاقتصادي قبل السياسي أن تكون سلعة يترك انتاجها واستهلاكها لقوى السوق الحرة من دون تدخل أو توجيه من الدول المستهلكة والمنتجة التي تعتمد حياتها الاقتصادية والأمنية على هذه السلعة اعتماداً كبيراً. قوى السوق الحرة حسب القاموس الاقتصادي يجب أن تكون ذات طبيعة خفية أي بعيدة عن التدخل الحكومي أو غير الحكومي في الانتاج أو الاستهلاك، ولذلك سميت اليد التي تدير السوق في وصفه الحر باليد الخفية في المنطق الانكليزي. فهي يد لا تتبع لأحد ولا يوجهها أحد لأنها خفية عن الكل وعلى الكل وحرة تفعل ما تشاء، وفي الفكر الفرنسي تلخصها عبارة "دعه يفعل دعه يمر" تعبيراً عن الحرية التي تسود هذا السوق. فالكل يفعل والكل يمر من دون تدخل أو اعاقة. هل يقبل الغرب المستهلك للنفط، أن يترك هذه السلعة ذات البعد والعمق الاستراتيجي الاقتصادي و العسكري تدار بيد خفية عنه دونما اشراف عليها وتوجيه لمسارها العام؟ وهل تقبل دول "أوبك" الكبرى المنتجة للنفط، أن تكون سلعة هي المصدر الأساسي لحياة مواطنيها الاقتصادية، تدار بيد خفية لا تراها ولا تعلم الشيء الكثير عنها وعن حركتها؟ كما بدا واضحاً من ارتفاع الأسعار في عام 1973م، وجد الغرب الحكومي أن أداته الرئيسية للسيطرة على سوق البترول العالمي سعراً وإنتاجاً، أي شركاته البترولية العالمية، قد فقدت قدرتها على الأداء. عندها تخلى الغرب الصناعي عن دوره المستتر وراء الشركات العالمية، وكأني بلسان حاله يقول: "ما حك جلدك مثل ظفرك فتولّ أنت جميع أمرك". فشرع يبني ويؤسس لدور جديد بتنظيم جديد، ومؤسسات جديدة أتيتُ على ذكرها في مقالات سابقة. وأوجز هنا أهم مقومات هذا الدور الجديد وقواعده الأساسية: 1 اعتماد التأثير المباشر وغير المباشر في العرض والطلب لخام النفط كأداة لإدارة السوق، بدلاً من الاعتماد على شركات نفطه العالمية. 2 تخفيض الطلب على نفط الأوبك بشكل عام والعربي بشكل خاص من خلال التأثير على حجم الطلب بوضع الحواجز الجمركية والحواجز الكمية على استيراد النفط، وفرض الضرائب على استهلاك النفط ومشتقاته، ودعم القوانين والإجراءت الاقتصادية أو البيئية المؤدية إلى الحد من استخدام النفط. 3 زيادة إنتاج النفط الخام خارج دول الأوبك بشكل عام والدول العربية بشكل خاص وذلك بدعم وزيادة الاستثمار في مجال البحث عن النفط في الدول الغربية وخارجها. 4 دعم وزيادة البحوث في مجال تطوير واستخدام البدائل التي يمكن أن تحل محل استخدام النفط كمصدر رئيسي للطاقة. 5 إنشاء وكالة دولية للطاقة تضم الدول الغربية الصناعية فقط من أجل رسم السياسات والاستراتيجيات الهادفة إلى الحد من استهلاك النفط، وإلى زيادة إنتاجه داخل دولهم وفي العالم خارج الأوبك، والإشراف على تنفيذ وتطبيق هذه السياسات من خلال اتفاقات وضوابط مبرمة بين الأعضاء يجري مراجعتها مرحلياً. ويشمل مجال التعاون بين هذه الدول الأمور السياسية والمالية والبحثية والإحصائية والفنية والإجرائية التي تتعلق بدعم ومؤازرة تنفيذ السياسات والبرامج المتفق عليها. كما تهدف الوكالة أيضاً إلى دعم التقنية والبحوث الهادفة إلى تطوير البدائل التي يمكن أن تحل محل النفط كمصدر رئيسي للطاقة. 6 بناء مخزون استراتيجي وتجاري من النفط، لتأمين الإمدادات والحد من ارتفاع أسعاره، وذلك بإنزال كميات من المخزون إلى السوق عند الضرورة. 7 توجيه السياسات الاقتصادية والمالية للمنظمات المعنية بالشئون الاقتصادية والمالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية للاستثمار في مجال البحث عن مصادر جديدة للنفط في دول العالم الثالث بهدف تقليل الاعتماد على النفط المستورد من الأوبك. دول الغرب الصناعي وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي تعلم علم اليقين أن دورها الحاضر في السوق النفطي العالمي الذي تمارسه من خلال سياساتها الحكومية الدولية، ومؤسساتها المقامة لخدمة هذا الدور، لا تنسجم أو تتواءم مع مبادئ السوق الاقتصادي بمفهومه الحر. ودول الأوبك هي الأخرى تعلم علم اليقين أن عملياتها في إدارة وتوجيه الإنتاج والسعر لا تتمشى مع مبادئ السوق الاقتصادي الحر. حقيقة الأمر إذن هي أنه لا وجود لسوق اقتصادي حر للنفط الخام، بل إن إنتاج النفط العرض واستهلاكه الطلب يخضع لسلسلة من التدخلات والتأثيرات المباشرة وغير المباشرة من قبل المنتجين والمستهلكين، فرادى وجماعات، من أجل تعظيم مصالحهم وفوائدهم، كل حسب إمكاناته وقدراته. مما تقدم نخلص الى نتيجتين هامتين : اولا : ان الخطاب الذي يطرحه الغرب الصناعي ، ومن معه من الاقتصاديين والسياسيين ، والقائل بأن سعر البترول تحدده قوى السوق الحره ، ان هو الا خطاب سياسي بحت ، لا تدعمه النظريه الاقتصاديه ولا الواقع . خطاب قصد به أولاً عدم اظهار الغرب ، الحامل لراية تحرير الاقتصاد والتجاره الدوليه من تدخل الحكومات ، كأن افعاله تناقض اقواله . وثانيا ً، وهذا هو الاهم ، الايحاء الى السياسين واصحاب القرار في الدول المنتجه والمصدره للنفط بان يتركوا الامر لقوى السوق وان يريحوا بالهم من العناء والجهد المطلوبين لوضع السياسات والاستراتيجيات اللازمه لتعظيم الايرادات الوطنيه من هذه الثروة الناضبه، فهذا امر يرى الغرب انه من اختصاص السوق والافضل للدول ان لا تتدخل في اقتصاد السوق الحر. ثانيا : ان تحقيق الاستقرار في امدادات النفط وفي اسعاره، لن يتم من خلال ترك الامور الى قوى السوق الحره، لسبب بسيط وهو انه ليس هناك ثمة سوق حر لهذه السلعه.وانما هناك سوق موجه من قبل المنتجين ومن قبل المستهلكين . الاستقرار في الاسعار والامدادات لن يتم الا باتفاق بين الطرفين المتدخلين في السوق يهدف الى تنسيق سياساتهما التدخليه في جانبي العرض والطلب من اجل تحقيق تواؤم بين هذه السياسات يؤدي الى تحقيق الاستقرار في الامدادات وفي السعر لخدمة مصالح الطرفين. بدون وجود حد ادنى من التنسيق في السياسات بين المنتجين والمستهلكين فان التدخل في السوق الذي يمارسه كل طرف على انفراد وبمعزل عن الطرف الاخر. ينجنم عنه تضاد وتعارض في السياسات النفطيه الامر الذي يحدث اضطرابا في حركة السوق يؤدي الى تذبذب حاد في السعر. السؤال إذن، كيف يمكن لهاتين القوتين ، المنتجه و المستهلكه المعنيتين بحركة السوق و اتجاهاته ، ان تتفقا على تنظيم سياساتهما الهادفه الى التدخل في السوق وتوجيهه . ولكل منهما مصالح تختلف عن مصالح الطرف الاخر؟ يمكن القول ان مصالح كل طرف هي على حساب الطرف الاخر، اي ان مصالح الطرفين متعارضه وليست متجانسه . اقول ان اختلاف المصالح، لا يلغي امكان الاتفاق "ولا يفسد للود قضية"، بل ان اختلاف المصالح هوالاساس الداعي الى البحث عن اتفاق يقلل الضرر الذي يمكن ان يصيب طرفا بفعل الطرف الاخر . فتخفيض التكاليف Cost Minimization هو الوجه الاخر لتعظيم الفوائد . وكما ان اتفاق المصالح يكون سبباً للبحث عن اتفاق يؤدي الى تعظيم المصالح ، فان اختلاف المصالح يكون هو الاخر سببا لبحث عن اتفاق يؤدي الى التقليل من الاضرار ، اي تعظيم المصالح ، هذا من حيث الاساس المنطقي الداعي الى وجود اتفاق . لكن المنطق لم يكن لوحده سبباً كافياً، وهنا لا بد من البحث عن الشرط الثاني في هذه المعادلة. والشرط هنا هو قناعة كل من الطرفين الماديه العمليه وليست المنطقيه فقط ، بان الطرف الاخر قادر على الحاق اضرار بمصالحه قد تبلغ في تكرارها حجماً يلغي جزءاً كبيراً من المصالح التي يحققها الطرف الاول وهو يعمل منفردا وفي حالة تضاد مع الطرف الاخر . ان اكتمال الشرطين ، المنطقي والمادي يمهد الطريق امام الاتفاق بين طرفين . يبدأ السير فيه اذا توفر العمل الدبلوماسي الجيد لدفع الطرفين اليه . في فترة قصيرة امتدت من كانون الاول ديسمبر 1998م إلى ديسمبر 1999م هز سوق النفط العالمي حدثان سعريان كبيران، الأول في ديسمبر 1998م عندما هبطت أسعار النفط إلى 8 دولارات للبرميل الواحد والثاني في ديسمبر 1999م عندما وصلت أسعار النفط إلى ثلاثين دولاراً للبرميل الواحد. الحدث الأول، الذي انخفضت فيه الأسعار إلى حدود دنيا في ديسمبر 1998، كان مثالاً واضحاً على قدرة الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للنفط، على الإسهام بشكل مباشر وغير مباشر في تخفيض أسعار النفط، إلى حدود متدنية جداً، وإلحاق الضرر المالي والاقتصادي باقتصاديات الدول المنتجة للنفط، والمعتمدة اعتماداً رئيسياً على الإيرادات النفطية للصرف على ميزانياتها وخططها الاقتصادية. الحدث الثاني الذي ارتفعت فيه أسعار النفط إلى حدود عليا في ديسمبر 1999، كان هو الآخر مثالاً واضحاً على قدرة الأوبك من خلال تنفيذ برنامج لتخفيض الإنتاج على دفع الأسعار إلى مستويات عالية. الغرب الصناعي في ديسمبر عام 1998م، عندما انخفضت أسعار البترول وألحقت أضراراًَ مالية بالغة باقتصاديات دول الأوبك، لم يعنه في الأمر شيء، بل على العكس من ذلك كان سعيداً بنمو اقتصادياته الكبيرة المستفيدة من انخفاض أسعار النفط. لكن الغرب عندما انخفضت أسعار البترول إلى ثماني دولارات وأقل للبرميل طالب برفع الأسعار، ليس حباً ورأفة باقتصاديات الأوبك التي عانت من هذا الانخفاض، بل رأفة وإنقاذاً لصناعته النفطية الوطنية التي لا تستطيع العيش والبقاء إلا في ظل الأسعار المرتفعة. الغرب بالتأكيد لا يريد ارتفاع الأسعار إلى الحدود التي ترغبها الأوبك، ولكن فقط إلى الحدود التي تنقذ صناعته الوطنية النفطية ولا تفسد عليه سياساته النفطية في مجال الحد من استهلاك النفط. والغرب الصناعي ومنذ وصول أسعار النفط في ديسمبر 1999 الى مستوياتها العليا، وهو يمارس ضغوطاً سياسية على دول الأوبك ويطالبها بزيادة الانتاج لتخفيض الأسعار ويهددها باستخدام مخزونه الاستراتيجي لدفع ملايين البراميل من النفط المخزون الى السوق لخفض الأسعار، ان هي لم تستجب. وأخيراً هددت الولاياتالمتحدة بوقف مبيعاتها من الأسلحة لدول أوبك والمعني هنا دول الخليج العربي ان هي لم تقم بزيادة الانتاج منا تريده أميركا، وصدر قرار بذلك من الكونغرس الأميركي. فهل تستجيب الأوبك وقياداتها السياسية للضغوط التي يمارسها الغرب اليوم من أجل زيادة الانتاج وخفض الأسعار؟ سؤال يبدو أن الاجابة عليه ليست بتلك الصعوبة. فالبوادر الأولى لاجتماع 27 مارس بفينا تشير الى أن هناك انقساماً واضحاً في الرأي بين دول الأوبك، ما بين مؤيد لزيادة الانتاج، ومعارض لها. والانشقاق في صف أوبك في حد ذاته انتصار للغرب لأنه يبطل مفعول قرارات الأوبك وبرامجها، ويحرمها من القدرة على الفعل أو رد الفعل، ويلغي من الذاكرة نجاحها المؤقت، ويعيد الأوبك الى ماضيها الموسوم بالاختلاف وانعدام الفاعلية. ان موضوع الاستجابة أو عدمها لطلب الغرب الصناعي زيادة الانتاج من أجل خفض الأسعار ليس هو المهم، ولكن المهم، هو السؤال المتعلق بمصير الأسعار بعد زيادة الانتاج، أي الى أي حد ستنخفض الأسعار؟ الى 25 دولار للبرميل أو الى 20 أو 15، أو 10 أو الى أين؟ بمعنى آخر إن السؤال المهم الذي يجب على القيادات السياسية في دول الأوبك، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية طرحه الآن وبشكل متلازم مع اجابتها على طلب الغرب والولاياتالمتحدة الأميركية زيادة الانتاج هو: وماذا عن استقرار الأسعار بعد زيادة الانتاج؟ الغرب الصناعي، والولاياتالمتحدة الأميركية في مقدمته وحاملة رايته، يسقط سؤال الاستقرار ويقدم سؤال التخفيض لأن سؤال استقرار أسعار النفط يحيله الى القضايا الجوهرية المؤثرة على العرض والطلب، والمسببة للاضطرابات السعرية في السوق بين الحين والآخر. سؤال الاستقرار يطرح قضايا التعاون والتنسيق والاتفاق بين المنتجين والمستهلكين الكبار للنفط لمنع تصادم السياسات الاقتصادية النفطية لكل الكتلتين. هذا التصادم والتضاد، هو السبب الأساسي لحالة الاضطراب في السوق وانعدام الرؤية طويلة الأجل، وهذه جميعها من المسببات الرئيسية لحالة عدم الاستقرار التي تعاني منه اسعار النفط صعوداً وهبوطاً. الغرب الصناعي، والولاياتالمتحدة في مقدمته، لايريد أن يطرح في حديثه مع دول الأوبك الكبرى الأمور الجوهرية والأساسية المتعلقة باستقرار أسعار النفط لسببين رئيسيين: أولاً: بسبب نظرته العليائية لذاته، المبنية على استشعاره لقدراته وعلى تملسك دوله وتعاونها، وقوة تنظيمه وبسبب نظرته الدونية للأوبك المبنية على استشعاره بتفككها وضعفها وقلة كفاءتها، تأسيساً على شرطنا المنطقي والمادي، الذي سبق ايضاحه، لخلق أرضية للحوار الجاد. فالغرب غير مقتنع بالشرط المادي للحوار، أو غير مقتنع بقدرة الأوبك على الأضرار بمصالحه في الأمد الطويل بشكل يجعل الارتباط مع الأوبك بمعاهدة صداقة وتعاون أمر ضروري ومفيد له. لذلك فهو لا يهتم الا بالحال الآني للقضية. المستقبل لا يعنيه في علاقته مع الأوبك لأنه يرى أن أوراق المستقبل في يديه. أنه معني فقط بتعديل الحدث في ظرفه الآني وغير معني بأسبابه ومستقبله. ثانياً: الغرب المعتمد على دوره الأحادي في ادارة العلاقات السياسية الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي المدعوم بقوته العسكرية والاقتصادية، يرى أنه قادر على ادارة الأزمات النفطية، من خلال ضغوطه السياسية على كبار المنتجين، لذا فهو غير معني في مفاوضات تتعلق بالقواعد والأسس الجوهرية لاستقرار أسعار النفط وامداداته المستقبلية. فهذا الطريق ربما يفضي الى اتفاق قد يكلف الغرب أكثر مما يكلفه أسلوب الضغط السياسي في حل قضاياه النفطية مع الأوبك في الوقت الذي تطرأ فيه وفي معزل عن أسبابها الرئيسية. وكما سبق لي القول في مناسبات عدة، فإن الأوبك قد تعداها الزمن بمراحل دون أن تطور نفسها لتجاري العصر ومتغيراته الاقتصادية والسياسية والتنظيمية والإجرائية، فأصبحت في نظر الآخر، أي الغرب الصناعي، وكأنها خارج التاريخ. لا شك أن انضباط الأوبك في تطبيق برنامجها لتخفيض الإنتاج خلال عام 1999م الذي أثمر في رفع الأسعار إلى مستوياتها الحالية أعادها إلى مسرح الحدث والقرار. لكن الأمر في اعتقادي طارئ وله ظروفه ولا نستطيع اعتباره دليلاً على قدرة الأوبك المستقبلية على التعامل بفعالية وكفاءة مع قضية استقرار أسعار النفط التي يمسك الغرب الصناعي بطرفها الآخر ويحجم عن التعامل مع مسبباتها الجوهرية. لقد نجحت أوبك في انتزاع قرار الإنتاج والسعر من يد الشركات البترولية العالمية في نهاية عقد الستينات من القرن العشرين، وتسليمه للحكومات الوطنية المالكة للثروة النفطية، ولكنها فشلت في التطور ومجاراة المتغيرات الاقتصادية والسياسية فأصبحت اليوم خارج التاريخ أو عند بابه. لقد دعوت في مقالات سابقة إلى ولادة أوبك ثانية تخرج من رحم أوبك الأولى، تكون أقرب إلى روح العصر وواقعه وقائمة على المنهج العلمي في إدارة القضايا الاستراتيجية ورسم سياسات تتبناها إرادة سياسة تضع مصلحة الوطن أولاً، ومصلحة الأوبك ثانياً، ومصلحة الدول الغربية ثالثاً ومصلحة العالم رابعاً في معادلة واحدة. بعدما تقدم فإن السؤال المطروح الآن وبإلحاح هو: إذا كانت الدول الصناعية الغربية ليست مهتمة في الدخول مع الأوبك في مفاوضات تتعلق بالأمور الجوهرية للقضية البترولية المسببة لحالة عدم الاستقرار في أسعار النفط. وإذا كانت الأوبك ضعيفة وغير قادة على جعل الدول الغربية الصناعية ترى ضرورة البحث معها في الأمور الأساسية المتعلقة باستقرار سعر النفط. فما هو العمل إذن؟. قبل البدء في محاولتي للإجابة على هذا السؤال، أطرح تأسيساً لها منهجاً فكرياً للتعامل مع هذه القضية الاستراتيجية، وأقول أن هناك منهجين رئيسيين أمام الأوبك للتعامل مع قضية استقرار أسعار النفط والإنتاج: المنهج الأول: هو ما أسميه بالمنهج البنيوي Structural وهو منهج معني بالنظر في القضايا والأمور الجوهرية المتعلقة بإنتاج النفط واستهلاكه وأهمها: 1 السياسات والاستراتيجيات النفطية لكل من المنتجين والمستهلكين. 2 الواقع المادي والتقني للنفط من حيث الكمية المؤكدة أو المحتملة في العالم. 3 الواقع الاقتصادي والسياسي للنفط لدى كبار المنتجين والمستهلكين. وحيث أن البنية الأساسية للسوق النفطية العالمية ممتدة على مساحة يحتلها المنتجون والمستهلكون الكبار، فإنه لا يمكن تنفيذ هذا المنهج من طرف واحد، وإنما يتطلب الأمر اتفاق المنتجين والمستهلكين على اعتماده إطاراً ومنهجاً للوصول إلى سياسات نفطية مشتركة تؤدي إلى استقرار أسعار النفط. المنهج الثاني: وهو ما أسميه بالمنهج الظاهري، وهو منهج يقوم على معالجة المظهر الخارجي لظاهرة ارتفاع السعر أو انخفاضه، دون الربط في التحليل والعلاج بين الظاهرة وأسبابها الجوهرية. هذا المنهج ملائم للطرف الذي يعتقد أن جميع الأوراق الهامة في يديه وأنه يملك قدرة أعظم من الطرف الآخر في توجيه الأمور والسيطرة على مسار السوق المستقبلي. الغرب الصناعي ميال إلى المنهج الظاهري وغير معني بالأخذ بمنهج بنيوي يلزمه بسلوك مستقبلي معين، تحدده مع الأوبك وهو، أي الغرب، يعتقد أن باستطاعته أن يفرض الحل الذي يريد وفي الوقت الذي يريد!! هذا هو الفكر المهيمن في اعتقادي على فكر المخططين الاقتصاديين والسياسيين الغربيين المعنيين بقضية النفط العالمي وأسعاره وإمداداته، وهو المهيمن أيضاًَ داخل أروقة وكالة الطاقة الدولية IEA التي ترسم للغرب الصناعي سياساته واستراتيجياته في مجال النفط والطاقة. الفكر السياسي الغربي، ورغم أنه في حالة أزمة راهنة مع ارتفاع الأسعار، إلا أنه يرفض فكرة مطروحة من أحد الزعامات في الأوبك لضبط حركة الأسعار في حدود عليا ودنيا بهدف تحقيق مستوى أفضل من الاستقرار في الأسعار على المدى المتوسط والطويل. ويصر الغرب في المقابل على الطلب من الأوبك زيادة إنتاجها لخفض السعر. بعد بيان المنهجين البنيوي والظاهري، وميل الجانب الغربي الصناعي إلى المنهجية الظاهرية الآنية، أعود إلى محاولة الإجابة على السؤال المطروح أمام دول الأوبك وهو: ما العمل في ظل هذه الظروف والمعطيات والفرضيات؟ إجابتي هي أن العمل يكمن في اتباع المنهج البنيوي الاستراتيجي لأنه في نظري المنهج الذي سيوصلنا إلى حلول طويلة الأمد من خلال تعامله مع الأسباب الجوهرية للمشكلة. لكن المنهج البنيوي برنامج عمل استراتيجي يتطلب من دول الأوبك انضباطاً سياسياً واقتصادياً جيداً على المستويين المحلي والدولي. أوجز في النقاط الاتية أهم مواقع الارتكاز في استراتيجية التعامل مع الوضع الراهن في ظل المنهج البنيوي: 1 خلق إرادة سياسية عليا لدى الدول المصدرة للنفط في الأوبك المالكة لكميات كبيرة من النفط الخام مبنية على رؤية سياسية واقتصادية مشتركة لقضية النفط إنتاجاً وسعراً، هدفها الرئيسي تحقيق أعلى منفعة وطنية من الثروة النفطية مع الأخذ في الاعتبار الظرف الاقتصادي والسياسي العالمي. 2 إعادة هيكلة الأوبك على نحو يعطي الدو الأساسي والفاعل للدول الكبرى المالكة للنفط والقادرة على الإنتاج بحيث تكون قراراتها موزونة بالقوة النفطية وليست بالتساوي، أي بالغالبية الفاعلة وليست بالإجماع المتساوي. 3 دعوة الغرب الصناعي إلى حوار على مستوى القمة للنظر في إمكانية الاتفاق على قواعد وأطر عامة يمكن من خلالها تنسيق وضبط السياسات والاستراتيجيات النفطية لكبار المنتجين والمستهلكين بهدف تحقيق استقرار طويل الأمد في سعر النفط وإمداداته. الدول الصناعية الغربية، بناء على حساباتها السياسية والاقتصادية المبنية على تقييمها للأوبك الجديدة في ثوبها الجديد وفعلها الجديد، وقدرتها على التأثير على سوق النفط العالمي الحاضر والمستقبل، قد تستجيب أو لا تستجيب. فإن استجابت الدول الصناعية لدعوة الأوبك فالأمر يبقى مرهوناً بالنتائج. 4 إن لم تستجب الدول الصناعية لدعوة "أوبك"، والاحتمال هنا كبير، تقوم الأوبك بتوجيه دعوة ثانية إلى الدول الصناعية الغربية ولكن هذه المرة، عن طريق السوق النفطي وذلك بإحداث ضغط كبير على الأسعار إما إلى أعلى أو إلى أسفل. 5 - ابقاء الضغط السعري قائماً حتى تستجيب الدول الصناعية ، أو هي تدعو الى حوار مع الأوبك يهدف الى معالجة الأمور النفطية الجوهرية المسببة لتذبذب الأسعار والانتاج. قد يفهم القارئ الضغط المرتبط بارتفاع الأسعار، لكنه قد يتساءل كيف لخفض الأسعار أن يحدث ضغطاً على الدول الصناعية الغربية وهي التي تسعى جاهدة للحد من ارتفاع الأسعار. أقول إن الانخفاض في السعر الذي نتحدث عنه هو في المستوى المنخفض جداً، القادر على إحداث الضرر بالصناعة النفطية الغربية كما سأبينه لاحقاً. السياسة السعرية الضاغطة هنا وسيلة لتحقيق هدف وليست هدفاً في حد ذاتها. آثار هذه السياسات السعرية تختلف في مستواها المرتفع عن مستواها المنخفض رغم اتحاد السياستين في الهدف. فارتفاع الأسعار يقع أثره على الاقتصاد العام، وعلى معل التضخم، والبطالة، وميزان المدفوعات. وارتفاع الأسعار يقلل من حجم الطلب على النفط، ويزيد من حجم إنتاجه. لذا فإن ارتفاع السعر يجب أن يكون قوياً ولمدة قصيرة وإلا فإن أثره على زيادة الإنتاج وتخفيض الطلب سيضعف من قدرة الأسعار على البقاء طويلاً في مستواها المرتفع. أما السياسة السعودية الضاغطة في جانبها السفلي، أي تخفيض السعر إلى حدود متدنية فإنها الأفضل، لأن فعلها يتجه مباشرة إلى الصناعة البترولية الغربية الهامشية فيضعف من قدرتها على الإنتاج، ويدفع بها إلى خارج السوق. والسعر المنخفض يزيد من حجم الطلب على النفط، ويحدث ضغطاً على الحواجز الجمركية والضريبية المقامة للحد من استيراد النفط، كما أن السعر المنخفض يتحاشى ردة الفعل الشعبية في الدول الصناعية لأنه لا يصيب المستهلك بأذى بل على العكس من ذلك ينقص من تكاليف استهلاكاته النفطية. ومن مزايا الضغط من خلال تخفيض أسعار النفط بشكل حاد أنه يهز الأسس والقواعد التي تقوم عليها شركات البترول الهامشية القائمة على الدعم الحكومي أو الحماية السعرية كما يقلص من حجم الاستثمارات الطويلة الأجل في الاستكشافات البترولية الجديدة المكلفة، ويزرع الشك ويزيد نسبة المخاطر في السوق المالي الخاص بإقراض المشاريع النفطية طويلة الأمد والمتعلقة بعمليات الإنتاج الجديدة. لكن السياسات السعرية الضاغطة باتجاه تخفيض الأسعار تتطلب من الدول الرئيسية في أوبك ذات الطاقة الإنتاجية العالية إرادة سياسية قوية ومتماسكة تجاه الغرب الصناعي ووضع مالي جيد في الداخل، لكي تكون قادرة على مواجهة الضغط السياسي الغربي وإبقاء الأسعار منخفضة لمدة أطول حتى تؤتي ثمارها وتدفع بالدول الصناعية إلى القبول بإجراء حوار موضوعه القضايا الجوهرية المسببة لتذبذب الأسعار والإيرادات النفطية. الصراع هنا في حالة خفض الأسعار هو بين منتجي النفط الكبار في الأوبك الذين يملكون قدرة تنافسية عالية بسبب التكلفة المنخفضة لإنتاجهم، وبين المنتجين الهامشيين والشركات البترولية المحلية في الدول الصناعية الكبرى ذات التكلفة العالية للإنتاج. الصناعة النفطية الوطنية في الغرب الصناعي والولاياتالمتحدةالأمريكية تشكل خطاً دفاعياً مهماً في الأمن النفطي، سيحرصون كل الحرص على المحافظة عليها وحمايتها من الانهيار. صاحب القرار المشغول بقضية سعر النفط في إطارها المؤقت والباحث عن حل سريع، أو إجابة مختصرة تريح فكره، لن يجد في المنهج البنيوي والبرنامج الاستراتيجي ضالته أو وجبته السياسية السريعة إن صح التعبير. لذا، فإن السؤال الذي طرحناه سابقاً "ما المل؟" يبقى دون إجابة من الناحية السياسية التي تتطلب تحركاً وفعلاً سياسياً يتعامل مع الواقع والحدث. الواقع السياسي والاقتصادي العالمي، بين طرفي العلاقة، وهما دول الغرب الصناعي الكبرى ودول الأوبك الكبرى، وما يفرضه هذا الواقع من علاقات دولية ذات أبعاد مختلفة يجعل من الصعب على صاحب القرار السياسي في دول الأوبك الكبرى، تجاهل النداء الغربي المطالب بزيادة الإنتاج من أجل تخفيض الأسعار والحد من صعودها إلى مستويات أعلى. لكن صاحب القرار السياسي في دول الأوبك الكبرى، ومنها المملكة العربية السعودية، هو أيضاً أمام واقع اقتصادي وسياسي داخلي هام، يقوم على الأهمية الاستراتيجية للنفط الخام كثروة وطنية وحيدة تعتمد عليها حياة الأمة في الحاضر والمستقبل. فصاحب القرار لا يستطيع أن يعكس اتجاه الأسعار ويطلقها في اتجاه الانحدار دون أدنى حد من الاتفاق أو التفاهم مع الغرب الصناعي على سياسات مشتركة توقف انحدار الأسعار وتدهور الإيرادات الوطنية من المبيعات النفطية إن هو فتح للغرب باب زيادة الإنتاج. فالأسعار إن هي تجاوزت حداً معيناً من الانحدار، فإنها تحدث أضراراً بخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تضاف إلى قائمة الأضرار التي تلاحقت وتوالت في السنوات الماضية. لذا، فإن صاحب القرار قد يجد نفسه ملزماً بأن يأخذ في الاعتبار الواقع السياسي والاقتصادي الدولي، وإن عنى ذلك زيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار، ولكنه وبنفس الوقت قد يجد نفسه ملزماً بربط قراره هذا بشرط الاتفاق مع الغرب، على البدء في حوار بين الدول الكبرى المستهلكة للنفط والدول الكبرى المصدرة للنفط لوضع إطار عام للتعاون المشترك في السياسات النفطية من أجل تحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمي. وهنا يكون صاحب القرار السياسي قد تعامل مع الواقع السياسي والاقتصادي لارتفاع الأسعار الراهن، وربط في نفس الوقت ما بين الهدف الآني للغرب المعني بانخفاض الأسعار، والهدف المستقبلي لبلاده والمعني باستقرار الأسعار والإنتاج. الخشية أن يفلح الغرب في تحقيق ما يريده الآن دون قيد أو شرط، تاركاً ما تريده الدول المنتجة للنفط إلى حقة أخرى. هكذا كانت تسير الأمور، فهل نطمع في نهج جديد؟ لست أدري. * كاتب سعودي.