"معاناتكم أمام عيون العالم... وقد طالت كثيراً". بهذه الكلمات خاطب البابا يوحنا بولس الثاني الشعب الفلسطيني، من خلال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، لحظة نزوله من المروحية في مستهل أول زيارة بابوية لمدينة مهد المسيح منذ العام 1964 وسط مشاعر الدفء والمحبة التي احاطه بها الفلسطينيون مسيحيين ومسلمين اكتظت بهم ساحة المهد منذ ساعات الصباح. لم يخفِ البابا تأثره الشديد بتحقيق حلمه الذي راوده منذ اللحظة التي اعتلى فيها الكرسي الرسولي قبل اثنين وعشرين عاماً بتتبع خطوات السيد المسيح في الاراضي المقدسة، وتناول حفنة من التراب الفلسطيني قدمتها اليه طفلة وقبّلها، من دون أن يدري أن هذه القبلة ستثير عاصفة هوجاء في الاوساط السياسية الاسرائيلية التي اعتبرتها اعترافاً بابوياً بالدولة الفلسطينية العتيدة. وراحت البرامج الاذاعية الاسرائيلية الى ابعد من ذلك حين قارنت بين الطريقة التي قبل بها التراب في مطار اللد قرب تل ابيب وتلك في بيت لحم. بدت بيت لحم كما يجب ان تكون مدينة ميلاد السيد المسيح: ساكنة هادئة تبث الحب والسلام طوال مدة الزيارة التي تخللتها اناشيد دينية تمجد القدس وترحب بالحدث التاريخي. وكانت لحظة تضرع وصلاة للمسلمين والمسيحيين في آنٍ عندما توقف القداس للاصغاء الى آذان صلاة الظهر من المسجد القائم بمحاذاة الساحة، ليعلن بعدها بطريرك اللاتين ميشيل صباح عن عمق "الوحدة بين المسيحيين والمسلمين". وبمعزل عن الدعوات والتأكيدات بأن لا تتحول زيارة الحج الى "موقف سياسي" لحاضرة الفاتيكان، كان لكل عبارة نطق بها البابا وقع كبير في قلوب الفلسطينيين قبل عقولهم خصوصاً عندما قال: "أملي أن تخدم زيارتي لمخيم الدهيشة اللاجئين الفلسطينيين في تذكير المجتمع الدولي بضرورة الحاجة لقرار محدد لتحسين أوضاع المجتمع الفلسطيني" وعدما ذكر بحق الفلسطينيين ب "وطن" وهو التعبير نفسه الذي ورد في وعد بلفور في العام 1917 الذي اعطت به بريطانيا لليهود "الحق في اقامة وطن لهم". كانت "زيارة دولة" على رغم الاسرائيليين... هذا ما عاشه الفلسطينيون الذين نجحوا في تنظيم اجراءت الزيارة بسلاسة وبدون توترات "هاجس الامن" الذي يخيم على الجانب الاسرائيلي في هذه المعادلة الدقيقة والغريبة في نظر البابا. وشاركهم فيه ممثلو كل القنصليات في القدسالشرقية. ولكن في منطقة "المغطس" حيث جرى تعميد السيد المسيح على الضفة الغربية من نهر الاردن والتي تقع تحت سيطرة الاحتلال الاسرائيلي، ساد جو "التوتر الامني الاسرائيلي" من جديد ومنع المواطنون من مدينة أريحا من الوصول الى المنطقة للترحيب بالبابا والصلاة معه. وانتصر منطق القوة وثبتت اسرائيل انها المسيطرة على الارض وتمنع من تريد من الدخول الى أي مكان. غير أنها لم تستطع أن تفرض على البابا القبول بوجود رسمي اسرائيلي في هذه المنطقة بالذات واقتصر المشهد على عدد كبير من قوات الشرطة الاسرائيلية. الآمال في الدهيشة وفي مخيم الدهيشة إقتربت الكلمة التي ألقاها البابا في مدرسة الدهيشة للاجئين الفلسطينين من التوقعات العالية التي بناها المخيم على الزيارة البابوية الاولى لمخيم فلسطيني ولكنها لم تتقاطع معها. وعلى رغم الدلالات الرمزية التي اتسمت بها زيارة البابا واصراره على التجول في ازقة المخيم الضيقة "لتحسس آلام اللاجئين"، وعلى رغم العبارات المليئة بالمحبة والتأييد للاجئين الفلسطينيين وحتى التطرق الى الضرورة الملحة "لايجاد حل عادل لاسباب المشكلة"، لم ينطق البابا بالعبارة التي عمل سكان المخيم طوال الاشهر الماضية لسماعها من شخصية مهمة وهي تأكيد "حقهم المقدس في العودة الى بيوتهم" بعد 51 عاماً من التشرد والمعاناة. وركزت كلمة البابا المؤثرة على الدعوة الى رفع المعاناة "وتحسين الظروف المعيشية" وتوجيه نداء للجيل الشاب "في الاستمرار في النضال من خلال التعليم لأخذ اماكنكم في المجتمع". وأمل اللاجئون بأن يكون البابا خلال مروره السريع في عربته الخاصة وبحاله الصحية انتبه للمسارح السبعة التي اعدوها لتعبر عن تاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتي الان ولكن من المؤكد انه أحس بدفء مشاعر الفلسطينيين الذين اصطفوا شباناً واطفالاً على طول الطريق المؤدي الى الدهيشه من مدينة بيت لحم وهم يرفعون اعلام فلسطينوالفاتيكان يعلقون امالاً كبيرة على ان تتحول زيارة البابا لمخيمهم الذي يرمز الى نحو أربعة ملايين لاجئ فلسطيني بداية ظهور "المخلص"، كما جاء في شعاراتهم المرفوعة. وربما كان الرد البابوي عندما قال للناس الذين سمح لهم بدخول ساحة المدرسة "شعرت دوماً بالقرب من الفلسطينيين في معاناتهم" أو عندما ختم كلمته مجدداً وقوف الكنيسة الى جانب الشعب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين على وجه الخصوص. كلمة الطفلة اللاجئة "المؤثرة جداً" الغيت في اللحظة الاخيرة الا أن عجوزاً فلسطينياً من اولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة من جيل النكبة اعتلى المنصة المتواضعة التي جلس فيها البابا والى جانبه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكانت التجاعيد التي حفرها التاريخ في وجهه كافية لاختصار الكلمات. المحطة الاهم في الزيارة البابوية التاريخية في نظر الفلسطينيين كانت ربما في زيارته الى المخيم لما رمزت فيها من معان لشعب عاش اللجوء أكثر من نصف قرن، وقال البابا نفسه أن معاناته طالت ولكن، كما قالت امرأة، ان سكان المخيم "أملنا بأن يقول البابا بصوت عال أن من حقنا أن نعود الى وطننا ولكن يبدو أننا بحاجة الى جرأة أكبر". وفور انتهاء زيارة البابا ا ف ب اندلعت مواجهات عنيفة بين الشرطة الفلسطينية وسكان المخيم. إذ رشق عشرات من الاشخاص الحجارة على قوى الامن الفلسطينية التي ردت مستخدمة الهراوات وأبعدت المصورين، ولم تعرف اسباب الصدامات لكن بعض السكان اشار الى ان الشرطة تعاملت معهم "بوحشية" خلال الزيارة