قدم الفاتيكان لليهود منذ الستينات خدمات جُلى. قدم لهم أولاً صك براءة اليهود من دم المسيح، منهياً بذلك معركة دينية امتدت ألفي عام. وقدم لهم الاعتراف الرسمي بدولة إسرائيل، انسجاماً مع مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، وها هو يقدم لهم زيارة البابا بكل المضامين الروحية والسياسية التي تنطوي عليها. بالمقابل يواجه يهود إسرائيل البابا بتعليقات ومطالبات أقل ما يقال فيها إنها تفتقر إلى التهذيب. التهذيب الذي يفترض ان يليق بمكانة البابا عند الحديث عن زيارته. إنهم يطالبونه بالاعتذار وكأنه مذنب بحقهم، وهو يستمع إلى تلك المطالب بكبرياء موقعه. وبعضهم يذهب إلى حد أبعد، فيرسم للبابا ماذا يجب أن يقول. يفوت يهود إسرائيل ان يلاحظوا داخل إطار هذه الزيارة أموراً كثيرة تلفت النظر. فالبابا سيزور القدس وبيت لحم وكفر ناحوم والناصرة، وكلها رموز مسيحية حيث عاش المسيح وبشر، وحيث طرد الفريسيين من الهيكل. ويستطيع البابا أن يقول باسم مسيحيي العالم إن المسيحيين لهم في فلسطين رموز أكثر مما لليهود من رموز. وسيزور البابا مخيم الدهيشة الفلسطيني، حيث سيقف وجهاً لوجه أمام الجريمة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، جريمة طرد الشعب من أرضه. وبمقتضى هذه الزيارات يستطيع البابا أن يطالب يهود إسرائيل بإعلان حق عودة المسيحيين إلى قدسهم، كما يستطيع أن يطالبهم بحق عودة سكان مخيم الدهيشة إلى أراضيهم وبيوتهم، وفي الحالتين سيكون لموقف البابا ترجمة واحدة هي: حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين. ماذا سيكون موقف يهود إسرائيل من البابا إذا أعلن ذلك؟ هل سيشتمونه ويقولون إنه نازي، وهو الذي سيزور نصب "ياد فاشيم" تعاطفاً مع ضحايا النازية من اليهود؟ ربما سيلاحظ البابا في جولته ان إسرائيل وضعت تحت تصرفه طائرتي هليكوبتر عسكريتين، والموكيت الذي سيفرش داخلهما لن يلغي عنهما الصفة العسكرية، وهكذا سيجبر البابا أن يتجول بطائرة عسكرية ليبشر بالسلام. ويقول المسؤولون الإسرائيليون تبريراً لذلك، انه لا يوجد لدى إسرائيل طائرات خاصة لكبار الزوار، لأن كبار المسؤولين الإسرائيليين يتجولون بطائرات عسكرية، وهذه حقيقة أخرى سيكتشفها البابا من خلال الممارسة، فمضيفوه ليسوا إلا عسكريين يتجولون بطائرات عسكرية، ولا شك أنه سيستنتج من ذلك ما يستنتج. عند هذه النتيجة نتوقع ان يفكر البابا بينه وبين نفسه بمسألة القدس. فهو بحكم موقعه ومنصبه ورسالته، لا يستطيع ان يقبل بأن يتولى هذه المهمة عسكريون يتجولون بطائرات عسكرية، ولا بد لمدينة القدس رمز السلام ان يديرها ويشرف عليها من يجسد السلام في تاريخه وفي حضارته، وهنا لا بد ان يستذكر البابا حادثة فتح القدس، وقدوم عمر بن الخطاب إليها، والعهدة العمرية التي قدمها للمسيحيين فيها، وان يقارن بين هذا التاريخ وبين ما يشاهده بعينيه من مظاهر احتلال وعسكرة وتهجير واستيطان على حساب الغير. في اليوم الثاني، سيزور البابا مخيم الدهيشة للاجئين وفي اليوم الثالث سيزور نصب "ياد فاشيم". أي أنه سيزور الضحايا الأحياء والضحايا الأموات، فمن سيدين بعد كل زيارة. يهود إسرائيل يطالبونه بإدانة النازية، ولكن ماذا سيكون موقفهم إذا أكمل إدانته بإدانة من تسبب بمأساة اللاجئين؟