ساران ألكسندريان روائي وباحث فرنسي معروف ارتبط اسمه بالسوريالية ونشاطاتها المختلفة. فمنذ البيان الأول "الشعر والموضوعية" الذي وقّعه ألكسندريان سنة 1947، اعتبره أندريه بروتون، معلمه الروحي وأحد الناطقين البارزين بلسان حركته. وقد لقي بيانه هذا عند صدوره ردود فعلٍ إيجابية من قِبل العديد من السورياليين. لذا اتبعه ألكسندريان بمشاركة كثيفة في صوغ بعض البيانات السوريالية اللاحقة التي دعت بمجملها الى التمرد وسبر أغوار اللاواعي والحلم واللغة... وعلى رغم خلافه فيما بعد مع أعلام هذه الحركة، عمل في كتاباته كلها على الدفاع عن أفكارها ومبادئها الأساس ونذكر على سبيل المثال كتابه عن "أندريه بروتون" 1971 و"السوريالية والحلم" 1974 و"محرّرو الحب" 1977. وهو الى ذلك روائيٌ حُلمي من الطراز الأول وكاتب لامع في مجال الأدب الإيروسي والدراسات الفنية. يصدر في باريس منذ سنة 1995 مجلة أدبية تحت اسم Superieur Inconnu. وسوف تخصّ الشعر اللبناني الحديث بملف شارك في اعداده الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي ويقدم شعراء من مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وبول شاوول وعباس بيضون وسواهم من الجيل اللاحق. وكتب ألكسندريان بحثاً طويلاً عن لبنان هو خلاصة لزيارته الاخيرة له وسوف يضمّه الملف عن الشعر اللبناني في المجلة. هنا في المناسبة حوار معه: أبدأ بسؤال تقليدي: أنت غنيٌ عن التعريف بالنسبة لكثيرين من أبناء الوطن العربي. لكن بعض قرائنا يجهلونك. من أنت؟ وماذا يعني لك أن تكون ساران ألكسندريان؟ - ولدتُ في بغداد لأبٍ شرقي أرمني أرثوذكسي ومن أم فرنسية. كما تَرين أنا وليد الشرق والغرب. لكني فرنسي أولاً وأخيراً. وقد وصلت الى فرنسا عن طريق مرفأ بيروت حين كنت في السادسة من العمر واستقريت نهائياً في باريس حيث ربتني جدتي لأمي. كان والدي الدكتور فارتان ألكسندريان طبيباً لامعاً في مجال الفم وأمراضه في بغداد. وهو طبيب الملوك والصديق الحميم للملك فيصل. روى لي أنه عند ولادتي حملني الى الملك، وكان فَرِحاً إذ ولد له صبي. الملك وضع يده على جبيني. هل هذا خَتمْ الكِبار؟ بأية حال حملت في طفولتي أحلام "الشرق الروحي" الذي تحدث عنه فاليري، وقد بدأت حينها باستوطان الأدب الفرنسي وسكنتُ لغته التي أعشق. أراد والدي أن أكون طبيباً مثله. إلا أني أردت أن أحقق ذاتي داخلياً. أردت أن أكون كاتباً ولا شيء غير ذلك. أثار اختياري استياءه. فوالدي كان قوي الشخصية، ساحقاً. أنا كاتبٌ لأني أريد أن أسيطر على عُصابٍ ما وعلى جرح وتأزم، أظنهما يعود الى ازدواجية انتمائي، وقد عشتهما كشيء مثير. لذا بحثتُ عن عائلة فكرية وروحية وجدتها بالقرب من أندريه بروتون، معلمي الأول أو الأب - المضاد L'Anti-pڈre. كان أندريه بروتون يكتب بنفحةٍ من حرية مطلقة وتخيلٍ صافٍ. فهو يملك مفهوماً مختلفاً عن الجمال يبهرني. ولا ريب في ذلك فهو رائد وروح الحركة السوريالية وضالتي المنشودة التي طالما بحثت عنها. كتبتُ لها ودعاني على الأثر الى المشاركة في معرض السوريالية العالمي الذي أقيم سنة 1947 في غاليري Maeght. وأصبحت ملازماً له وتعرفت على كبار حركته وأصدقائها. سنة 1948 التقيت بجورج باتاي. كان يكتب عندها "مقالة التأمل" وقد تتابعت لقاءاتنا... لقد رويت في سيرتي الذاتية التي صدرت سنة 1990 عن دار مركوردو فرانس مسرى حياتي الذي يرتبط الى حدّ ما بتاريخ السوريالية وروادها في مرحلة ما بعد الحرب. كتبتُ العديد من الدراسات الأدبية ونشرت كتابات إبداعية وقعت بعضها بشهرتي فقط دون اسمي الذي ظنه البعض اسم امرأة!!! هذا كان يضحك زوجتي الرسامة الراحلة مادلين نوفارينا. لكنها كانت بالمقابل تفخر بعرض كتاب قُدِّمَ لنا عن آل ألكسندريان وتشرب بعزة نبيذاً يحمل أيضاً الإسم عينه! أنت روائي وقد كتبت خمس روايات. لكن الصفة التي غلبت عليك هي صفة الباحث أو الناقد. الى أي حدّ تلتقي الكتابة الإبداعية بالكتابة النقدية في تجربتك؟ وهل من الممكن أن تحلّ الكتابة النقدية محل الكتابة الإبداعية؟ - عندما أكتب بحثاً ما، أبدأ بالتنقيب عن نصوص لم تنشر بعد. ما يهمني بالمقام الأول هو مغامرة المعرفة أو مغامرة جعل المعرفة مبهجة. أريد من القارىء أن يرافقني في نزهة في حديقتي. أريده أن يحلّق برفقتي. هنالك أيضاً أسلوب ثانٍ أتّبعه في كتاباتي النقدية وهو ادخال عنصر جدلي لكي أمنح النص حيويته البكر. هكذا أجمع بين الكتابتين النقدية والإبداعية. برأيي كل كتابةٍ يدخل اليها عنصر الشغف هي كتابة إبداعية. يجب ادخال الشغف في المعرفة. لذلك عندما كتبت دراسةً عن أنطونان آرتو ثرتُ على كتّاب أربعة انتقدوه بشدّة. بهذه الروحية أكتب النص النقدي لأني روائي. فالغرض الأول من الكتابة هو استمالة القارىء. لذا يجب استثمار كل الوسائل التي تحقق هذا الغرض بما فيه السخرية على طريقة سقراط والرومانسيين الألمان. أما فما يتعلق بكتاباتي الإبداعية فهي عبارة عن مغامرة فكرية صعبة القراءة، نوع من الفلسفة الخفيّة مشبعة بالقراءات المختلفة. حالياً أحضّر كتاباً عن الغنوصية تجتمع فيه كتابات الآباء بالتاوية، حكمة القرن الآتي. تهتم بالكتابة الشعرية اهتماماً كبيراً، وقد كتبت كتابين واحداً عن بروتون وآخر عن جورج حنين. الى أي حدّ برأيك لا يزال الشعر قادراً في العصر الحديث، عصر الصورة والأنترنت على أن يحافظ على رسالته المعرفية والأورفية؟ وهل سيظل العالم بحاجة الى الشعر الذي نلاحظ أنه بدأ يتراجع أمام الرواية، أولاً وثانياً أمام ثقافة العصر؟ - ان ثقافة الأنترنت لن تغيّر شيئاً. فالشعر فوق اللغة، هو التماع ومغامرة روحية معرفية ستستمر طالما استمر الإنسان. الإدعاء أننا دخلنا زمن احتضار الشعر وأفول نجمه والاستغناء عنه يضعنا مباشرةً أمام دعاة كذبة. في فرنسا نظّم المركز الدولي في مرسيليا محاضرة حول "الشعر الإلكتروني" المبرمج على الحاسوب. برأيي هذا ليس شعراً وتنقصه الروح. نحن هنا أمام بلاغة جديدة ميكيانيكية فارغة. فأنا على عكس الكثيرين مطمئن الى مستقبل الشعر الذي توسّع اليوم مفهومه. فقصيدة النثر تشغل حيزاً مهماً في المساحة الشعرية. يقول البعض أن السوريالية جاءت بثورة على المستوى النظري، أما من ناحية الكتابة الشعرية والنثرية فلم تكن بأهميتها النظرية، خصوصاً بعد سقوط نظرية الكتابة الأوتوماتيكية. ويقول الشاعر الفرنسي رينيه شار انه من الممكن حذف السوريالية من تاريخ الشعر الفرنسي من دون أن يحصل أي خلل. برأيك أين تكمن ثورة السوريالية؟ - هذا غير صحيح! رينيه شار تحدث في لحظة غضبٍ مجنون! فالسوريالية التي عاشت 46 عاماً من 1920 الى 1966، تاريخ وفاة بروتون، أحدثت انقلاباً جذرياً على مستوى الصور الشعرية والتعبير. وقد أدخلت مفهوماً جديداً للجمال. نحن في السوريالية أمام جمالية وأمام استيطيقية جديدة لم تقتصر على الشعر بل تعدته الى الفنون كافة من السينما والهندسة المعمارية الى الموسيقى... السوريالية تعني أسلوباً مبتكراً في التعبير قوامه تحرّر اللاوعي والإبداع العفوي والحلم. فهي بالتالي تجربة روحية فريدة. على هذا المستوى يتفق بروتون وجورج باتاي على أن الكتابة نوع من زهد وهي تهدف الى موضعة الروح وإعادة الاعتبار الى حالة الحلم. فالتنويم المغناطيسي الذي لجأ اليه شعراء سورياليون كبار أمثال رينيه كروفل وبنجمان بيريه وروبير دسنوس ما هو إلا وسيلة لتحرير اللاوعي وإطلاق العنان لحرية الروح وقوة الحلم في فعل الكتابة. إن دراستي "السوريالية والحلم" التي نشرتها عام 1974 بطلب من المحلل النفسي جان بونتاليس أثبتت في دراسة معمقة معارف التحليل النفسي عند السورياليين. وقد نُشرت هذه الدراسة في مجموعة مخصصة لعلم التحليل النفسي واحتوت على نصوص ومصادر غير منشورة قبلاً هَدفت جَميعها الى تحليل التكوين السيكولوجي للكتابة الأوتوماتيكية التي تختلف عند السورياليين عن تجارب الوسطاء الروحانيين مثلاً. فالسورياليون مجلّون في هذا المجال. وخصوصية السوريالية تكمن في اعادة الاعتبار للحلم الذي يصبح معها جزءاً من الواقع وليس نقيضه. السوريالية عرّت اللاوعي وأثبتت ان الحالم هو انسان يعمل على طريقته! ان طروحات بروتون تتفق وآراء فرويد الذي التقاه في فيينا حين كان في ريعان شبابه. ومع ان اللقاء لم يكن ايجابياً، دافع بروتون عن نظريات فرويد بشدّة. كذلك يمكنني القول أن جاك لاكان سوريالي. ان تجربة السوريالية لا يمكن تجاهلها وهي فريدة وتختلف عن الدادائية في نظرتها الى اللاوعي والوعي واللغة والصور الشعرية. جورج حنين السوريالي ما الذي جذبك الى جورج حنين؟ ولماذا كتبت عنه كتابك - المرجع - ألأنه سوريالي أم لأنه عربي فرنكوفوني؟ تعرّفت على جورج حنين سنة 1947 في لقاء ضم عدداً من السورياليين كنا نعمل حينها على كتابة مناشير تتحدث عن التجربة السوريالية وتنقض الممارسات والنظريات الماركسية. لفتني في سلوكه. كان رجلاً غير اعتيادي في تصرفه وأفكاره المميزة. حنين شاعرٌ كبير. كان مُقِلاً في نتاجه لكنه كان عملاقاً في قصائده وحتى في مقالاته الصحافية التي نشرها في "الأكسبرس" وسواها. جورج حنين سيدٌ من أسياد الشعر حتى بعد القطيعة مع السوريالية. عند وفاته أرادت زوجته إقبال، حفيدة الشاعر الكبير أحمد شوقي أن تكرّمه بكتاب عن نتاجه واقترحت اسمي مع أيف بونفوا. أنا معجب حتى الثمالة بقصائد حنين لذا قبلتُ الفكرة من دون تردّد. أنا معجب كذلك باندفاع اقبال التي عمدت على اقتطاع أجزاء من كتابات جورج لتخلق منها كتاباً لم يخطر له على بال. تتحدث بإيجابية وحماسة عن دور إقبال العلايلي في نشر نتاج زوجها. ما هو الدور الذي لعبته زوجتك الرسامة الراحلة مادلين نوفارينا في حياتك الأدبية؟ - كانت مادلين قارئتي الأولى ومرشدتي ومستشارتي الأدبية. فهي رسامة بارعة وتملك حسّاً فنياً مرهفاً. أطلقت عليها لقب "الجنيّة الغالية". وكنت أعهد لها قراءة مخطوطاتي الإبداعية. كانت ترسم في هوامش النص عندما لا يروقها. كنت أمتثل لتقييمها وأحب إحساسها الإنثوي. لذلك حين كتبت "بيضة العالم" وهي رواية حُلُمية مجنونة تدور في البحر المتوسط وقد جُفّ تماماً، أعادتني كتابة الرواية بضع مرات. كنت أحرص على اتباع توجيهاتها، مادلين لم تزل بالقرب مني رغم وفاتها، فهي تلازمني باستمرار وتلهم كتاباتي. الحقل المفاجىء في نتاجك الأدبي هو حقل الأروسية أو الجنسانية. فكتابك "تاريخ الأدب الأروسي" الذي ترجم الى اثنتي عشرة لغة بما فيها التركية والكورية والذي نشرته سنة 1989 هو عبارة عن قراءة تاريخية لهذه الظاهرة منذ القدم حتى عصرنا هذا. ماذا عن هذا الاهتمام وكيف تحدّد أهمية هذا النوع من الكتابة؟ - ان كتاباتي الإبداعية والنقدية كلها تتأسس على خُلُقية أو على سلوكية محدّدة. فأنا أؤمن أن الأروسية هي مسألة أساسية تطرح بثقلها على الحياة الإنسانية. لذلك عمدت في كتابي "محرّرو الحب" على تقديم العديد من الكتّاب الذين أوجدوا أشكالاً تمجّد وتقدّس الحياة العشقية. أذكر على سبيل المثال رستيف دو لابروتون والمركيز دوساد وجورج باتاي. لقد جمعت العديد من الوثائق التي تبرهن ان تاريخ الأدب الإيروسي هو أيضاً تاريخ كبار الكتّاب. أن تكتب أدباً أروسياً يعني بنظري أن تدلي برأيك حول الحاجة الأساسية لليبيدو. هذا النوع من الأدب رفع المحرمات والممنوعات وترك الجسد يدخل في مجال الأدب. مع العلم أن هنالك أدباً أروسياً جيداً وآخر سيء ومبتذل. وفي ظني ان المعيار الأساسي في التقييم هو الصدق. من هذا المنظار يصبح المركيز دو ساد كاتباً جيداً. فهو يتحدث عن تراجيدية اللذة. هذا هو الأدب الحقيقي الذي يبتعد عن الأوهام. أحب في هذا السياق أن أشير الى أن الأدب الأروسي كان أدباً ذكورياً. المرأة المهتمة في هذا المجال برزت في مرحلة متقدمة وكانت مساهمتها محدودة وهذا يعود الى طبيعتها. فهي وان كانت متحررة فكرياً ترفض أن يعتبر سلوكها انحرافياً. لذا كان من الطبيعي أن تنتظر المرأة تطور المجتمع بحيث يسمح لها التعبير عن رغباتها من دون المساس بكرامتها وإدانتها. أذكر أنه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية هذا القرن نشرت العديد من الروايات والكتب الإيروسية التي نُسبت الى نساء إلا أنها كانت كلها من نتاج الرجل. ما هو التحديد الذي تعطيه للأروسية؟ - بداية أقول أن الأروسية هي فن الرغبة. والرغبة هي الحلم وهي أشدّ أهمية من اللذة. والأروسية كذلك ظاهرة كهرباء احيائية جنسية يتبادلها شخصان. هذه التأثيرات الكهربائية على نوعين: تأثيرات ذكورية وأخرى أنثوية يحقق توازنهما حيوية الكائن. لقد تناولت هذا الموضوع في دراسة معمقة نشرتها منذ شهور في دار فيليباتشي، وفي مقالات عديدة نشرتها في مجلتي الفصلية Superieur Inconnu وهي مجلة طليعية تسعى الى المساهمة في حرية التعبير وتقديس الجمال أينما كان