يتركون وراءهم الأهل والولد والصّحاب. يغادرون البيت والبلد والمرابع الأثيرة والطرق المألوفة والعلاقات المستقرة المنتظمة. ويذهبون إلى مكان... بعيد... غريب. رحلة الحج، وكل حج هي رحلة الاقتلاع... من المألوف والمتعوّد عليه في مغامرة روحية وجغرافية يواجه فيها الحاج نفسه على انفراد روحي مثير، ويجد الحاج فيها نفسه في ازدحام جديد، وحركة متدفقة وجغرافية طارئة متغيرة. يخلع الحاج نفسه من "المكان" القديم، ويخلع الحاج نفسه من "الزمان" المتكرر، ويخلع الحاج عن نفسه الملابس المعتادة والأفكار المعتادة والهواجس والهموم المعتادة. يقطع مسافات جديدة في داخله وفيما حوله. ويقابل وجوهاً جديدة مختلفة السحنات والألوان والرائحة ويسمع لغات ولهجات وتعابير متناثرة ويرى عادات وثقافات وأنماط حياتية متباينة ويسبح في بحار بشرية متماوجة. في عمق تجربة الرحلة المثيرة وخلف القرار بالقيام بها يكمن توقد روحي متعطش إلى الارتواء وقلق يبحث عن الإستكانة واضطراب يتطلع إلى الاستقرار. وفي الأزمنة القديمة كان التّوق المحترق يستنهض الحاج ويقتلعه من مكانه وزمانه في مواجهة إمكانية التعرض لمخاطر جسدية متربصة. كانت مسافات الحج الطويلة مزروعة بالعطش والغرق والتيه والنهب والقتل. ازدهرت على طريق الحج القديمة عصابات من الذئاب والضباع تقتات على قوافلهم ومؤونتهم وتستغل ضعفهم واستغراقهم الروحي. وكانت احتفالات التوديع الحزينة تعبيراً عن مخاوف الأهل والجيران والأصحاب من سفرة بعيدة، خطيرة، قد لا تكون منها عودة. وكانت احتفالات العودة المبتهجة تعبيراً عن فرحة الأهل بالإياب الآمن. ومع ذلك كانوا يحجون عبر المسافات الخطيرة لأن نداء التطهر في الأعماق وبشائر الخلاص في الآفاق كانت أقوى من القدرة على المقاومة. تحسّنت المخاوف الأمنية على طرق الحج وتحسنت التسهيلات وتطورت الإمكانات. لم يعد هناك خوف من الجوع والعطش أو خوف على المال والجسد. ومع ذلك يبقى الحج مغامرة اقتلاعية مرهقة تعبر عن ذات الشوق إلى الخلاص والتطهر والسلام مع النفس ومع ما حول. غاباتنا البشرية المعاصرة أصبحت أكثر وحشة ووحشية. وفي كلٍ منا شعور بأنه قشة رهيفة مضطربة فوق موج لجي يتلاطم في بحار مظلمة لا تعرف الشواطئ أو الموانئ التي سيلقينا الموج عليها أو يوصلنا إليها. وفي كل منا شعور بأننا ذرات متناثرة تهب عليها وتلعب بها رياح عابثة عاتية. هناك قيْظ متّقد يتحرق إلى الابتراد. وهناك زمهرير يرتعد ويبحث عن الدفء. وهناك عطش وجوع وخوف في أعماق النفوس وفي خلايا الأدمغة. يستنهضنا موعد الحج وتقتلعنا من "سراديبنا" و"سحّاراتنا" ومن تحت أغطيتنا... القديمة. أما حفلة الوداع، فتظل... حفلة حزينة. وأما مهرجان الإياب فيظل... وعداً... مأمولاً. وهكذا، نحن مسافرون بين حزن كامن، ووعد مأمول.