الكتاب: قصص الحب والجنون الكاتب: هوراسيو كيروغا المترجم: صالح علماني الناشر: وزارة الثقافة السورية يعتبر هوراسيو كيروغا 1878-1937 من أهم كتّاب الاوروغواي، وربما من أهم كتّاب أميركا اللاتينية، خصوصاً في مجال القصة القصيرة 11 مجموعة. الموت عامل مهم في حياة كيروغا الحافلة، أصبح قضيته الرئيسية، التي انعكست في ابداعه، وتتبدى تلك العلاقة بين تجربة الموت والابداع في قصة "الرجل الميت"، إحدى قصص المجموعة. ولد هوراسيو كيروغا في 31 كانون الأول ديسمبر 1878، من أب ارجنتيني، هاجر واستقر في بلدة آل سالتو في أوروغواي، حيث تزوج بعد أربع سنوات، وأنجب أربعة أبناء، كان أصغرهم هوراسيو. تكررت حوادث الموت بشكل فاجع مؤثر في حياة هوراسيو. مات ابوه عندما كان في الثانية، وبعد أحد عشر عاماً تزوجت أمه ثانية من رجل تعلق به الصبي كثيراً، لكنه سرعان ما اصيب بنزيف في الدماغ، أدى به إلى الشلل مدى الحياة، فاستغل فرصة وجوده ذات يوم وحيداً في البيت وانتحر. حادثا موت مأسويان في فترتين متلاحقتين، كان لهما أكبر الأثر في تشكيل وجدانه وتكوين شخصيته، بل وربما ولدّا خوفاً مقيماً من الموت لديه، ذلك العدو الأكبر الخفي المجهول، الذي يتحين الفرصة المواتية لينقض ويضرب ضربته بعنف وضراوة، من دون أن يهتم بما يصيب البشر من جرائها، وربما ظل شبحه يطارده عبر طفولته وصباه من دون أن يجد من جبروته مهرباً، فأورثه قلقاً مستمراً حتى اكتشف ذات يوم عالم الادب السحري، فانغمس فيه بكل ما يمتلك من قوة بعدما وجد فيه الملاذ والملجأ، فكان "يقرأ بشغف المجلات التي تأتي من بعيد، وكانت تزوّد مخيلته العذراء بكل قسوة الخيال"، قرأ "بريد ما وراء البحار" القادمة من برشلونة، وموسوعة شعبية في عنوان "العالم بين يديك"، والتهم صفحات اندرسون وفيرن ودوما بسرعة ليشبع نهمه إلى القراءة. وجد هوراسيو في عالم الأدب ضالته، التي أخرجته من وهدة القلق الذي كان يعانيه، وانقذته من كوابيس الموت التي طالما طاردته في صحوه ومنامه، وبين جدران هذا العالم تكشّفت مواهبه. وفي مونتيفيديو عاش حياة المقاهي، وعقد صداقات مع كتّاب وفنانين شباب، وأسس مع جماعة منهم "محفلاً أدبياً"، وفيه "كتبوا وتجادلوا وقارنوا نصوص بعضهم بعضاً"، ومن جلسات ذلك المحفل خرج كتاب كيروغا الأول "الصخور المرجانية" 1901، "الذي يضم أشعاراً وقصصاً قصيرة ويتسم بالرمزية"، و"في تلك الأيام أيضاً فاز كيروغا في مسابقتين أدبيتين"، فمثلت له تلك البداية قدراً من الاستقرار. وفي هذه الفترة مر بتجربة الموت الثالثة، حين كان في منزل صديقه فيراندو، الذي كان اشترى مسدساً، ليشارك به في مبارزة بالمسدسات، وعندما أراد هوراسيو أن يشرح له كيفية استخدام المسدس امسك به وضغط على الزناد وهو لا يعلم أنه محشو، فإذا بصديقه يهوي إلى جواره ميتاً. عندئذ، استيقظ، مرة أخرى، الخوف الكامن من الموت. وإذا كان الحدثان القديمان تما من دون ان تكون له يد فيهما، ها هو شبح الموت يعود إليه بعدما صرع صديقه بيده. وأبحر فوراً إلى بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين، كمن يهرب، واستقر هناك حتى عام 1903 حين شارك كمصور في حملة استكشاف في منطقة ميسيونيس في اوروغواي التي بهرته أجواؤها وأجتذبته الحياة فيها. وربما هيأت له تلك الرحلة الفرصة للعودة ثانية إلى عالم الأدب، متفحصاً - هذه المرة - تجربة حياته، متغلغلاً إلى الخفي والكامن من أسرارها، فظهر كتابه الثاني "جريمة الآخر" 1904، وكان موضوع بعض قصصها "مستمداً من سيرته الذاتية". ثم نشر كتابه الثالث "المطاردون"، ثم عيّن استاذاً للغة القشتالية وآدابها في دار المعلمين في بوينس آيرس، وتمكن من شراء قطعة أرض كبيرة من اقليم ميسيونيس، حيث شيد بيتاً في قرية سان اغناسيو، وأصدر "قصة حب كدرة" 1908، وهي قصة "سيكولوجية، فيها إشارات إلى حياته الشخصية ومشاعره"، ثم تزوج كيروغا من تلميذته آناماريا، وتم الزفاف عام 1909، وقضيا شهر العسل في بيته الذي أقامه في قرية سان اغناسيو، وحين استقر بهما المقام، قدم استقالته من التدريس في 1911، وانجبت له زوجته ابنته الأولى ايغلي ثم داريو. لكن العلاقات لم تسر بينهما جيداً بل تفاقمت، حتى تناولت آناماريا جرعة كبيرة من الأدوية، دخلت على اثرها في فترة احتضار استمرت ثمانية أيام، وماتت في 11 كانون الأول ديسمبر 1915، فكان ذلك هو الموت الرابع لشخص قريب جداً من كيروغا، مما هزه بعنف، بل ربما زلزل كيانه، واضطر إلى الرحيل ثانية إلى بوينس آيرس تماماً كما فعل في أعقاب موت صديقه برصاصة خاطئة. هنا اكتملت أمامه أربعة حوادث موت رئيسية، تنقسم من ناحية مصدر الموت إلى نوعين، ويشتمل كل نوع على حدثين: يوازى موت الاب الحدث الأول مع موت الصديق الحدث الثالث، تم كلاهما بفعل انطلاق سلاح ناري من دون قصد وأديا إلى الموت. في النوع الثاني، يتوازى موت زوج الأم الاب البديل، الحدث الثاني مع موت الزوجة الحدث الرابع والأخير تم كلاهما بفعل اختيار ذاتي متعمد، تحت تأثير معاناة لا تحتمل وفقدان للأمل، حدث تارة بسبب مادي لمرض عضال لا شفاء منه ومرة أخرى نتيجة سبب معنوي لحياة شقية ميؤوس من اصلاحها. تجربة وابداع المهم، ان هذا الحدث الأخير حرّك سلسلة الأحداث القديمة وأعاد ما كان غافياً منها إلى سطح تفكيره، ولعل هذا كان حافزاً لكيروغا، وهو رجل ناضج في السابعة والثلاثين من عمره ليتوقف ويتفحص تجارب الموت التي تلاحقه، ويمحص المخاوف التي لازمته سنوات طوال، وكان مسرح عالمه الفني مهيئاً هذه المرة لاستقبال هذه المواجهة بعدما قطع شوطاً على طريق رحلته الفنية، إضافة إلى ما اكتسبه من خبرات حياتية. وربما كان الطريق انفتح لمواجهة أولى تجارب الموت وأعمقها، حين مات الاب وهو في الثانية من عمره، فضرب بنصله عميقاً في أغواره، ولعب خياله دوراً رئيسياً في استعادة تلك الواقعة، لأنه لا يتذكر أباه أساساً ولم يعايشه عن قرب، وربما أحاطه الخوف من الموت بهالة من الكوابيس القاتمة، التي ربما اتسعت دائرتها بتأثير واقعة الموت القانية، بموت زوج الأم أو الاب البديل. إذن، كان لا بد له لن يبتعث واقعة موت الاب أولاً في عمل فني، وهو ما حدث بشكل يكاد يكون فيه "التناظر" متطابقاً، في قصة "الرجل الميت"، حتى انفتح طريق الموت الموصد، عبر تنويعات أخرى، بشكل يكاد يكون مباشراً في قصتي: "مع التيار" و"العسل البري"، ثم بشكل غير مباشر وأكثر اتساعاً في قصص: "الدجاجة المذبوحة" و"السوليتير" و"سادة ريش" و"القرد الذي قتل"، وكلها ضمن مجموعة "قصص الحب والموت والجنون". والآن ركز عمله على تجربة موت الاب، وكيف انعكست في "الرجل الميت". ولننظر أولاً إلى واقعة موت الأب الفعلية كما أوردها المترجم صالح علماني في مقدمة "قصص الحب والموت والجنون": "لم يكن هوراسيو تجاوز الثانية من عمره عندما مرض الأشقاء الأربعة بداء صدري، فنصح الأطباء بضرورة تبديل الجو والانتقال إلى مزرعة قريبة، وفي صبيحة أحد الأيام، يوم مماثل لأيام كثيرة سواه، دعا الاب أسرته للقيام بنزهة، وذهب أول الأمر مع خادم في قارب ليصطاد، ورجع إليهم باكراً، وفي المرسى، وكان هوراسيو لا يزال صغيراً تحمله أمه بين ذراعيها، قفز الرجل إلى البر وكان يحمل بندقية الصيد في يده الخشنة، فاصطدم السلاح بحافة المرسى، وانطلقت منه رصاصة اخترقت رأس الأب برودينثيو كيروغا". اولاً: التلازم بين ثنائية الرجل وسلاحه. في الواقع كان هناك الرجل "يحمل بندقية الصيد"، في القصة ظهر الرجل ومنجله، اداة عمله، التي يستخدمها في تنظيف بيارات الموز من الاعشاب البرية والخبازي، وانظر الى اختيار المنجل كسلاح للرجل، لما يحيط به من ظلال قاتمة بحكم كونه سلاح رسول الموت في الحكايات الشعبية. ثانياً: جاء الموت، في لحظة انتقال بين مهمة منجزة الى مهمة اخرى منتظرة. في الواقع كان الاب في لحظة انتقال، بعدما انجز رحلة الصيد، ليبدأ مهمة النزهة مع اسرته. في القصة، كان الرجل انتهى من تنظيف خمس مسكبات من بيارة الموز وبقيت امامه مسكبتان، في لحظة الانتقال تلك، فكّر الرجل ان يرتاح قليلاً بأن يستلقي. انظر هنا، الى الامساك بلحظة انتقال واقعية، لتكون هي ذاتها لحظة انتقال فاصلة بين الحياة الدنيا وعالم ما بعد الموت. وانظر ايضاً الى الذروة الفنية في اختيار تلك اللحظة للراحة، بعدما القى نظرة رضا عن الذات، لما انجز من عمل، فهي لحظة سمو، يقابلها في الوقت نفسه لحظة سقوط، وانهيار وتفكك. ثالثاً: الواقع اصطدمت البندقية بالمرسى، وهو فعل عبثي، عجيب، تحكمه الصدفة العمياء. في القصة انزلق على قشرة موز، وهو فعل مبرر، وسط تتابع منطقي، ممهد لما سيليه، ففي الفن، على عكس الحياة. لا بد ان ترتبط الاسباب بالنتائج. في الواقع ايضاً، انطلقت رصاصة، اخترقت رأس الاب، فتم الموت في ومضة خاطفة، في القصة، يتفتت الزمن، يتبعثر، يتهادى ببطء شديد، بايقاع متمهل، يكاد يمدد اللحظات الى اقصى مدى ممكن، فاذا هو حين ينزلق، ينفلت المنجل من يده، يبدأ رحلة السقوط، يبحث بعينيه عن المنجل، لا يجده، ثم قطع سينمائي، وانتقال الى مشهد ساكن، وهو ممدد في الوضع الذي كان يرغبه، ولكن المنجل كان مغروساً بشفرته في جسده، تحت حزامه مباشرة، ولنلاحظ، هنا، التقسيم الى مرحلتين: الاولى كان الرجل فيها واعياً لما يحدث له، والثانية تجسيد لنتيجة اصابته بالمنجل من دون ان يعرف كيف تم، اما تمدده، في الوضع الذي كان يرغب فيه، فهو ذروة تهكم مريرة، فبالقطع كان الرجل يرغب في التمدد بهذا الشكل، ولكن بغرض الراحة، وليس بانتظار الموت! الا ان هذا المشهد، اتاح له ان يقدّر اقتراب نهايته، عندئذ يكون منطقياً انسياب تأملاته حول الموت: "الموت، ان احدنا ليفكر كثيراً خلال مسيرة الحياة بأنه في يوم ما، بعد سنوات، بعد شهور، بعد اسابيع، او بعد ايام تحضيرية، سيصل بدوره الى عتبة الموت. انه القانون المحتم، المقبول المنتظر، مهما اعتدنا السماح لانفسنا بحمل الرضا في الخيال عن هذه اللحظة، العليا بين جميع اللحظات، التي سنلفظ فيها نفسنا الاخير". وبدءاً من هذه اللحظة، عودة الى الرجل الممدد، وكأن حقيقة موته قد ازعجته، او كمن ايقن فجأة انه يغرق، وهو ما سيستمر حتى نهاية القصة، يبدأ الرجل في المقاومة: "لم يكن هذا الرعب متوقعاً بأي شكل من الاشكال! ويفكر: انه كابوس… هكذا هو! ما الذي تغيّر؟ لا شيء". إنه يحاول ان يتلمس مبرراً لهذا الرعب الذي يعانيه داخلياً ويقبض انفاسه كما الكابوس. انه يحاول ان يتمسك بالعالم الخارجي، ان يتشبث به، لأنه ثابت باق كما هو، لم يتغير، فها هي بيارة الموز بأشجاره ساكنة وسط الظهيرة… "كل شيء، كل شيء مثلما كان دائماً تماماً". عندئذ تفجعه حقيقة وضعه، فاذا هو يرفض ان يصدق: "ميت! وهل هذا ممكن؟" وتدريجاً، يكتشف خطأ التشبث بالواقع الخارجي، والارتباط، المقارن، بما يجري فيه، وتتلبسه حقيقة الموت كشأن خاص داخلي، وانه "انتزع من كل هذا بفظاظة، بصورة طبيعية، بفعل قشرة ملساء ومنجل في البطن، وها هو منذ دقيقتين يموت". حدث التحول اخيراً، وواجه الرجل حقيقة موته، وتقبله، فاذا هو "…متعب جداً، ولا شيء سوى ذلك"، وتراوده ذكريات من الماضي "كم من المرات، في ظهيرة كهذه الظهيرة، عبر وهو في طريق عودته الى البيت هذا المرج الذي كان خراباً لدى قدومه الى هنا" وكأنه يؤكد حقيقة ان الانسان ما ولد الا كي يعمر الارض!". كما ترتب على تقبل الموت، ان اصبح الرجل قابلاً للانتزاع من هذا الموضع الارضي الذي لن يغادره جسد ابداً، وان "بامكانه ان يمضي بذهنه بعيداً لو اراد، بإمكانه لو اراد ان يغادر جسده للحظة ويرى من فوق القناطر التي شيدها بنفسه، المشهد اليومي المألوف: الصخور البركانية المغطاة بالاعشاب اليابسة، بيارة الموز ورملها الاحمر، السياج الذي يضيق عند اتصاله بالطريق، وان يرى وراء ذلك المرعى الذي هو من صنع يديه وحدهما، وان يرى نفسه الى جانب دعامة منخورة من دعائم السياج، مستلقياً على جانبه الايمن وساقاه مثنيتان، تماماً كما يفعل كل يوم، وكأنه صرّة صغيرة متوحّدة فوق النجيل، يرقد مستريحاً، لأنه متعب جداً…". هنا، حدث الانفصال الموت فعلاً، وغادرت الروح الجسد، واذا هي تتأمل شيئاً من اعلى، "وبعد ان يطمئن اخيراً، يقرر المرور ما بين الدعامة والرجل المستلقي، الذي قد استراح". يبقى ان ما ترسخ في وجدان هوراسيو كيروغا وبقي في ذاكرته، من تجربة موت الاب، هو اصداء تجربة الموت ذاتها، من دون ان ترتبط بشخص الاب نفسه، لان كيروغا كان في الثانية من عمره وهو عمر لم يكن يسمح له بالوعي بوجوده، كما انه لم يعرفه او يعايشه عن قرب، فكان كل ما ألمّ به عن تلك الواقعة هو ما تردد على مسامعه، ربما عشرات المرات، بكل ما احاط بها من مفاجأة وعبثية لعبت الصدفة دوراً رئيساً فيها، فعاش الواقعة بكل ما احاط بها من اصداء غريبة في ذاكرته، واحتضنتها مخيلته الابداعية، وبهت وجود الاب ذاته، حتى اذا نضجت وحان وقت قطافها، جاءت المعالجة لتجربة الموت ذاتها.