بعد الفراغ من قراءة «جيرمين وإخوانها» (دار الساقي)، يُراودك انطباع أوّلي على شكل سؤال: هل حازم صاغية روائيّ بنَفَسٍ قصير أم أنّه قاص بنَفَسٍ روائي؟ وليس التساؤل هنا نابعاً من كون قصصه تُمثّل روايات صغيرة، بل على العكس. صاغية يُدرك معنى أن يكون الكاتب قاصاً يُمسك بأيدي شخصياته بحزم كيلا يضلّوا الطريق ويغوصوا في تفاصيل تُثقل كاهل النصّ. وفي الوقت عينه، هو يلجم رغبته في التدخل فيهم فلا يسمح لنفسه أن يُبصر ما لا يرون أو أن يتفوّه بما لا يقولون. لكنّ نَفَسَه الروائي ينبع على الأرجح من أريحيته في بناء عالمٍ كثيف لا يغيب عنه عنصرٌ من العناصر التي تتشكل منها عوالم الرواية الواسعة: السرد، الصوت، الشخصية، الزمن، الفضاء، الحبكة، والأهمّ درامية النص. في القسم الأوّل من المجموعة وعنوانها «حيوات بريئة»، يستعرض الكاتب نماذج إنسانية مختلفة، تكشف عن طاقاتها الداخلية كما عن واقعها، فتأبى- على رغم سذاجتها أو «براءتها» وفق تعبير الكاتب- إلاّ أن تكون قوّة فاعلة في الحدث، وعنصراً من عناصر المشهد الوصفي والفلسفي على السواء. وليست مصادفةً أن يمهر صاغية عناوين القصص بأسماء شخصياتها التي تلعب دوري «الكائن» و «الفاعل» معاً (Faire et Etre) مثل: «جيرمين التي ضاعت في نيويورك»، «أنطون قتيل الأغاني»، «مارون وأمّه»، «البراءة التي لم تُنقذ وسيم»، «توفيق الذي لا يعرف الأمل اليه سبيلاً»، «علي وحبّه لماكميلان»، «مروى ذات الألغاز الكثيرة»، «جرجي مطارداً الموت حتى النهاية». هكذا يبدو القسم الأول أشبه بغاليري يضم «نماذج» بشرية يمكن أن نصادفها في الواقع، من دون أن تسترعي انتباهنا أحياناً. فكأنما الكاتب سخّر كل تجربته الحياتية وخبرته الصحافية ومعلوماته السياسية وقراءاته الأدبية كي ينسج شخصيات تضجّ حياةً وواقعيةً. وليست الواقعية هنا مُحاكاةً (mimesis) بمعنى التمثيل الفني للواقع، إنما نقل للواقع نفسه عبر تجسيد حيّ لأفعال البشر (بواسطة اللغة طبعاً)، وهو ما يقترب الى مفهوم المحاكاة وفق نظرية أرسطو. ومثلما يتشابه الناس ويختلفون في الحياة العادية، أبطال حازم صاغية ايضاً يتقاربون بمقدار ما يتباعدون. معظمهم يعاني نقصاً ما يُعطّل حياته من دون أن يشعر بأنّه يعيش في عالمٍ مُعطّل فعلاً. يعيشون حياتهم بعبثية ويمضون الى نهايتهم بعبثية أكبر. «لقد صار يزن ما يزنه رجلان سمينان وتقلّ همته عن همّة نصف رجل. وإذ جاءت أوديت ذاك الصباح لتهنئه ببلوغه الأربعين، لم يُفق وسيم ولم يتقبّل التهنئة». ومع أنّه يكتفي بعرض حيوات شخصياته عبر ساردٍ يروي الأحداث بطريقة الغائب حيناً وآخر يرويها بالمتكلّم أحياناً، نراه يمرّ على أزمات الشخوص مستذكراً بعضاً من تاريخها أو تاريخ عائلتها لنكتشف، قصةً تلو أخرى، أنّ أحوالهم ليست سوى مآلات نتيجة تحولاتٍ هزّت عالمهم. توفيق المتشائم دوماً أصيب بيتمٍ مُبكر فعامله أخوته الأكبر سناً بخشونة ما اضطره الى الهرب صغيراً، جيرمين صدمتها السيارة وهي طفلة فمنعتها من النموّ في شكل طبيعيّ، والدا أنطون وفدا من سورية الى لبنان بعد طوفان النهر الكبير... لكنّ التاريخ الخاص لهذه الشخصيات لا ينفصل إطلاقاً عن التاريخ العام. لذا نجد إشارات متكرّرة لتواريخ وحروب وزعماء واتفاقات وأحزاب وميليشيات. الذات والمجتمع تتحرّك القصص عند صاغية بين «الأنا» الاجتماعية (العامة) و «الأنا» الفردية بميولها اللاواعية. هكذا يُزوّد الكاتب قصته بإشارات مكانية/ زمانية تؤكّد أنّ هذه الأقدار والطبائع والأمزجة ليست جامدة بتاتاً، إنما تتبدّل بتبدّل الأحداث والتجارب. ولعلّ الحرب الأهلية- وهي تيمة حاضرة تسطع في قصص فيما تظلّ متوارية في قصص أخرى- كانت مبعث تلك التحولات التي أصابت شخوص المجموعة، نساءً وذكوراً، مسيحيين ومسلمين. وفي نصّ عنوانه «حينما خطفتُ كميل» (القسم الرابع: «عن ماضينا ومستقبلنا»)، يقول الكاتب على لسان الراوي عبارة جميلة: «وحين تتغير الطبيعة، هل يبقى البشر على ما كانوا عليه؟». وفي قصّة «هذه الحرب على سجائري»، يحكي الراوي أنّ التغيّرات على مدار ثلاثة عقود طاولت كلّ شيء فيه، من المظهر الخارجي الى الأفكار والأحزاب انتهاءً بالصديقات والأصدقاء، لكنّ التدخين بقي الثابت الوحيد. واللافت أنّ حازم صاغية يختار لقصصه بداياتٍ تُعطيك إشارة الى أين ستقودك الخواتيم. ولئن تحقّقت هذه التقنية في «جيرمين وإخوانها»، فإنّ صاحبها يستجيب- عن قصد أم لا- الى واحدة من قواعد القاصّ الأشهر في أميركا اللاتينية هوراسيو كيروغا (1878- 1937) في كتابه المعروف «دليل القاصّ للكمال»، بحيث يتوجه القاص الأورغواني المعروف الى كاتب القصّة بالقول: «لا تبدأ بالكتابة من دون أن تعرف أين ستذهب من أول كلمة. في القصة القصيرة الجيدة، الثلاثة أسطر الأولى هي تقريباً، بأهمية الثلاثة أسطر الأخيرة». وإذا قرأنا بداية القصة الأولى مثلاً لوجدنا: «لم يكن من السهل التعرّف الى عمر جيرمين. كان أمرها يُشبه الأحجية: هل تعرف عمرها؟ كان يسألنا يوسف، ابن شقيقتها، واثقاً من أننا لن نعرف». وفي نهاية القصة نكتشف أنّ جيرمين التي كبرت وبقيت تعيش بجسد تلميذة ابتدائية- بعدما صدمتها سيارة وهي طفلة- تاهت عن أمها في نيويورك كما يتوه الأطفال ولاقت مصيراً ظلَ غامضاً كأحجية عمرها. وفي قصة «أنطون قتيل الأغاني» مثلاً، يبدأ الكاتب بالقول: «أشياء كثيرة تعلّق بها أنطون الذي كان سريع التعلّق بالأشياء، لكنّ السياسة لم تكن واحداً منها». أما الجملة الأخيرة فتُضيء المعنى الذي طرحه المفتتح: «الأمرُ الذي لا يرقى الشك اليه أنه قُتل هناك على الساحل، والأمر المحتمل أنه كان، في تلك اللحظات، يُغنّي». هكذا نجد أنّ أنطون الذي قدّمه الكاتب على أنّه لا يهمل في الحياة شيئاً غير السياسة، كان ضحيتها فمات نتيجة ألاعيبها القذرة. هويّات وأفكار يختلف أبطال صاغية في هوياتهم وأعمارهم وأجناسهم وانتماءاتهم السياسية، لكنّهم يتشابهون في حياتهم البسيطة التي لا تخلو من عبث، وأفكارهم البريئة التي لا تخلو من سذاجة. أنطون المولع بالغناء صار قومياً سورياً لأنه أحبّ نشيد الحزب القومي، بينما عشق علي ماكميلان (وزير خارجية بريطانيا في ذاك الوقت) لأنّه معجب بأصحاب الأسماء الغريبة، ووسيم اعتنق الماركسية تيمناً بأخيه الأكبر ثم تركها ليُحقّق هويته الحزبية الخاصة فاختار القومية السورية لمجرّد أنّ أحدًا لم يدفعه اليها. والغريب أنّ الأبطال حزبيّون من دون أن يُدركوا فلسفة التحزّب وأبعادها. وهذا ان دلّ فعلى حقبة كانت فيها الأحزاب تُمسك بأخناق الناس كما الأقدار الإغريقية فلا تترك لهم سبيلاً للخلاص، وكأنّ وجودهم يغدو معدوماً من دونها. وفي معظم القصص تصادفنا عبارات تُعيدنا الى زمن اليساريين وقاموسهم اللغوي، من قبيل: «البورجوازية»، «الانعزالية»، «الأمبريالية»، «الليبرالية»... والجدير قوله إن السرد غالباً هو استذكار لأحداث وشخصيات مرّوا في حياة الراوي حين كان يعيش في بيروت أو في قريته الشمالية قبل أن يهاجر الى لندن. وإذا أردنا أن نحدد مكمن القوة في قصة صاغية لأجبنا من دون تردد اللغة والشخصية. وبالعودة الى شخوصه، فهم عاديون أو أقل من ذلك. يومياتهم رتيبة وهامشية، لكنها تبدو مهمة جداً لهم. «قشّر توفيق قطعتي البيكون كأنه يُنفّذ مهمة لم ينقطع عنها سنوات. استدار نحو البيضتين اللتين على النار فأطفأ النار تحتهما ببطء يشبه فعل عمل حكيم. وفيما هو واقف، وبوجه تطغى عليه صرامة المهمات الجليلة، أكل البيضتين وقطعتي الجبنة ورغيف الخبز بحد أدنى من المضغ». وبمقدار اهتمامه بالبيئة الاجتماعية والحياة الجوّانية لشخصياته (البعد النفسي والاجتماعي)، يولي صاغية اهتماماً خاصا بالشكل الخارجي (البعد المادي أو الجسماني). انه يغوص في العمق من دون أن يتخلّى عن الحركات الظاهرية والهيئة الخارجية، فكأنّ «الأجساد تحكي مصائر أصحابها»، على ما يقول الطبيب بورديو في رواية سيلين. مروى بالغة السمنة، تمشي ببطء، «تكاد أطرافها، وهي تتقدّم وتهتزّ، يستقلّ واحدهما عن الآخر». أنطون «معتدل البنية ومشدود العضل»، جيرمين «جسمها ظلّ صغيراً ورفيعاً، إذ رجلاها أطول مما يحتمله ذاك الجسد الضئيل». مثلما يعرض لنا الكاتب حيوات أبطاله بهدوء، فإنه يروي نهاياتهم الصادمة بهدوء أكبر، كأنّ الموت/ السقوط في نهاية القصة (قتلاً، قَدَرَاً، انتحاراً، اختفاءً...) ليس الا نتيجة طبيعية لمسار شخصياته. ولعلّ الموت المباغت هو الشيء الوحيد الذي منح سِيَرِهم الباهتة لوناً. وإذا كان صاغية اختار لنهايات القسم الأول- وهو الأجمل في الكتاب- ما يُعرف ب «جاذبية السقوط»، فإنّه اختار للقسم الثاني «أمزجة ولا أمزجة» مساراً سردياً دائرياً، تعود فيه النهايات غالباً الى نقطة البداية عودةً عبثية، على صورة صخرة سيزيف (ميثولوجيّاً)، أو دورة الحياة والموت (واقعياً). سعيد، الشاب المستهتر يصير «أبونا إبراهيم» التقيّ الورع الذي استحقّ ثقة الناس واحترامهم بعد سنوات من الخدمة المتفانية في الكنيسة. ولكن عند أول فرصة، عرف كيف يستغلّ علاقاته وصداقاته الجديدة ليحصل على الأموال ويهجر الكنيسة، هادماً صورة «أبونا إبراهيم» ومعيداً صورة سعيد الأولى الى الأذهان. في «خيول العمّ المحبّ»، نتعرف الى شخصية صامتة، منكفئة، تردم سُبُل الحوار مع الآخر وتُقفل نوافذها عليه. انه يرى في «العالم الخارجي زائدة بالقياس الى عالمه الداخلي». ولكن ما إن تستفيق رغبته الإنسانية في التواصل حتى يضيع الكلام منه ويدخل في هذيانات لا تُفهم. يتذكره الراوي صغيراً وبعد سنوات يلتقيه في لندن بعدما دخل العمّ المحبّ في الثمانين. يبدو أنّه أراد الثورة على صمته الطويل، ولكن ما إن تكلّم جملتين واضحتين حتى دخل في هذيانه القديم. أما زينب، المرأة الجنوبية المتحررة التي تحجبت واحتجبت عن الحياة، فاشتاقت الى البحر بعد انقضاء ثلاثين عاماً على آخر نزهة لها. ولما قصدته مع بناتها الثلاث راحت تنشغل عنه بكلامها عن الموت والآخرة، فاستعجلت عودتها الى المنزل لتلحق بمجلس عزاء سمعت صوتاً بعيداً يدعو اليه من المكبّر، لتعود الى النقطة التي انطلقت منها القصة. قصص حازم صاغية لا تقول الحقيقة كلّها ولكنّها لا تقول إلا الحقيقة كما يقول يوسف ادريس. وهو حين اختار تقنية الاستقدام الزمني في القصة الأخيرة «2025 أو الاحتلال القبرصي لبلاد العرب» فإنّه آثر قول الحقّ لأنّ الحياة الراهنة ان استمرت في جحيمها العربي يُمكن أن تصير عرضة لاستعمار جديد على يد «أضعف» جيراننا، قبرص. من المهم أخيراً القول إنّ صاغية لم يعتمد بناءً درامياً واحداً في قصصه الكثيرة، لذا بدت متفاوتة المستوى أحياناً. بعضها لافت في سرديته وفي بناء شخصياته وبعضها الآخر ينحو صوب المقالة الصحافية. أمّا «جيرمين وإخوانها» فتبقى من المجموعات القصصية الجديرة بالقراءة لما تقدّمه من متعة ودهشة.