«سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    لصوص الثواني !    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الأزرق في حضن نيمار    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد سقوط غروزني وانتقال المعارك الى الجبال . الاستراتيجيات المنافسة في الشيشان
نشر في الحياة يوم 07 - 02 - 2000

إن معظم ما يتداول من أخبار في وسائل الاعلام العالمية عن الحرب الدائرة في الشيشان مصادره روسية، وهي قاعدة إعلامية موروثة عن المدرسة السوفياتية التي تقول "إكذب وإكذب حتى يصدقك الناس". فالقليل جداً من الاخبار يأتي من مصادر المقاتلين الشيشان بحكم الحصار العسكري والإعلامي المضروب حولهم. وعلى رغم هذا التعتيم فإن الاعلام الروسي تحت وطأة ما تكبد الروس من خسائر شديدة وطول زمن الحرب عما كان مقرراً لها، لم يستطع إخفاء حقيقة أن الدب توغل في المستنقع وبات خروجه منه اصعب من الفصل الدامي الذي جرى في الحرب الشيشانية الاولى 4919 - 1996.
هذا الاستنتاج ينبع من حقائق عدة، حتى بعد سقوط غروزني وانسحاب الشيشان اولها: أن التفوق الروسي في القوات والمعدات 150 ألف جندي روسي في مواجهة 15 ألف مقاتل شيشاني أي بنسبة عشرة الى واحد اضافة الى سيادة جوية 80 طلعة يومياً تقوم بها احدث المقاتلات والقاذفات، الى سيادة برية 600 دبابة، 2200 عربة مدرعة، 900 مدفع وراجمة صواريخ، لم يمنع من تكبد القوات الروسية خسائر جسيمة اضطر الجنرال اناتولي كفاشتيل ازاء تصاعدها للاعتراف بمقتل 1400 جندي وإصابة 6000 آخرين، في حين تقدر أجهزة الاستخبارات الغربية حجم الخسائر الروسية بحوالي 7000 قتيل ومثلهم من الجرحى، بالاضافة الى تدمير 160 آلية عسكرية و12 مقاتلة و10 مروحيات.
وثاني الحقائق انه على رغم تقدير الرئيس بالوكالة فلاديمير بوتين ان الحرب لن تستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع تعدت العمليات الحربية شهرها الرابع محققة هدف المرحلة الثانية وهو اقتحام غروزني وانسحاب المقاتلين الشيشان بعد ان نجحوا في قتل 50 -80 روسياً في اليوم. ونجح المقاتلون الشيشان في الهجوم المضاد واستعادوا حوالي ست مدن في الاسبوع الثاني من كانون الثاني يناير اهمها ارغون وشالي في الشرق، وغوديرس في جنوب غرب غروزني، وهو ما اضطر الجنرال كازانتسيف قائد جبهة شمال القوقاز الى الاعتراف بارتكاب اخطاء خلال الحرب تتطلب تغيير الاستراتيجية الموضوعة للحرب، وتم استبدال ابرز الجنرالات الروس بمعاونيهما فلاديمير شومانوف وغينادي غيروشيف، لارتكابهم جرائم حرب في الشيشان. واضطر بوتين الى التراجع عن رفضه التفاوض مع زعماء الشيشان، وقبوله الفكرة، بشرط اعترافهم بالسيادة الروسية. وازاء المقاومة الشيشانية التي انتقلت الآن من العاصمة الى الضواحي والريف اضطر القادة الروس الى تأجيل توقعاتهم بانتهاء الحملة وتحقيق أهدافها الى الربيع المقبل.
والسؤال ما هي الاسراتيجيات التي يتبعها الطرفان المتحاربان، وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج على الصعيدين العسكري والسياسي.
الاستراتيجية الروسية
تستهدف الاستراتيجية الروسية إخضاع كل أراضي الشيشان للسيطرة الكاملة بعد القضاء على كل العناصر الانفصالية، وذلك بأقل قدر من الخسائر، ثم تنصيب حكومة موالية لموسكو في غروزني، محاولة الاستفادة من دروس حرب 1994- 1996 التي تكبدت فيها 34 ألف قتيل. لذلك حشدت روسيا لهذه الحملة عشر فرق مشاة ومدرعة تدعمها أسراب مقاتلات عدة وقاذفات ومروحيات هجومية أو اقتحامية، ودفعت معظم هذه القوات في وقت واحد على طول المواجهة وليس بالتتالي، كما حدث في حرب 1994، بهدف الحسم السريع المطلوب في الحرب وتفادي التورط في حرب استنزاف.
وحددت القيادة الروسية ثلاث مراحل للحرب، الاولى تستهدف إقامة حزام أمني شمال نهر يريك يكون قاعدة للهجوم، وتمت هذه المرحلة من دون قتال يذكر، وتجنب المقاتلون الشيشان الاشتباك مع القوات الروسية، في هذه المنطقة التي تعتبر تقليدياً موالية لروسيا. واستهدفت المرحلة الثانية الاستيلاء على المدن الشيشانية الرئيسية المحيطة بغروزني وفرض حصار شامل عليها، بما يؤدي الى استسلام المقاتلين داخلها ومن دون حاجة لاقتحامها تجنباً للخسائر. وتهدف المرحلة الثالثة تدمير البنية الاساسية للمقاتلين الشيشان، وفرض السيطرة الكاملة على كل الاراضي الشيشانية.
تحددت نهاية العام 1999 كموعد نهائي لتنفيذ المراحل الثلاث حتى يدخل بوتين انتخابات الرئاسة في 26 آذار مارس المقبل معتمداً على ورقة الانتصار في اعتبارها الوحيدة التي يملكها.
ومن أجل تقليص حجم الخسائر الى ادنى حد حرصت الاستراتيجية الروسية على استخدام العناصر الشيشانية الموالية لموسكو، ويقدر عددها بحوالى 1200 فرد يتزعمها بيسلان غانتاميروف، كمفارز متقدمة أمام القوات الروسية التي توفر لها المساندة النيرانية.
واختارت موسكو لقيادة هذه الحملة عدداً من جنرالاتها المتعطشين لتحقيق نصر بأي ثمن، أمثال الجنرال نيكولاي كازانتسيف، الأكثر تهوراً من بينهم، والجنرال غينادي تروشيف الذي سبق له المشاركة في حرب 1994 وأُجبر على الانسحاب بقواته من انغوشيا، لذلك عرض جائزة قيمتها مليون دولار لمن يحضر له رأس القائد الشيشاني شامل باساييف. وعُين نيكولاي كوشمان منسقاً سياسياً للحملة العسكرية، وسبق له أن ترأس حكومة موالية لموسكو في الشيشان بين عامي 1995- 1996 وتعرض حينها لمحاولة اغتيال من قبل المقاتلين الشيشان.
وهكذا وجد القادة والضباط الروس فرصة لاستعادة كرامتهم فتصوروا أن العمليات الحربية تحت قيادة الجنرال رئيس هيئة الاركان العامة كفاشتين ستكون من الأمور السهلة التي تعزز مواقع بوتين نصير المؤسسة العسكرية والأمنية في انتخابات الرئاسة المقبلة، وتفي بوعوده التي قطعها للضباط والجنود بتحسين أحوالهم المادية.
ولاقت المرحلة الثانية من هذه الاستراتيجية مقاومة في الدفاع عن غروزني، فتبددت هجمات القوات المتعاونة التي فرّت من المدينة ما اضطر المشاة الروس اقتحام العاصمة ومواجهة المقاتلين الشيشانيين المحصنين في المباني ما يجعل عملية اقتحامها أمراً مهلكا، فاضطروا مراراً الى التراجع الى خطوطهم الاولى تحت وطأة الخسائر الشديدة واستخدام نيران المدفعية والمروحيات الهجومية، فكانت تقصف المناطق المدنية بشكل عشوائي ووصل الأمر الى قصف المدينة بثلاثة صواريخ "سكود"، وهو ما رصده مركز مراقبة الفضاء الاميركي، الأمر الذي ادى الى سقوط ضحايا من المدنيين المحاصرين. وعكس أسلوب الكر والفر الذي اعتمده الروس تكتيكاً لتقليل حجم خسائرهم.
الاستراتيجية الشيشانية
إن اعتراف القيادة الروسية بأن قتالاً عنيفاً يدور في المدن والمناطق التي سبق أن أعلنت سيطرة القوات الروسية عليها، يلقي ظلالاً كثيفة من الشك على حقيقة ما تزعمه من سيطرة مطلقة ونهائية. فإصرار المقاتلين الشيشان على الدفاع حتى النهاية، يعني ضمنياً نجاح الاستراتيجية الشيشانية في توريط الروس في حرب استنزاف طويلة يشعر بها كل بيت في روسيا، وتجعل من الصعب على بوتين الزعم بأنه حقق انتصاراً في الشيشان، وتجبره في النهاية على الجلوس الى طاولة المفاوضات.
ولتحقيق هذه الأهداف وضع المقاتلون الشيشان استراتيجية ذات بعد دفاعي يتمثل في تحصين مواقعهم للصمود أطول فترة ممكنة، لذلك أعدّوا خطاً دفاعياً حصيناً آخر في المناطق الجبلية في الجنوب يصعب على الروس الوصول إليه إلا بخسائر جسيمة. هذا عن الجانب الدفاعي، اما عن الجانب التعرضي فإنه يستهدف تشتيت جهود الروس على كل جبهة الشيشان التي فتحوها، وذلك من خلال شن هجمات مضادة مستمرة ضد المواقع والمدن التي تظن القوات الروسية أنها آمنة، وزرع الكمائن المضادة للدبابات على طرق تحرك القوات المدرعة وقوافل الإمداد، وبذلك يمكن اجبار الروس على التحول من الهجوم الى الدفاع لتأمين طرق تحركاتهم، وبما يؤدي في النهاية الى تخفيف هجومهم على المدن والقرى. ووصل الأمر بالقيادة الروسية الى تخصيص قوات لفك الحصار الذي ضربه المقاتلون الشيشان على القوات الروسية الموجودة في المدن الست التي تعرضت لهجمات مضادة من قبل الشيشانيين في الاسبوع الثاني من كانون الثاني يناير، كذلك تخصيص قوات لمرافقة قوات الامداد التي تتعرض لكمائن الشيشان الذي يقطعون عليهم طرق تحركهم.
وينتهج المقاتلون الشيشان في معاركهم التعرضية تكتيكاً خاصاً يتمثل في إرسال انصارهم الى المدن والمناطق التي تحت سيطرة الروس. كما استخدم المقاتلون الشيشان في مناطق أخرى ملابس القوات الروسية للتسلل الى عمق المواقع وضربها. وبذلك أمكن لهم تدمير مركز قيادة الجنرال فلاديمير شامانوف الذي يشرف على الجناح الايمن من القوات الروسية. ومعظم الهجمات التي يشنها الشيشانيون تجري ليلاً، وتتم بواسطة مجموعات صغيرة من 10 -15 فرداً مسلحين بأسلحة خفيفة ومضادة للدبابات، كما يغيرون مواقعهم بسرعة حتى لا يتعرضون لنيران المدفعية والمروحيات عندما تستدعيها العناصر الروسية المهاجمة. لذلك تتركز الهجمات المضادة في اتجاه الجنوب ضد القوات الموجودة في المناطق الجبلية الواقعة هناك، بينما تستهدف الهجمات المضادة في أرغون فتح ثغرة تسمح بوصول الإمداد والمقاتلين من جورجيا.
الدروس السابقة
يحاول الجيش الروسي الاستفادة من دروس هزيمته في الحرب الأولى 1994 - 1996 حين استولى على معظم اراضي الشيشان تقريباً، ثم أجبر على الانسحاب منها. وأبرز هذه الدروس تشكيل طليعة الهجوم من قوات النخبة الاكبر حجماً، وتجنب التورط في حرب جبلية او تضاريس وعرة او مناطق سكنية. وعلى رغم هذا الحرص على استيعاب دروس الماضي، يبدو أن الروس لم يستوعبوا أهم هذه الدروس، وهو استحالة قهر شعب بأكمله.
وكان وزير الدفاع الروسي ايغور سير غييف تعهد بأن المقاتلين الشيشان لن يُسمح لهم بشن هجمات مضادة، وأوضح القادة الروس بأن قواتهم ستشدد قبضتها على المدن والقرى التي تخضع لسيطرتها، وأن عمليات تطهير ستشمل من الآن البحث عن الاسلحة في كل بيت. وإذا تناولنا هذه الجزئية من النيات الروسية بالتحليل فسنجد انها تعني التحول من الهجوم الرئيسي الى ما يمكن أن يطلق عليه الدفاع النشط، في معنى تخصيص قوات روسية لتعزيز الدفاعات عن المدن والقرى والمناطق الواقعة تحت سيطرتها، إضافة إلى قوات اخرى تقوم بمهمات أمنية بحثاً عن الاسلحة وعناصر المقاومة في العاصمة إلى جانب حجم ثالث من القوات الروسية ينبغي تخصيصها أيضاً لحماية قوافل الامداد المتحركة على الطرق الاستراتيجية في مواجهة الكمائن. ولا شك فيه أن مثل هذه الاجراءات الدفاعية والامنية ستكون على حساب استكمال مهمة الهجوم في باقي الاراضي الشيشانية لفرض السيطرة الروسية عليها، ما يعني إتاحة الفرصة للمقاتلين الشيشان في الاراضي غير الخاضعة لسيطرة الروس، لا سيما في الجنوب، لشن هجمات مضادة وعمليات إغارة ضد المواقع الروسية في المدن والأراضي التي تحتلها. وعليه أمام القيادة الروسية الزج بمزيد من القوات لا يقل عن 100 ألف ليصير حجم قواتها في الشيشان 250 ألفاً. وإذا كان تدبير هذا الحجم من القوات ليس مستحيلاً على روسيا، إلا أنه يتطلب منها تجهيز عدد كبير من القوات، ورفع مستواها القتالي لتصبح ذات استعداد دفاعي فاعل يؤهلها لخوض حرب طويلة، الأمر الذي يستتبع تخصيص موارد مالية اضافية لفترة طويلة تستنزف الاقتصاد الروسي المتهالك في وقت اثبتت العمليات خلال الشهور الأربعة الماضية أن هذه القوات تفتقر الى الكفاءة، إذ نجح المقاتلون في اختراقها وعملوا من داخلها.
ويتوقع، كما ذكر قائد سلاح الجو الروسي، ان تلجأ القوات الروسية الى استخدام ذخائر أشد فعالية ضد المقاتلين الشيشان، سواء في المدن او في الجبال، فقد هدد الجنرال اناتولي كورناكوف باللجوء الى اسلحة دمار خاصة لم تستخدم حتى الآن، ومنها القنابل الانشطارية، وأسلحة التفجير الحجمي V.D.W التي تفجر سحابة من الغاز تولد موجة من الضغط تصل الى 2.3 كغم/ سم2 وبما يكفي لتدمير حقول الألغام والمباني وحتى حظائر الطائرات المحصنة، ناهيك بالطبع عن ابادة البشر ومن امثلة هذه الذخائر القنابل الاميركية CBU-55، FAE - 2, 3LU-95, CBU-72. وليس مستبعداً أن يلجأ الروس إلى استخدام اسلحة الحرب الكيماوية لابادة القوات الشيشانية في المناطق التي لا يستطيع الروس الوصول إليها مثل الجبال الموجودة في الجنوب. وتم التمهيد اعلامياً لذلك باتهام القوات الشيشانية في المرحلة الماضية باستخدام قنابل كلور ونشادر.
إن سقوط غروزني لن يكون نهاية المعركة في هذه الحرب، على رغم أهمية مستقبل العاصمة على مسار الحرب بالنسبة للطرفين، لذلك يستعد المقاتلون إلى نقل المقاومة الى مواقع في الجبال تحوي مؤنهم التي تمكنهم من اتخاذها قواعد لشن سلسلة من عمليات الاغارة ضد الاهداف الروسية في إطار استراتيجية حرب العصابات بهدف إجبار القوات الروسية على الانسحاب، لأن نواياهم المقررة عدم الاستسلام مطلقاً.
ويتوقع أن ينشر المقاتلون غاراتهم على نطاق واسع لتشتيت جهود الروس بين المدن التي يحتلونها، أو على طرق تحرك إمداداتهم، أو في عمق مواقعهم، بهدف تطويقها وايقاع خسائر جسيمة لا تستطيع القيادة السياسية الروسية تحمل مسؤوليتها، ما يدفعها الى اتخاذ القرار الذي اتخذ في العام 1996.
ولتحقيق هذا الهدف، يتعين على المقاتلين الشيشان ان يعتمدوا اسلوب الكر والفر وتجنب المواجهات المباشرة لفترات طويلة مع القوات الروسية، ويتعين عليهم ايضا ان يفتحوا ثغرة في الحصار الروسي تسمح بوصول الامدادات والمقاتلين من جورجيا وغيرها من الدول المجاورة، وأن يكونوا مستعدين لشن حرب طويلة انطلاقاً من جورجيا وأذربيجان. وكشف تقرير للمخابرات الروسية النقاب عن تمركز اعداد كبيرة من القوات الشيشانية عالية التدريب داخل جورجيا، وأن اثنين من المروحيات تنقلان تعزيزات من الاسلحة والذخائر بانتظام الى صفوف المقاتلين الخلفية من جورجيا، كما تم في اذربيجان تجميع الاموال اللازمة للمجهود الحربي، لذلك من المتوقع ان تتضاعف اعداد المقاتلين الشيشان في الاشهر القليلة المقبلة بعد وصول متطوعين من دول آسيا الوسطي الاسلامية.
روسيا تنزلق
يذكر أن هيئة الاركان الروسية العامة كانت معارضة لهذه الحرب، كما كانت معارضة في السابق لعمليات 1994، ونصحت بعدم شنها، إلا أن القيادة السياسية في الكرملين ضربت برأيها عرض الحائط. وحاولت هيئة الاركان الاحجام عن دخول غروزني ولكن العكس هو ما حصل. لقد منح بوتين القادة الميدانيين سيطرة كاملة على العمليات العسكرية، وباتت قوات وزارة الداخلية وقوات حرس الحدود تتبع قيادة جبهة شمال القوقاز، وانتقلت إدارة الحرب إلى بوتين الذي يتلقى المشورة من وزارة الداخلية وجهاز الاستخبارات الذي كان يسيطر عليه سابقاً. ويؤيد وزير الدفاع سيرغييف بوتين في كل طموحاته السياسية لأن الانتصار سيعود على المؤسسة العسكرية الروسية بمكاسب.
ويؤكد المحللون العسكريون الروس على خطورة حرب الاستنزاف على خطة تطوير القوات المسلحة الروسية، وإمدادها بالأسلحة والذخائر والمعدات ذات التقنية العالية لتكون في مصاف القوات المسلحة في الدول الغربية أو قريباً منها. ناهيك بالطبع عما تعانيه القوات الروسية حالياًَ من شح الموارد حتى أن مرتبات الجنود لا تدفع في مواعيدها، كما توقفت برامج البحث والتطوير، كذلك برنامج تدمير الأسلحة الكيماوية الضخمة. وتأخر الوفاء بمتطلبات الاتفاق الذي وقعته روسيا، ويبدأ مفعوله عام 2008، عن موعده سنتين حتى الآن نتيجة عدم توافر 148 مليون دولار وهي كلفة تنفيذه.
قدرت الحكومة الروسية مبدئياً تكاليف هذه الحرب ب700 مليون دولار حتى نهاية عام 1999، فإن واقع الأمر تعدى هذا الرقم بقيمة الضعف حتى الآن. ويبدو أن تكاليف المرحلة المقبلة ستتعدى بليون دولار في موازنة عام 2000، كما قال وزير الضرائب السكندر بوشنيك.
ما زال أمام موسكو شهوراً إن لم يكن سنوات لتحكم قبضتها على مجمل الأراضي الشيشانية التي يحتمي فيها المقاتلون الشيشان، الأمر الذي سيدفع موسكو للبحث عن مصادر أخرى لتغطية نفقات هذه الحرب. لذلك ليس غريباًَ أن تطلب الحكومة من شركة "غازبروم" الروسية أن تدفع للخزانة 140 مليون دولار في نهاية عام 1999، كما أن هناك اقتراحات تدور حالياً لرفع قيمة الضرائب على صادرات النفط.
لا شك أن لهذه الحرب مردوداً سياسياً سلبياً على روسيا يهدد وحدتها من الأورال حتى فلاديفوستك، كما أن المآسي المترتبة على نزوح الآلاف من سكانها الى خارج مناطقهم سوف تحتاج من موسكو سنوات طويلة لكي تستطيع معالجة آثارها الخطيرة على الاستقرار في كل بلدان الاتحاد الروسي لا سيما شعوب القوقاز. ومن ثم فإن على المؤسسة العسكرية الروسية أن تدرك حقيقة المستنقع الخطير الذي انزلقت إليه روسيا، وأن ترفع شعار "لا أفغانستان ثانية سواء في الشيشان أو في أي منطقة أخرى في القوقاز".
* لواء ركن متقاعد، خبير استراتيجي مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.