قد يكون قدر النمسا ان تحتل في التاريخ وفي الوعي الغربيين موقعاً فريدا ملتبساً، وهي البلد الاوروبي الصغير الذي يكاد يكون على تخوم القارة إن لم يكن بالمعنى الجغرافي فأقله في ما يمثل كُنه "غربيتها"، والمطلّ على شرقها السلافي والبلقاني، الحامل لما يلتصق ب"الشرق" عادة من سمات العنف والاستبداد وبعض الهمجية، والواقع تبعاً لذلك على ابواب جحيم اخّاذ بقدر ما هو مرعب. فقد تعود تلك الفرادة وذلك اللبس الى ان النمسا هي، بمعنى من المعاني، الحدود الحقيقية للغرب، ويرجح لها ان تبقى كذلك مهما اتسع الاتحاد الاوروبي، شرقاً وجنوباً، في مقبل السنوات والعقود. وهي لذلك تكتسب ما للمواقع الحدودية من ازدواج في الوظيفة: فهي قلعة احتماء من المجهول والمغاير، او هي نقطة وتوق نحو رحب الآفاق: يتوقف ذلك على اللحظة التاريخية وما يشوبها من هواجس او ما يحفّ بها من اندفاع. لذلك كان على النمسا ان تضطلع في مسار الحداثة الغربية بدور متميز، فكان ان امدت تلك الحداثة ببعض اكثر وجوهها الثقافية والفكرية توهجاً، من فرويد الى روبير فون موزيل وكارل كراوس وسوى هؤلاء الكثيرين في مختلف مجالات الابداع، كما انه كان لها ان "انجبت" بعض افظع كوابيسها، بدءاً بأدولف هتلر، ذلك الذي ربما تشرّب في موطنه الاصلي، النمسا، القسط الاكبر من مشاعره العنصرية، ضد اليهود والغجر والبولنديين وسواهم، قبل ان يحولها الى تعاليم يدين بها حزبه النازي، والى سياسة دولة، بعد صعوده الى سدة الحكم في المانيا، مع ما كان لذلك من نتائج معلومة. لعل كل ذلك او بعضه، كان من بين الدوافع التي حدت بقادة الاتحاد الاوروبي، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي لم يحتفظ ربما من ديغوليته بالشيء الكثير سوى العداء المكين والمستحكم حيال النازية، الى ردة الفعل القوية التي عبّروا عنها ما ان اتضح ان اشراك يورغ هايدر وحزب "الحرية" الذي يتزعمه الكاره للاغراب، والذي لا يخفي اعجابه بهتلر في تصريحات له عديدة ادلى بها طوال السنوات الماضية في حكومة ائتلافية الى جانب "حزب الشعب" اليميني التقليدي، بات احتمالاً ماثلاً قائماً، لا بد من تسليط اشد الضغوط سعياً الى توقّي حدوثه. فقد شعرت اوروبا بأن النمسا في صدد وضعها في مواجهة ازمة جدية، كما سبق لها ان فعلت غير مرة في تاريخها الحديث، سواء عندما اغتال بعض البلقانيين دوقاً نمسوياً في العقد الثاني من القرن الماضي، فكان ذلك ايذاناً بالحرب الكونية الاولى، او عندما عمد هتلر الى ضم النمسا في ثلاثينات القرن الماضي في ما عُرف بال"انشلوس"، وهو ما اقبل عليه النمسويون آنذاك بحماس شديد نزع عنهم صفة الضحية، فكان ذلك بداية التوسع النازي. وهذا افضى بدوره بعد سنوات قليلة من ذلك الى نشوب الحرب العالمية الثانية. بطبيعة الحال قد لا تكون اوروبا، مع الحالة النمسوية الراهنة، في مواجهة مخاطر من ذلك القبيل. فيورغ هايدر، مها بلغ به التطرف في الاقوال والمواقف، يبقى اقرب الى البلاي بوي ذي التوق المحلي، منه الى القائد الجماهيري الذي يكهرب الجموع، على ما كانت حال قدوته ومناط اعجابه ادولف هتلر. كما ان اوضاع القارة، وهي حالياً تنعم بأسباب الرخاء والاستقرار على نحو ربما لم يسبق لها ان حققته في تاريخها، لا تحمل من مظاهر التأزم ما من شأنه ان يوفر لهايدر ولحزبه ولأفكاره مناخ الاستشراء والاستفحال. ولعل ذلك ما دفع العديدين الى تصوير الانشغال الاوروبي بما تشهده النمسا من تطورات على انه من طبيعة اخلاقية ومعنوية بالدرجة الاولى، اي ان قادة الاتحاد الاوروبي انهم هالهم بالأساس ان تسلم النمسا زمام امرها، وإن جزئياً وفي اطار ائتلافي، الى حزب يجهر بتطرفه وبعنصريته، منتهكة بذلك القيم المؤسسة لاوروبا الحديثة، اوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، اي قيم حقوق الانسان وكرامته ونبذ العنصرية. واذا كانت بلدان الاتحاد قد خاضت حرباً ضد ديكتاتور صربيا ميلوشيفيتش، عللتها بالدفاع عن مثل تلك القيم، فهي قد لا تقوى على تحمّل ان يصل حزب يتنكر لها على ذلك النحو السافر الى المشاركة في حكم بلد عضو، ناجز العضوية، في اتحادها ذاك. غير ان نظرة اكثر تفحصاً ربما اوحت بأن صحة تلك الاعتبارات قد لا تكون الا جزئية، وان قضية هايدر ربما تعدت تلك الجوانب الاخلاقية، على اهميتها، لتنذر بمخاطر اكثر سياسية واقل محلية. صحيح انه من المستبعد لزعيم المتطرفين النمسويين ان يتحول الى فوهرر جديد يزرع الرعب والدمار في اوروبا ويؤلّب من حوله فاشيي القارة العجوز ونازييها، لكنه مع ذلك قد يمثل ظاهرة قابلة لأن تتكرر موضعياً في اكثر من بلد اوروبي غربي. ذاك ان هايدر، ومن ماثله هنا وهناك في عدد من بلدان القارة، قد لا يكونون مجرد رجع صدى لفاشية حقبة ما بين الحربين، او يعبرون عن حنين، قد يكون موقتاً، الى ديناصورات ايديولوجية ولى زمانها الى غير رجعة وما عاد هذا العصر يتسع لها. بل يبدو انهم على العكس من ذلك، حاملو نزعة تطرف متجددة، تستند الى قواعد سوسيولوجية تبدو على قدر من ثبات، وقد تكون مرشحة، تبعاً لذلك، الى بعض مستقبلية. فالتطرف اليميني الجديد، على عكس سابقه التاريخي وان ردد بعض مقولاته لا يستشري في اوساط ضحايا الرأسمالية ومن ادت بهم ازماتها الى التهميش، بل في بعض اكثر مناطق اوروبا ثراء ورخاء وتقدماً اقتصادياً. وقد لاحظ بعض المراقبين أن تلك المناطق انما هي تلك الممتدة وفق محور يتبع سلسلة جبال الألب عبر اوروبا، اي الى جانب النمسا، منطقة اللومبارديا في شمال ايطاليا وهذه شهدت خلال السنوات الماضية بروز "الرابطة الشمالية" وسويسرا وهذه ايضاً شهدت انتخاباتها الاخيرة، قبل اشهر، ظهور حركة متطرفة قوية والى حد ما منطقة السافوي الفرنسية. وكل تلك مناطق تجمع، الى سماتها الجبلية وما قد تستتبعه من تراث من المنعة ومن الاستغلاق على الاغراب، ازدهاراً اقتصادياً غذى لدى اهلها مخاوف من ان يأتي مَن يزاحمهم عليه. وهؤلاء قد يجدون في ظاهرة هايدر، سابقة مشجعة، قد تتخطى النمسا لتمثل خطوة اولى نحو اسباغ الشرعية على حركات التطرف التي يرون أنها تمثلهم، وتستوي حصناً لهم في مواجهة دولهم او اوروبا وفضائها المفتوح، او ما من شأنه ان ينشأ عن العولمة من تداعيات لا يرغبون فيها. وهكذا، فان الاتحاد الاوروبي يبدو، مع الحالة النمسوية، في مواجهة تهديد كبير، من طبيعة سياسية، محمّل ببذور الاضطراب والتأزم، بما قد يفوق الهواجس المعنوية والاخلاقية بمفردها. وتلك المخاطر يبدو أن القارة العجوز، على الاقل في ما يتعلق بوضع كالنمسوي، لا تملك وسائل مواجهته. فنصوصها التأسيسية لا تحتوي بنوداً تتعلق بمعالجة هذا الضرب من الاشكالات، من قبيل فصل احد البلدان من عضوية الاتحاد في صورة خرق مبادئه ومعاييره. اما الضغوط، فقد برهنت الازمة النمسوية الاخيرة على مدى محدوديتها، طالما ان البلد المعني يمتلك الاسباب القانونية لافشالها من خلال صلاحية التصويت التي يتمتع بها، مثله في ذلك مثل بقية الاعضاء، والتي تخوله القدرة على عرقلة مؤسسات الاتحاد ان جُندت ضده او اتخذت من القرارات ما لا يروق له. لقد قيل في شأن الازمة النمسوية الاخيرة انها آذنت بولادة اوروبا ككيان سياسي لا توقفه اعتبارات السيادة الوطنية إن تناقضت مع مثله العليا. وذلك صحيح لكن فقط على صعيد نوايا دونها والتحول الى واقع ناجز جهود كبيرة وأمد قد يطول بعض الشيء.