منتصف شهر تشرين الاول اكتوبر عام 1980، شهدت اجتماعات المجلس الوزاري المصغّر في اسرائيل، نقاشاً صاخباً أثاره سؤال رئيس الوزراء مناحيم بيغن حول تنفيذ عملية تدمير المفاعل النووي العراقي. بعد شرح مستفيض قدمه رئيس الأركان رافائيل ايتان عن المخاطر الامنية التي ستواجهها اسرائيل في حال توصل العراق الى امتلاك السلاح النووي، طلب بيغن من الاعضاء اتخاذ القرار المتعلق باقتراحه. وتحفظ ييغال يادين ويوسف بيرغ وسيمحا أهريخ على الخطة العسكرية لاعتقادهم بأن ردود الفعل ستخرج أنور السادات وتوحد الدول العربية ضد اسرائيل وتخلق شرخاً مع الادارة الاميركية. وتحاشياً للصدام بهذه الموانع، عرض بعض الوزراء خطة بديلة تقضي بتعطيل برنامج المفاعل النووي عن طريق ممارسة ضغوط سياسية على فرنسا، باعتبارها تمثّل مصدر التجهيزات والخبرات. ولما شعر مناحيم بيغن بأن جو الحذر والتردد بدأ يطغى على الاجتماع، استعان بالهولوكست في خطاب الدفاع عن خطته بهدف تغيير مواقف الوزراء. قال: "ان المجازر الجماعية التي تعرض لها اليهود يجب ان تبقى المُحرّض الخفي الذي يدفعنا لاتخاذ مبادرات تعتمد على ضرورة استخدام الضربات الوقائية. ولو ان بريطانياوفرنسا ثابرتا بعد المحاولتين الفاشلتين لاغتيال هتلر 1938 و1939 على استئناف عمليات الاغتيال بإصرار وعناد، لكان موت الفوهرر أنقذ اليهود من افران الغاز، ووفّر على البشرية ملايين الضحايا. ان الشعب اليهودي تعرض في الماضي للهلاك، اما في حال حصول العراق على القنبلة النووية، فإن دولة اسرائيل مُعرّضة للإبادة. لذلك يجب ان نتعلم من الاخطاء التي ارتكبتها اوروبا عندما تصوّر زعماؤها ان النازية لا تمثل خطراً حقيقياً على انظمتها. ولهذا أرى ان الضرورات الامنية تفرض علينا استباق الامور، بغض النظر عن الثمن السياسي الذي سندفعه" نصّ الخطاب في كتاب: "دقيقتان فوق بغداد". وتقرر في تلك الجلسة اعتماد خطة الضربة الوقائية، على ان يُترك موضوع التوقيت الى رئاسة الاركان التي أمرت بتنفيذ العملية في 7 حزيران يونيو 1981. في ضوء هذه السابقة، قررت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة التعامل مع الاخطار الامنية بأسلوب الردع الوقائي. من هنا يمكن فهم حملة التطويق والتخويف التي شنّتها اسرائيل ضد يورغ هايدر باعتباره يمثّل نواة خطر محتمل من الافضل مجابهته واسقاطه قبل ان يتسع نفوذه ويقوى تياره، خصوصاً وان النمسا كانت دائماً تمثل لغزاً مبهماً بالنسبة ليهود العالم لكونها اطلقت اشهر رموز المتناقضات خلال هذا القرن: فمن تيودور هرتزل، صاحب فكرة الوطن القومي اليهودي… الى ادولف هتلر، منفّذ المجازر الجماعية وحملة الإبادة "الهولوكوست". ومن سيغموند فرويد، مؤسس علم التحليل النفسي… الى كورت فالدهايم، المتهم بالاشتراك في عمليات الاضطهاد، والمسوّق لقرار "الصهيونية مُدانة بالعنصرية" في الجمعية العامة. ومن الاديب العالمي كارل كراوس… الى المستشار اليهودي الاصل برونو كرايسكي الذي اتهم غولدا مائير بأنها اضطهدته بانتقاداتها اللاذعة كالنازيين. ويرجع المؤرخون جذور هذه الظاهرة الى اسباب تاريخية وجغرافية وسياسية تشابكت وتداخلت لتولد المزاج النمسوي الخاص. ذلك ان هذه الدولة الصغيرة برقعتها وعدد سكانها لا تستطيع ان تنسى انها كانت جزءاً من امبراطورية كبرى انسلخت عن شطرها الآخر بعد الحرب العالمية الاولى. ولهذا اختارت الاتحاد مع المانيا عام 1938 لكي تعوّض بالانتماء الى دولة كبرى عن الفراغ الذي أحدثه انسلاخها عن هنغاريا. وبسبب اهميتها الجغرافية، اتفقت الدول الكبرى على تحييدها واعتبارها العازل بين عالمين ونظامين وكتلتين. ولقد وُصفت ب"الاوسموز" لانها كانت تنضح بالتيارات العقائدية المتباينة التي تهبّ عليها من يوغوسلافيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا والمانياوايطاليا. وكان من الطبيعي ان يتعرض حكّام النمسا لضغوط دولية مختلفة بهدف استمالتهم او ارغامهم على تغيير مواقفهم. وهذا ما قاومه المستشار برونو كرايسكي عندما حاولت اسرائيل تعطيل دوره التفاوضي لأنه في نظرها، كان منحازاً ومتعاطفاً مع الفلسطينيين. بل هذا ما اختبره امين عام الاممالمتحدة الاسبق كورت فالدهايم بعد دعمه للقرار 425 المتعلق بانسحاب اسرائيل الفوري من جنوبلبنان. ولعل تأييده للقرار الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية كان يمثل الخطيئة المميتة بالنسبة لاسرائيل. لذلك نظّمت ضده حملة تبنتها واشنطن أدت الى اخراج ماضيه من أدراج الحرب العالمية الثانية. واكتشفت لجان التحقيق بعد نصف عام تقريباً ان فالدهايم كان ضابطاً في الجيش الالماني النازي، ومسؤولاً عن ترحيل عدد كبير من اليهود واليوغوسلاف. لكن هذه التهمة لم تمنعه من الوصول الى سدّة الرئاسة في النمسا، كما لم تمنع الشعب بغالبية سبعين في المئة من مساندته واعلان براءته من التهمة التي أُلصقت به. وعندما هددت دول الاتحاد الاوروبي بمعاقبة الحكومة النمسوية بسبب ضمّها "حزب الحرية"، اعترض فالدهايم على قرار العزل، وقال انه ليس من حق الدول الاجنبية تحديد تركيبة الحكومة الائتلافية، ولا هي في وضع يسمح لها بالاعتراض على رغبة الناخبين في اختيار ممثليهم. وكان الدكتور فالدهايم في دفاعه عن هايدر انما يدافع عن ماضيه الذي تحاسبه عليه حتى الولاياتالمتحدة المانعة دخوله الى اراضيها. واعتبر ان حملة الابتزاز التي انفجرت ضده عام 1988، قد تجددت بطريقة مماثلة وذلك بهدف ارغام "حزب الحرية" على الانسحاب من الحكومة. الدولة الاسرائيلية فوجئت بنتائج الانتخابات الاخيرة لاعتقادها بأنها نجحت في تثبيت علاقات متينة مع فيينا عقب نهاية عهد فالدهايم عام 1992. ولقد تضاعف حجم المفاجأة لان الانقلاب السياسي الاخير جاء بعد ست سنوات من العمل المشترك الرامي الى تنظيف الآثار الانتخابية التي خلفها كل من كرايسكي وفالدهايم. ورأت اسرائيل في الخطاب الذي ألقاه المستشار السابق فرانتس فرانتسكي في الجامعة العبرية في القدس عام 1993 مدخلاً لاعادة صوغ علاقات ثابتة لا تتأثر بالماضي. خصوصاً وان فرانتسكي اعترف بالذنب الجماعي الذي اقترفته بلاده بحق اليهود. ثم كرر المستشار فيكتور كليما هذا الاعتراف خلال زيارة نتانياهو لفيينا خريف 1997. لكن ظهور زعيم يميني مثل يورغ هايدر قَلَبَ موازين المصالحة التاريخية، ومحا بمواقفه المتطرفة ست سنوات من الغزل السياسي المتواصل بين الدولتين. وبسبب خبرته الشخصية ومعرفته العميقة بمزاج الشعب النمسوي، طلب زعيم الطائفة اليهودية في فيينا أرييل موتسيكانت، من الحكومة الاسرائيلية توخي الحذر في تعاطيها مع الشأن الداخلي النمسوي. ودعا السياسيين الاسرائيليين ألا يسارعوا في تعميم أمر خطير لأن هايدر ليس نازياً وليس من المعادين للسامية. وتمنى على الوزير ديفيد ليفي ألا يستخدم لغة التهديد والعزل لأن مثل هذه اللغة زاد من شعبية فالدهايم في السابق. يجمع المحللون على القول بأن قرار العزل والمقاطعة الذي اتخذته دول الاتحاد الاوروبي الاربع عشرة، لم يكن موجهاً ضد الحكومة النمسوية فقط، بل ضد التيارات اليمينية المتنامية في سويسراوالمانياوفرنسا والدنمارك وبلجيكيا وايطاليا. صحيح ان هذه التيارات المتطرفة تهدد المبادئ التي التزمتها المجموعة الاوروبية… ولكن الصحيح ايضاً ان "حزب الحرية" فاز بالاقتراع الحر، تماماً كما ينصّ أحد أهم بنود معاهدة الاتحاد. اي البند الذي يدعو الى الأخذ بمبادئ الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الانسان. ويقول ايهود باراك ان هتلر وصل الى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ولهذا يجب اسقاط امثاله قبل ان ينتهكوا بتطرفهم وعنصريتهم القيم التي انتهكها هتلر وموسوليني. ومع ان هايدر اعترف في مقابلة اجراها معه تلفزيون "هيئة الاذاعة البريطانية" بأن معارضيه السياسيين حوّروا تصريحاته بشأن الإشادة ببعض أوجه النظام الهتلري… إلا ان الحكومة الاسرائيلية اعتبرت تراجعه مرحلة تكتيكية لا تغيّر في استراتيجية حزبه. وهي ترى انه يسعى الى ردّ الاعتبار الى والديه اللذين اضطهدا بعد الحرب بسبب انضمامهما الى الحزب النازي. مهما تباينت الاسباب والدوافع التي انتجت هذا التيار اليميني المتطرف، فإن الاختلاف حول مدى تهديده لمؤسسات الاتحاد الاوروبي يختلف بالنسبة لنظرة كل دولة. انما هناك شبه اجماع على ان هايدر في النمسا 52 مقعداً من اجمالي 183 وكريستوف بلوخر في سويسرا 44 مقعداً من اجمالي 200 يمثلان رموز النازية الجديدة المطلّة برأسها من تحت يافطة اللاسامية ومعاداة المهاجرين والغرباء. ومع ان اليهود في النمسا لا يزيد عددهم على 12 ألف نسمة… والعمال الاجانب لا يتعدى عددهم 750 الف مهاجر، الا ان الخوف من طغيان الغرباء تفاقم بعد ان واصل الاتحاد الاوروبي زحفه شرقاً وأدخل اقتصاده في طاحونة العولمة. وفي ظل هذا الوضع الاقتصادي - الاجتماعي المتغير، بدأ الخطاب السياسي، القومي، العنصري الشوفيني يجد الصدى المستحب لدى المجموعات المهددة في أرزاقها واعمالها. ومع ان موجة السخط التي أطلقها في فرنسا جان - ماري لوبن قد تراجعت حدتها، الا ان خليفته في "الجبهة الوطنية" ما زال يستقطب شريحة من المواطنين المطالبين بطرد ثلاثة ملايين مهاجر غالبيتهم من دول افريقيا الشمالية. وعلى انقاض حركة موسوليني ولد في ايطاليا تياران يعملان على احياء الفاشية، الاول بقيادة جيانفرانكو فيني زعيم "حزب الاتحاد" الذي حصل في الانتخابات على ما نسبته 14 في المئة من اجمالي الاصوات، والثاني اومبرتو بوسي المعروف بدعوته الانفصالية عن الاتحاد الاوروبي، والمُعجب بصلابة ومقاومة الرئيس اليوغوسلافي ميلوشيفيتش. اما في المانيا فإن المليونير غرهارد فراي استطاع ان يشق طريقه من حيث انطلق هتلر، اي من ميونيخ، ليحصل حزبه اتحاد الشعب الالماني على خمسة في المئة من الاصوات في انتخابات محلية، علماً بأنه نال 13 في المئة خلال الدورة السابقة. ومن المفارقات الملفتة ان البلدان الاسكندنافية بدأت هي الاخرى تستخدم لغة الانتقام ضد المهاجرين، خصوصاً في النروج حيث فاز "حزب التقدم" ب25 مقعداً، بينما حصل "حزب الشعب الدنماركي" على 13 مقعداً. السؤال المطروح في الاتحاد الاوروبي يتناول الازمة النمسوية كظاهرة تحمل في ثناياها بذور الاضطراب، وكحركة متطرفة تمنع توسيع الاتحاد وترسيخ مؤسساته. وهذا السؤال يقود الى استكشاف الدوافع الخفية وراء مخاوف اليهود في حين يعتبرون مواطنين دائمين لا غرباء طارئين. الجواب على هذا السؤال المحيّر اختصره كريستوف بلوخر، زعيم "حزب الشعب" السويسري الذي رفع شعار رفض دفع التعويضات لضحايا الهولوكوست، لأن "المؤتمر اليهودي العالمي" يشن حملة ابتزاز ضد المصارف السويسرية. وكان من نتيجة التهديد الاميركي - الاسرائيلي ان وافقت الحكومة السويسرية على دفع 1.2 بليون دولار تعويضاً لاصحاب الحسابات المهملة التي تدّعي عائلات يهودية انها وضعتها في حسابات مُرقّمة قبل الحرب. ومع ان المستشار النمسوي السابق فيكتور كليما اعترف بالذنب الجماعي الذي اقترفته بلاده بحق اليهود، الا ان هايدر يرفض الرضوخ لابتزاز "المؤتمر اليهودي العالمي" الذي هدد المصارف والشركات بالمقاطعة اذا لم تدفع التعويضات التي يقررها المحامون الاميركيون اليهود. ويحتج النمسويون على هذه الوقاحة لأن النمسا لم تكن دولة مستقلة دستورياً خلال العهد النازي. ومع ان الوضع الاقتصادي السيئ في المانيا لا يسمح بدفع تعويضات جديدة لضحايا "الهولوكست" الا ان اسرائيل قدمت فاتورة جديدة بقيمة 2.5 بليون دولار تعويضاً لما سمّته بضحايا السخرة من العمال اليهود الذين استخدمتهم المصانع والشركات الالمانية خلال الحرب. هذا طبعاً اضافة الى 60 بليون دولار قدمتها المانيا منذ عام 1951 الى اسرائيل كتعويض لضحايا "الهولوكوست". يقول وزير خارجية اسرائيل في حملته ضد صعود الاحزاب اليمينية ان على دول الاتحاد الاوروبي اتخاذ الاجراءات القصوى لمنع استنهاض النازية بحلة جديدة. وقال ايضاً ان "جوهر دولة اسرائيل يقوم على عدم نسيان الماضي… وعدم السماح لغيرنا بالنسيان". وعلى هذا المنطق يردّ البروفسور ادوارد سعيد بأنه من واجب العالم ان يتذكر دائماً اضطهاد اليهود… ولكنه يجب ان لا ينسى دائماً اضطهاد اسرائيل لملايين الفلسطينيين الذين سلبت أرضهم وشرّدتهم!! * كاتب وصحافي لبناني