بعد تصاعد مثابر في عمليات المقاومة اللبنانية وتراكم في الخسائر الاسرائيلية، اضطرت الحكومة الاسرائيلية أخيراً الى تقديم مبادرة للانسحاب من لبنان من طرف واحد بشروط أمنية هي ضمانات لبنانية لأمن الحدود الشمالية لاسرائيل بعد الانسحاب، بما في ذلك استيعاب وحدات "جيش لبنانالجنوبي" العميل ضمن الجيش اللبناني. وكانت اسرائيل في الماضي تشترط للانسحاب من لبنان تحقيق السلام معه، والجديد في الأمر هو "تنازل" عن السلام الكامل والاكتفاء بترتيبات أمنية. وهذا ليس تنازلاً بل يتوافق مع موقف ليكود غير المتحمس لاتفاقات السلام التطبيعية مع العرب، والذي يفضل ايديولوجياً الضمانات الأمنية خلف الستار الحديد على السلام الدافئ أو غير الدافئ مع العرب، خصوصاً ان للسلام على "الجبهة الشمالية" ثمناً هو الانسحاب الكامب من هضبة الجولان. وليكود، الذي أعيدت في فترة حكمه سيناء كاملة للسيادة المصرية، يدرك أفضل من غيره من الأحزاب الاسرائيلية ان سورية لا يمكن ان تقبل بأقل مما استرجعته مصر مقابل السلام: عودة السيادة الكاملة على كل ذرة تراب احتلت من أراضيها. ويتساءل بعض العرب عن كنه المبادرة الاسرائيلية الأخيرة بقبول قرار مجلس الأمن الرقم 425 باضافة شروط أمنية اسرائيلية. والقرار كما هو معروف ينص على انسحاب غير مشروط من جنوبلبنان، فهل الموضوع مجرد لعبة اسرائيلية أو فخ أو مؤامرة، ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ والرأي العام العربي يحب هذا النوع من الأسئلة. لا مكان لمفاجأة عربية ازاء هذه المبادرة الاسرائيلية. فمنذ وصول اليمين الى سدة الحكم في اسرائيل وهو يطلق تصريحات على لسان وزيري الدفاع والخارجية تشير الى الاستعداد للانسحاب من طرف واحد. وحسمت المؤسسة الاسرائيلية موقفها برفض الانسحاب غير المشروط لأنه يعني الاعتراف بهزيمة عسكرية ساحقة، في حين ان الموضوع ليس هزيمة عسكرية بل عدم استعداد المجتمع الاسرائيلي لدفع ثمن الوجود في لبنان، خصوصاً ان "الحزام الأمني" باللغة الاسرائيلية أصبح يشكل عبئاً أمنياً. من هنا جاءت المبادرة الاسرائيلية التي تربط الانسحاب بضمانات أمنية. والهدف واضح، المقاومة اللبنانية تتصاعد والاحتجاج الاسرائيلي على الوجود في لبنان يتناسب طردياً معها، وانتظار السلام يعني تحول الضغط على الأرض الى ضغط في المفاوضات من اجل الانسحاب الكامل من الجولان. لكن المبادرة الاسرائيلية ليست مخصصة للرأي العام الاسرائيلي وحده بهدف توجيه نقمته الى العرب الذين باتوا يرفضون عرضاً اسرائيلياً بالانسحاب، والذين "لا يسمحون لاسرائيل بالانسحاب"، بل ان المبادرة موجهة ايضاً الى الرأي العام اللبناني. فاسرائيل تدرك ان هناك رأياً عاماً شديد التعقيد في لبنان، وبالامكان استقطاب تعاطف بعض عناصره التي تسهل تعبئتها ضد المقاومة اللبنانية وسورية. وليس مهماً ان هذه العناصر في الرأي العام اللبناني لم تشارك في المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، وليس مهماً انها اضطرت في السنوات الأخيرة ان تبدي تضامناً معها كنوع من الوطنية اللبنانية، المهم انها تستطع ان تزايد الآن وطنياً على المقاومة الوطنية، لأن رفض المقاومة العرض الاسرائيلي يعني ان ولاءها ليس للوطن وحده، أو ليس هدف المقاومة الوطنية هو تحرير الوطن، فما الذي تبغيه المقاومة اللبنانية غير تحرير لبنان؟ تهدف اسرائيل من المبادرة الى الرد على الضغط السوري في الجنوب المحتل بضغط اسرائيلي على سورية في بيروت. اذاً المبادرة موجهة أولاً الى الرأي العام اللبناني والرأي العام الاسرائيلي. والهجمة الديبلوماسية عالمياً هي أمر ثانوي تحققه المبادرة، لأن الضغط الأساسي على اسرائيل للانسحاب من لبنان لا يأتي من أوروبا أو الولاياتالمتحدة وانما من المقاومة اللبنانية والرأي العام الاسرائيلي. وعلى رغم أهمية الرد على المبادرة ديبلوماسياً في أوروبا والولاياتالمتحدة، الا ان الأمر الأكثر أهمية هو الرد عليها على مستوى الرأي العام الاسرائيلي واللبناني، والطريق الأفضل للرد على هاتين الحلبتين ليس اللف والدوران بالصيغ الديبلوماسية. فالحلبة ليست أروقة الأممالمتحدة، وانما هي ساحات الشعوب المتضررة والتي تريد حلاً بالفعل. يجب اذاً النظر في عيني التحدي، أو "الامساك به من قرنيه" كما يقال في اللهجة السياسية الاسرائيلية. قد تكون سورية ولبنان في مأزق ديبلوماسي في باريس وفي واشنطن، وتضطران لشرح موقفهما الرافض المبادرة الاسرائيلية مطولاً، والبحث عن صيغ ديبلوماسية من اجل ذلك. اما على حلبة الصراع، فاسرائيل هي التي تواجه مأزقاً لذلك تتقدم بمبادرات، وهذا ما يعرفه اللبنانيون والاسرائيليون جيداً. لا حاجة اذاً للاختباء وراء الصيغ لدى مواجهة مبادرتها محلياً. يعرف اللبنانيون والاسرائيليون انه كلما نفذت عملية مقاومة ضد اسرائيل في الشريط المحتل، توجه أبواق الدعاية الاسرائيلية اتهاماً ضد سورية، لأن سورية قادرة على وقف العمليات لو توافرت لديها الارادة. لماذا تتهم سورية بالحرب وتستثنى عند تقديم المبادرات السلمية، أو يتم التصرف كأنها غير موجودة؟ كما يعرف اللبنانيون والاسرائيليون ان الأمن القومي السوري ليس حيادياً تجاه ما يجري في لبنان، وان الأمن القومي اللبناني ليس حيادياً تجاه ما يجري في سورية، وذلك منذ استقلال هذين البلدين مروراً بالحرب الأهلية وحرب عام 1982. وتدرك اسرائيل جيداً ان المبادرة غير ممكنة التحقيق اذا لم تتعاون سورية، كما تعلم جيداً ان ليس هناك سبب يدعو سورية الى التعاون. قدمت اسرائيل المبادرة وهي تدرك هذه الأمور، اذاً طرحت المبادرة الاسرائيلية بسوء نية. هذه أمور يجب ان تقال في هذه المرحلة بصرف النظر عن الآراء المختلفة في ما يتعلق بالعلاقة السورية - اللبنانية وتعقيداتها وسبل تطورها في المستقبل. فالواقع الحالي واضح لا لبس فيه، وكذلك تجاهل اسرائيل والمبادرة الاسرائيلية هذا الواقع. هذه أمور يمكن قولها في اسرائيل فكم بالحري في العالم العربي؟ كل هذا لا يعني ان المبادرة هي مجرد مؤامرة. هناك رغبة اسرائيلية حقيقية بالانسحاب من لبنان ناجمة عن ثمن الاحتلال الباهظ. ويتوقف على العرب الاستفادة من هذه الرغبة وذلك بطرح مبادرة مقابلة، والمقصود هو مبادرة "سورية" - لبنانية تطرح للمجتمع الاسرائيلي في شكل واضح لا يقبل التفسير على وجهين الطريق الى الانسحاب من لبنان كخطوة أولى فقط، ضمن خطة انسحاب شامل من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967. والطريق الى ذلك هو التفاوض على سبل تنفيذ هذه الخطة بالعودة الى المفاوضات السورية - الاسرائيلية واللبنانية - الاسرائيلية، والانطلاق من حيث توقفت هذه المفاوضات بناء على رغبة اسرائيلية في تمرير اتفاقات أوسلو لدى الرأي العام الاسرائيلي قبل الخوض في الانسحاب من الجولان. يقرّب السوريون واللبنانيون بهذه المبادرة الى أذهان الاسرائيليين انهم راغبون في السلام العادل والدائم والثابت بناء على شروط وأسس متفق عليها من دون ان يكون هناك مانع في ان يكون الانسحاب من لبنان أولاً، ولكن ضمن حل شامل. ومن الأفضل ان يرتبط هذا الحل أيضاً بحصول تقدم ملموس في المسار الفلسطيني، لأن تصرف اسرائيل على هذا المسار لا يدعو الى الثقة بنياتها، ولأن عدم حصول تقدم في الحل الدائم، خصوصاً في ما يتعلق بحل مسألة اللاجئين الفلسطينيين، يعني ان السلام مع سورية ولبنان غير ممكن فعلاً… هناك طرفان في اسرائيل يفضلان الانسحاب من لبنان حتى من دون ترتيبات أمنية ومن طرف واحد على انتظار مثل هذا الحل: 1 - أولئك الذين يريدون حلاً ولكن لا يريدون انتظاره ويفضلون الانسحاب فوراً وعدم الاستمرار في دفع الثمن. 2 - أوساط من اليمين المتطرف بقيادة شارون تفضل الانسحاب من طرف واحد من دون ترتيبات أمنية على سلام مع ترتيبات أمنية لكنه يشمل الانسحاب من الجولان فوراً. وأي اضافة على هذه العبارة تنقص ولا تزيد. اكاديمي عربي عضو الكنيست الاسرائيلية